استقلال السودان: رؤية من نيويورك … بقلم: د. أسامة عثمان

 


 

 

Ussama.osman@gmail.com

 

دعت اللجنة الثقافية للرابطة السودانية الأمريكية بنيويورك لندوة احتفالا بالذكرى الرابعة والخمسين لاستقلال السودان في دارها بمنطقة بروكلين وأدارها باقتدار الأخ الصادق الزين السكرتير الثقافي للرابطة ،وكان المتحدث الرئيسي فيها هو الدكتور أحمد عبد الفتاح المعروف بأحمد طراوة وهو طبيب سوداني وناشط وباحث مهتم بالشأن السوداني والأفريقي وله بحوث منشورة عن الأغنية السودانية وبحوث أخرى من أهمها مقال له قدمه في مؤتمر جمعية الدراسات السودانية الأمريكية في بيركلي في كلفورنيا في الرد على مقال مشهور للمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما عن الدولة الاستعمارية في أفريقيا ومشكلة دارفور نشرته النيويورك تايمز في عام 2007، وكانت جريدة الصحافة السودانية قد ترجمت ذلك المقال ونشرته بحسب إفادة الصحافي علاء الدين بشير الذي حضر الندوة وشارك فيها بالنقاش.

يرى الدكتور طراوة أن حديثه يأتي في إطار محاولات الفرصة الأخيرة لأن عام 2010 لن يكون عاما عاديا في السودان. ويؤكد على أن إحساسه الشخصي هو أن أحداثا عظاما ستقع في خلال هذا العام، وأن البلاد على حافة الهاوية وستدخل مرحلة الإجابة على السؤال الوجودي بأن تكون أو لا تكون، حيث أن الكيان الذي يضم الحيز الجغرافي المسمى "السودان" والذي ولد في لحظة تشكل مهمة تمثلت في تحالف عرب القواسمة العبدلاب مع المجموعة المستعربة المعروفة باسم الفونج في ما سماه بتحالف "جبل موية" قبل حوالي خمسمائة عام. ذلك الكيان الذي أضاف إليه محمد على باشا الكبير أجزاء أخرى من بينها الجزء الجنوبي ثم توالت الإضافة والإلحاق في دولة ونجت باشا لتضم دارفور في عام 1916، كآخر قطعة في الموزايكو المسمى الدولة السودانية. هذا الكيان المتشكّل عبر هذه الصيرورة التاريخية قد يبدأ انفراط عقده خلال العام الجاري، كيف يكون الانفراط وشكله ودينامكيته هذا ما ستجيب عليه أحداث عام 2010. ويتساءل الدكتور طراوة إن كان هذا المآل هل هو وليد ومسؤولية الدولة المستقلة التي نحتفل بعيد ميلادها الرابع والخمسين أم أن خللا بنيويا في التركيبة التي لم تكتمل كان لا بد أن يقود إلى هذا لمآل.

يشير طراوة أيضا إلى أن ما يعرف في العلوم السياسية بالنموذج الأوروبي الذي تمثل في تشكّل الأمة أولا ثم قيام الدولة ومؤسساتها لا ينطبق على الكيان السوداني الذي جرت فيه محاولات لبناء الدولة قبل تشكّل الأمة، ويشير إلى ما كتبه معارضا أطروحة فوكوياما المشار إليها أعلاه والتي تتخلص في أن إقليم دارفور سينفصل لا محالة عن الكيان السوداني الذي هو كيان مصطنع ومركّب بشكل لا تلاحم فيه شأن الدولة التي نشأت بعد الاستعمار في أفريقيا. ويعترض الدكتور طراوة على هذا الطرح ويرى أن هنالك من آليات التلاحم التفصيلية التي لا يعرفها فوكوياما المتمركز في الحالة الأوروبية ومحاولة تطبيقها على التجارب الإفريقية عموما وتجربة السودان على وجه الخصوص.

ويشير أيضا إلى أن تجربة تنموية غير مسبوقة مثل تجربة مشروع الجزيرة الذي أقامه الاستعمار البريطاني لخدمة أهدافه الاستعمارية قد مثل عنصر استقطاب وانصهار لجميع العناصر في السودان ومن مختلف الأصقاع على الرغم من وجود بعض المجموعات في وضع هامشي من سكان «الكنابي» في مقابل أصحاب الحواشات ولكن هذه التجربة التي تواصلت في مختلف مراحل الحكم الوطني ليتم إجهاضها في عهد الحلقة الحالية من الحكم الوطني لتقع تصفية المشروع في مقابل نموذج التنمية الحالي المتمثل في البترول وبناء السدود وكلاهما لا يسهم في بناء الأمة.

ومضى الدكتور طراوة في مفاكرة بروكلين تلك لاستعراض مفصّل لحالة الانتكاس لمسيرة بناء الدولة في السودان مما قاد لحالة الأزمة  الشاملة وانسداد الأفق التي تعيشها البلاد في فجر الذكرى الرابعة والخمسين لاستقلالها بشكل يختلف عن كل ما عرفه أهل السودان منذ الاستقلال. وأشار إلى أنه على الرغم من الإعلان عن انتخابات عامة وصدور جدول قيامها لا يعرف معظم الناس حتى الآن  إن كانوا سيشاركون في الانتخابات أو لا يشاركون وهذا وضع غير مسبوق، حيث لم تتح للسودانيين فرصة لانتخابات حقيقية من قبل وترددوا في المشاركة فيها، ولقد تبين من بين جميع الحاضرين في القاعة أنه لم يتمكن غير شخص واحد من التسجيل للمشاركة في الانتخابات القادمة ربما بسبب عدم الحرص أو بسبب الشروط التعجيزية التي وضعت لتسجيل السودانيين في المهجر والتي أدت إلى تسجيل أقل من مئتي شخص في منطقة نيويورك الكبرى التي تضم ثلاث ولايات هي نيويورك ونيوجرسي وكاناتيكيت وبلغ جميع من سجلوا في أمريكا أقل من ألف شخص فقط من جالية يفوق تعدادها مئتي ألف مواطن سوداني.

ولقد خلص الدكتور طراوة إلى بعض المسارات التي قد يكون فيها المخرج من بينها حالة الإصرار لعدم العودة إلى الحرب التي يعلنها شريكا الحكم، وبشريات الحراك الذي وقع نهاية العام في شكل تظاهرات عبرت عن تطلعات شرائح متباينة ولكنها تتفق في البحث عن بديل عن ما هو راهن عن طريق المدافعة السلمية وآلياتها. كما أشار إلى أن الانتخابات التي قد تقوم أو لا تقوم واستمرارية حالة العجز الراهن حتى إذا قامت ربما تجعل المجتمع الدولي يخرج من تحت قبعته ما يكسر به حالة الجمود والعجز التام الذي تعيشه البلاد. ولفت النظر إلى ضرورة القيام بمحاولة قراءة نفسية لفهم مواقف سياسيين تقليدين كبار من أمثال السيد الصادق المهدي أو السيد محمد إبراهيم نقد حيث تدل تصريحات كل منهما على أنهما ليسا منزعجين من المسار الذي يلوح في الأفق لأنهما لا يعتقدان بأن الانفصال إذا وقع سيكون هو نهاية المطاف لأن الجنوب سيعود ليتحد بالشمال يوما. ولا يرى د. طراوة سببا لتوفر هذه القناعة واليقين لدى الرجلين لأنه يرى من تجارب الأمم أن الانفصال إذا وقع لن يعود الجنوب والشمال ليشكلا كيانا متحدا من جديد. وما على السيدين فيما يرى الدكتور طراوة، إن وقع الانفصال، غير  الانكفاء على  كيانهما الدنقلاوي الصغير لأن حبات العقد المنفرط لن يبقى فيها شيئ أكبر من ذلك.

ولقد عقّب بعض الحاضرين على النقاط التي أثارها المتحدث الرئيسي وكان من بين المعقّبين الأستاذ عثمان حميدة، الباحث في مجال حقوق الإنسان الزائر إلى نيويورك، الذي أشار إلى أن فشل النخب في دولة ما بعد الاستقلال في إقامة دولة مؤسسية ذات استمرارية، ويشترك في ذلك الفشل جميع أصحاب المشروعات يسارا ويمينا وأن أهل الإنقاذ قد دفعوا بمشروعات الفشل إلى نهايتها في تصوّرهم لشكل الدولة والحكم وما ينبغي أن يكون عليه أهل السودان فيما أسموه "المشروع الحضاري". وأكّد على أن فكرة إعادة صياغة الإنسان قد اصطدمت من قبل في تجارب أخرى، فمحاولة إعادة صياغة الإنسان السوداني لا تختلف عن محاولة صنع الإنسان الاشتراكي، ولقد فشلت هذه التجارب لمخالفتها للفطرة الإنسانية، وعليه فإن أية محاولة من الكيانات القديمة لاستبدال أهل الإنقاذ أو التحالف معهم هي عبارة عن إعادة إنتاج للازمة، والأفضل فيما يرى هو  إدارة حوار حقيقي يطرح الأسئلة الصعبة بين مكونات هذه النخب، بما فيها مجموعة الإنقاذ، لقراءة أسباب الفشل واستكناه آفاق الحلول.

ومضى الصِّحافي علاء الدين بشير في الاتجاه نفسه حيث أشار إلى أن نخب ما بعد الاستقلال قد عجزت في وضع إطار يستوعب السودان بكل مكوناته وفصلّت رؤيتها للوطن في ثوب يضيق برحابته وتنوعه وحاولت إدخال الجميع قسرا في ذلك الثوب الضيق مما جعلها تواجه المآزق الحالية. كما أشار إلى أن تسوية نيفاشا قد وضعت الأساس لتفكيك الدولة السودانية وإعادة تركيبها لتكوين سودان جديد ولكن البعض في نخبة الإنقاذ قد رأى في نيفاشا تجاوزا  للمقبول في إطار الدولة الاستعمارية الموروثة ورأى فيها مهددا للأمن القومي السوداني وفقا للتصور الذي قامت عليه الدولة بعد الاستقلال وبيتوا العزم على إجهاضها وتقويضها من خلال التطبيق لأنها قد فرضت عليهم من قوى خارجية واستشهد ببعض تصريحات ومواقف لنافذين من أهل الإنقاذ تدل على هذا الفهم. واستفسر المتحدث عن الإفصاح أكثر إن كانت إشارته إلى حل يخرج من قبعة المجتمع الدولي تقوم على معطيات معينة أم هي محض تخمين كما طلب منه إيضاحا أكثر في اختلافه مع أطروحة فوكوياما.

وعزا الدكتور هشام عثمان الأزمة إلى النظام التعليمي الذي ينتج فردا سودانيا مكابرا وذلك أس البلاء الذي يعطل القدرة على استنباط الحلول وينتج نخبة أنانية تتمحور حول ذاتها وتدمن الفشل. وأكد على ذلك أيضا السيد عثمان أبو جنة، نائب رئيس الرابطة، الذي أشار أيضا إلى وجود استعلاء لدى النخب قاد إلى قهر أو محاولة قهر مجموعات أخرى في المجتمع. ويرى أن من الأفضل الإقرار بذلك ومحاولة جبر الضرر عن طريق التمييز الإيجابي.

أما الفنان التشكيلي خالد كودي الذي يعمل محاضراً في إحدى كليات بوسطن فقد ركّز على أن الاستعلاء الديني الذي يمارسه المسلمون في السودان على غيرهم من أصحاب المعتقدات الأخرى هو الذي يحول دون التلاقي وأنه ما لم تتخلّص النخبة العربية الإسلامية من محاولات إقحام الدين في أمور الحكم والسياسة لن يستقيم الأمر في السودان، وأن "المشروع الحضاري" هو شكل من أشكال المشروعات الفاشية التي برزت وفشلت في تجارب أخرى. ولقد أسهم متداخلون آخرون بأفكار متفرقة إثراءً للنقاش أو بطرح تساؤلات على المتحدث الرئيسي.

وبهذه الندوة تستهل اللجنة الثقافية للرابطة السودانية بنيويورك برنامجا لندوات مماثلة بعد أن كان قد أقعدها عن ذلك الجدل العقيم الذي يصيب مجتمعات السودانيين في المهجر عن دور الجاليات والروابط وصلتها بالسفارات والفاصل بين ما هو ثقافي وما هو سياسي حيث يكون الحوار في معظم الأحيان انعكاسا لحالة الاحتقان التي يعيشها الوطن في الداخل. يرى بعض الناس أن على الجاليات والروابط الاهتمام بالشؤون الاجتماعية للأعضاء والابتعاد عن السياسة لأنها عنصر يفرّق بين الناس. ويعتقد البعض الآخر أن الرابطة أو الجالية هي انعكاس لما يجري في الوطن وإن كان الراهن السياسي مما يشغل الناس فلا بد لتجمعات السودانيين من تناوله وعدم الهروب منه بدعوى أن السياسة تفرّق بين الناس. ويرى آخرون أن الجالية هي بالضرورة صوت الوطن والوطن عندهم هو الحكومة القائمة وما لا يتفق مع رؤية الحكومة القائمة فهو بالضرورة ضد الوطن! وتبعا لهذا الفهم يرون أن أي نشاط يقوم به من يختلفون مع الحكومة هو "سياسة" ولا يتفق مع دستور الجاليات وما تقوم به وفود الحكومة أو الحزب الحاكم هو نشاط عادي من صميم عمل الجاليات. وفي اعتقادنا أن النجاح في إقامة برنامج اجتماعي وثقافي فعاّل ومفيد لمجموع السودانيين في المهجر يتناول شؤون الوطن في كلياتها يتوقّف على توفّر مجموعة من الأفراد أصحاب الخيال والمثابرة وهؤلاء قد تجدهم في مختلف مكونات الوجود السوداني في الخارج الرسمي منه والشعبي.

*نشر بجريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 5 يناير 2010

 

آراء