اغتيال وتمرد ومظاهرات (1/2): فصل من كتاب "طبيب من السودان" بقلم Leonard Bousfield ليونارد بوسفيلد ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لمعظم ما جاء في الفصل العاشر من كتاب الدكتور البريطاني ليونارد بوسفيلد "طبيب من السودان Sudan Doctor"، الذي نشر في عام 1954م من دار نشر Christopher Johnson. وتدور أحداث هذا الفصل عن أحداث حركة 1924م، من وجهة نظر الكاتب وقومه. وبحسب ما جاء في نعي له صدر في العاشر من مارس 1954م بالمجلة الطبية البريطانية، ولد ليونارد بوسفيلد في يوم 27 فبراير من عام 1876م في مدينة St Leonards-on-Sea في شرق اسيسك بإنجلترا، وتوفي في 25 فبراير من عام 1954م. تلقى بوسفيلد تعليمه الطبي في جامعة كمبردج، التي تخرج فيها عام 1903م، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الطب عام 1907م. أنتدب للعمل في الجيش المصري عام 1906م، وأرسل للخرطوم بعد عامين للقيام ببحث حول وباء الكالا زار (الداء الأسود) وطرق انتقاله وانتشاره. عاد بعد ذلك لبريطانيا ليتزوج، وليحصل على دبلوم الصحة العامة من إيرلندا. وفي عام 1912م التحق ببلدية الخرطوم للعمل كمفتش طبي (وصحي) لمديرية الخرطوم (بمدنها الثلاث) وتقاعد عن العمل في 1922م (ربما يكون هذا التاريخ خاطئا.). نال بوسفيلد إبان خدمته بالسودان أوسمة تشريفية من سلطان تركيا وملك مصر. الشكر موصول لدكتور محمد صادق جعفر لجلبه لي هذا الكتاب لترجمته. المترجم ************ **********
كان عام 1924م عاما حافلا بحوادث ومشاكل عديدة في السودان. فقد كانت العلاقات فيه بين بريطانيا العظمى ومصر تسير من سيء إلى أسوأ. وفي ذلك العام دأبت الحكومة المصرية بزعامة سعد زغلول على محاولة القيام بأمرين: الأول هو أن تُخرج القوات البريطانية من مصر، والثاني هو أن تنقض نظام الحكم الثنائي (البريطاني – المصري)، وأن تحل محله إدارة مصرية خالصة. وتم اكتشاف العديد من المهيجين المصريون الذين كانوا يجوبون مناطق السودان المختلفة من أجل بث جو يسوده التوتر ويعمه العنف. كانت أولى بوادر المشكلة قد بدأت في الظهور في السابع من أغسطس 1924م عندما كنت في إجازتي السنوية. قام يومها الطلاب الحربيون بالمدرسة العسكرية بالسير في موكب جابوا فيه شوارع الخرطوم وهم يحملون لافتات، وبدأوا في التظاهر والهتاف بشعارات مؤيدة لمحرض كانت الحكومة قد سجنته لإثارته للعصيان والفتنة. وعندما أرسلت الحكومة جنودا بريطانيين لنزع سلاح أولئك الطلاب الحربيين، هددهم الطلاب بأنهم سيطلقون عليهم النار. ثم عاد الطلاب أدراجهم لمبنى المدرسة الحربية، فحاصرهم هنالك جنود بريطانيون لفترة من الزمن وأجبروهم - أخيرا – على الاستسلام. وعقدت لاحقا محاكمات عسكرية للطلاب المتمردين قضت بسجن بعضهم، وسأشير لهؤلاء عندما أتناول أمر الشغب الذي أثير في السجن المدني. لم تكن تلك الحادثة في السجن المدني شديدة الخطورة – إذ لم يكن قد أشترك فيها سوى بعض الشباب الذي ضللهم دهماء الديماغوجيين – غير أنها اشارت إلى أي اتجاه ستهب الريح. وتم لاحقا سجن بعض المشاركين المدنيين في الشغب الذي ثار في ذلك السجن. وعندما عدت للسودان من إجازتي، وجدت أن الجو العام لم يكن يبشر بخير للإدارة (البريطانية) المستنيرة. ثم غدا الموقف فجأة سائبا ويفتقر للاستقرار، ويمكن أن يتغير في أي لحظة بُعَيدَ الاعتداء الجبان على حاكم عام السودان سير لي استاك يوم 18 نوفمبر 1924م، والذي أفضى لموته بعد وقت قصير. وقررت الحكومة البريطانية – وهي محقة – بأن الوقت قد حان للقيام بإجراء حازم ضد الحكومة المصرية، وفرض أصرم الشروط عليها. ولم تملك الحكومة المصرية إلا أن توافق على تلك الشروط بعد قليل من الاحتجاج والاعتراض. كان أحد تلك الشروط هو سحب جميع الضباط المصريين الذي كانوا يقومون بأعمال عسكرية خالصة، وكل القوات المصرية من السودان في خلال أربعة وعشرين ساعة. واستجابت لذلك الشرط جميع القوات المصرية عدا الكتيبة الأولى وقسم الأشغال العسكرية. فأحاطت على الفور مفارز من القوات البريطانية مزودة ببنادق رشاشة بتلك الكتيبة المصرية الأولى، وصوبت قوات بريطانية فوهات مدافعها نحو ثكناتها في الخرطوم بحري، وكانت جاهزة للاستخدام في حالة حدوث أي مظهر للشغب أو التمرد. وبعد أيام قليلة من الترقب القلق والحذر، قرر المصريون الالتزام بالأوامر وسحبوا كتيبتهم الأولى إلى مصر. وفي غضون تلك الفترة حدثت حوادث خطرة أقلقت الأمن والاستقرار، مما دعا قادة القوات البريطانية لإصدار أمر لكل منسوبيهم بحمل مسدساتهم المحشوة بالطلقات النارية في كل الأوقات ووضعها في حالة استعداد لإطلاق النار. وكان منظرا غريبا أن ترى الرجال يقبلون على حفلات التنس وهم يمتشقون أسلحتهم. وكان أغرب منه أن ترى أولئك الضباط يضعون مسدساتهم بجانب أطباقهم أثناء حفلات العشاء. وفي مصر كان هنالك عدد كبير من الجنود البريطانيين ينتظرون في محطة السكة حديد وصول القطار الذي سيحملهم للقاهرة عندما داهمتهم فجأةً أعداد كبيرة من الغوغاء العنيفين وقتلوهم جميعا عدا واحد منهم، نجا من الموت رغم الجروح الخطرة التي أصيب بها، بفضل شجاعة بائعة هوى. كان ذلك الجندي يقف بجانب تلك المرأة عندما داهم المصريون المهاجمون الجنود البريطانيين. ألقوه أرضا على الرصيف وبدأوا في طعنه، ولم ينقذه من الموت سوى ارتماء تلك المرأة فوقه. وفي تلك اللحظات وصل القطار، ففر أولئك الرعاع، وبذا نجا ذلك الجندي من الموت. وعندما بلغت أخبار تلك الحادثة المسؤولين بالقاهرة، جمع البريطانيون تبرعات لتلك المرأة الشجاعة فاقت المئة جنيها مصريا. ونصحها البريطاني الذي سلمها المبلغ أن تستثمره في عمل نافع يدر عليها دخلا سنويا ثابتا. غير أنها لم تأخذ بالنصيحة، وأنفقت المبلغ بأكمله في شراء الكثير من الحَلْيَ الفضية لتتزين بها. كانت الفضة في تلك الأيام شديدة الرخص، وكانت العاهرات يتحلين بالكثير منها في كل الأوقات تقريبا. لذا لا بد تكون تلك المرأة التي أنقذت حياة الجندي قد تميزت عن رفيقاتها في المهنة بتلك الحلي الإضافية. كل ما أتمناه ألا تُقتل تلك المرأة لاحقا لسلبها ما لديها من حَلْي فضية كثيرة. كان المصريون العاملون في "الأشغال العسكرية" من طبقة فقيرة، وكان لغزا محيرا أن آثر هؤلاء في البدء البقاء في السودان وعدم الأوبة إلى بلادهم مع بقية وحدات القوات المصرية. أرجح أن السبب في ذلك هو سوء معاملة الضباط المصريين لهم. وعندما سرت شائعة بين أولئك الجنود بأن آخر قطار يحمل جنود الكتيبة المصرية الأولى سيغادر محطة الخرطوم بحري، عمهم الذعر والفزع، ومضوا يتسابقون ويتدافعون نحو ذلك القطار رغم تنبيهات ضباطهم المحذرة. كنت راجعا بسيارتي من الخرطوم بحري. وعندما بلغت كبري النيل الأزرق رأيت أعدادا ضخمة من أولئك المصريين الرعاع وهم يهرولون متصارعين في الاتجاه المعاكس. تصورت أن تلك مظاهرة معادية لنا، فهممت بإخراج مسدسي، غير أني تنفست الصعداء بعد أن تقدمت قليلا في الكبرى وتبين لي أن أولئك هم جنود مصر في "الأشغال العسكرية" وهم يفرون في فزع وجنون للحاق بآخر قطار مغادر من محطة الخرطوم بحري. كان كل واحد منهم يحمل كل ما يمكن تخيله من ممتلكات شخصية، شملت العناقريب والمراتب والكراسي والأزيار والقدور والمقالي والبطاطين، وكل ما قد يخطر لك على بال. أوقفت سيارتي لأدعهم يمرون مسرعين. كانوا في هرولتهم العجولة يصطدمون برفاقهم وبسيارتي أيضا! بدا أنهم كانوا في حالة فزع مسعور. كان منظرا يبعث على الدهشة أن تراهم وهم يتخلصون من أي شيء أمامهم يتصورون أنه سيعيق مسيرة هروبهم. كنا ونحن نعرقل مسيرة فرارهم نقف في منتصف الكبرى نشاهد مجموعة رائعة من الأمتعة المنزلية. أما بقية الطريق، فقد تراكمت فوقه كمية هائلة من الأشياء التي تركها أصحابها، لدرجة أن سائقي كان كثيرا ما يضطر للخروج من السيارة لإزالة ما يسد الطريق من تلك الأشياء. لم ينتبه الجنود المصريون لوجودي قط، فقد كان مبلغ همهم أن يبلغوا محطة السكة حديد ببحري للحاق بما كانوا يظنون أنه آخر قطار متجه صوب مصر. لا بد أن الأهالي من السودانيين سيظفرون في ذلك اليوم بعدد كبير من الأمتعة الملقاة على شارع ذلك الكبرى. كان على المرء في تلك الأيام أن يكون على أهبة الاستعداد لوقوع أي حوادث سيئة، إذ أن الأخبار الآتية من مصر كانت تشير لوقوع حوادث فظيعة هناك. كان أحد المفتشين الإنجليز الذي يعملون في خدمة الحكومة المصرية قد أخبرني بأن جماعة من الفلاحيين المصريين ترصدوا له ليقتلوه، ولكنه نجا من قبضتهم في آخر دقيقة بالاختباء تحت كبري صغير يمر فوق قناة ري صغيرة. وفي أقل من أسبوعين عقب اغتيال سير لي استاك تمردت مفرزتان من الفوج (السوداني) الحادي عشر، وقامتا بالسير وهما مزودتان بالبنادق الآلية في شوارع الخرطوم. وتحصنتا بالقرب من المستشفى العسكري، واحتلتا مجرى (خور) الصرف العميق الذي يمر موازيا لمبنى المستشفى، ويفصلها عن كلية غردون وثكنات القوات البريطانية. قد لا يبدو تمرد مفرزتين أمرا خطيرا، ولكنه كان قد وقع في وقت حرج، وفي ظل وضع قابل للانفجار. وفوق هذا وذاك، كان المتمردون يؤملون في أن ينضم إليهم الجنود السودانيون والعرب الآخرون في الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، وأن يتلقوا دعما مصريا لتمردهم. ولحسن حظنا، لم يجد هؤلاء أي عون من المصريين، وإلا لكنا في وضع عسير حقا بسبب قلة عدد أفراد القوات البريطانية، دعك عن الخوف من أن ينضم لأولئك المتمردين 200,000 من الأهالي بالمدينة أملا في الحصول على غنائم. لم يكن المتمردون يفتقرون للحس العسكري السليم. فقد احتلوا أفضل موقع في المدينة من وجهة نظرهم، وأفلحوا في دق إسفين بين الإدارة المدنية البريطانية، ومقر الحامية البريطانية، وهي القوات العسكرية الوحيدة التي يمكن لنا الاعتماد عليها. وإن قدر لذلك التمرد أن يتمدد في المدينة، فإنه كان سيقضي دون ريب على كل أفراد الإدارة البريطانية بالمدينة. ومن المشكوك فيه جدا أن ينجوا منه أي فرد من أفراد القوات البريطانية. وضعت تلك الظروف اللواء هيدليستون (سير هيربرت هيدليستون لاحقا)، الذي عين بعد مقتل استاك حاكما عاما، في موقف شديد الصعوبة. كان اللواء منعزلا في "إدارة الحربية" بحسبانه القائد العام، ولم تكن له صلة أي مباشرة بالقوات الأكثر إخلاصا، التي يمكن له الاعتماد عليها. فقد كان في ذلك الوقت قائدا لكل القوات (البريطانية والمصرية والسودانية) في السودان، ولم يكن لديه فكرة واضحة عن مدى إخلاص تلك القوات. كان مريضا جدا في تلك الأيام، واستدعت حالته الصحية أن قرر الأطباء نقله بأعجل ما تيسر لإنجلترا. غير أنه أفلح في إدارة الأزمة بحنكة كبيرة ونشاط دائب وبعد نظر جعله يتخذ القرارات الصائبة، بل وشفى نفسه بنفسه. فما أن تم القضاء على التمرد حتى عاد في أكمل صحة وتمام عافية، ولم يستخدم تلك الإجازة المرضية! ولعل عمله غير الروتيني والإثارة التي جلبتها له أحداث تلك الأيام العصيبة قد فعلت بجسده وروحه ما لم تستطع الأدوية أو الراحة المنزلية فعله. اقتحمت سرية صغيرة من المتمردين السودانيين بقيادة واحد من ضباطهم المستشفى العسكري المصري، ودخلوا مكتب النقيب كارلايل حيث كان يعمل مع طبيب سوري. أعلن لهم الضابط السوداني المتمرد ما نصه: "أنتم منذ الآن تحت قيد الاعتقال. لقد استولينا على المستشفى". قفز النقيب كارلايل من مقعده وصاح فيه: "ما الذي تعنيه؟ سيقبض عليك سريعا". ودخل في عراك مع الضابط السودان. وفي نهاية المطاف قام الجنود المتمردون بإطلاق النار عليه وعلى زميله السوري، فأردوهما قتيلين. وقتل في ذات المستشفى ضابط صف بريطاني وطبيب سوري آخر. أرسلت على وجه السرعة سرية بريطانية للمستشفى للتعامل مع الموقف، ولكنهم لم يجدوا أحدا من الجنود السودانيين بها. فتحركت القوة البريطانية إلى معسكر كان مخصصا جزئيا كمقر للضباط الأطباء المصريين، وبه مطعمهم. وعند مدخل ذلك المقر أصيب قائد تلك القوة البريطانية برصاصات قاتلة، وكان برتبة نقيب. وقتل أيضا معه بعض الجنود البريطانيين. وقبيل أيام قليلة من وقوع ذلك التمرد كانت قد صدرت الأوامر سرا لكل المسؤولين البريطانيين والأوربيين العاملين في حقول التجارة المختلفة بالتوجه إلى قصر الحاكم العام ومعهم كل أسلحتهم وذخيرتهم عند وقوع أي هبة خطيرة بالعاصمة. وفي يوم ذلك التمرد كنت مدعوا وزوجي لحفل تنس في الخرطوم بحري. واتفقنا أن نأخذ إلى هنالك الآنسة موور رئيسة الممرضات وممرضة أخرى من العاملات بالمستشفى المدني. وبعد أن ركبتا سيارتنا، توجهنا في شارع الخديوي (شارع الجامعة حاليا. المترجم) نحو كلية غردون وثكنات الجيش البريطاني لنبلغ كبري النيل الأزرق. ومررنا بجنود سودانيين مسلحين بالبنادق مصطفين في صف منتظم على طول ذلك المجرى. ورأيت بعضهم خلف مدافع مخبؤة خلف أشجار ذلك الشارع. علقنا على وجود ذلك العدد من الجنود بأن الأمر لا بد أن يكون متعلقا بمناورات حربية تجرى في تلك المنطقة. واصلنا المسيرة لمسافة مائتي ياردة حين شاهدنا سريتين بريطانيتين (أرقايل Argyll وسيثرلاند Sutherlan) تصطفان على الشارع وتتخذان من أشجار الشارع دروعا واقية. ورأينا أيضا فرقة جيش مزودة بمدفع تسرع في السير بذات المكان. وبعد لحظات من ذلك جرى أحد الضباط الإنجليز خلفنا وطلب مننا التوقف. سألنا: "هل أطلق أحد عليكم النار؟" أجبته بكثير من الدهشة: "لا، بالتأكيد". رد بالقول: "أنتم محظوظون. لقد سبق لهم إطلاق النار على العديد من الرجال – لقد تمردوا". واصل الحديث بسؤالنا عن وجهتنا، ثم أمرنا بالعودة من حيث أتينا، عبر شارع النيل، وأن نسرع السير بأقصى ما يمكننا عندما نصل منطقة مجرى الصرف. لم يحاول الرجال المختبئون في ذلك المجرى إطلاق الرصاص علينا، ربما بسبب وجود ثلاث سيدات في السيارة. أرجعنا الممرضتان للمستشفى، وأسرعنا بالعودة لدارنا. لم يكن هنالك أدنى صوت يُسمع. أتاني بعد ذلك صديقان في زيارة سريعة. ولما لم يكن هنالك أي أثر لتمرد أو شغب بالقرب من داري (التي تقع على بعد نحو 350 ياردة من منطقة الجنود السودانيين)، طلبنا أكوابا من الشاي. وبينما كان السُفرَجيّ يحمل إلينا الشاي في الحديقة سمعنا صوت انفجار وأصوات عالية لطلقات نارية من بنادق آلية. وازددنا انزعاجا عندما ارتطمت الكثير من تلك الطلقات بالحائط الخارجي لمنزلنا. قررنا أن الموقف قد قارب مرحلة الخطورة، وأنه ينبغي علينا أن نلجأ للقصر كما تقتضي التعليمات. لذا أمرت بتجهيز السيارة، وأعطيت أحد الزائرين مسدسي من عيار 303. وذخيرة، وأخذت بندقيتي وذخيرتها، وناديت كل خدم المنزل للتجمع لسماع ما سأقوله لهم. وعندما بدأت في مخاطبتهم انتابني شعور بتضارب الولاءات عندي. فهنالك في الخارج يقوم جنود (سودانيون) بإطلاق النار علينا. لم أكن سعيدا تماما وأنا آمرهم بالتأكد من إحكام قفل أبواب البيت وتأمين سلامة كل ما فيه في غيابنا، إذا أننا سنقوم بالانسحاب نحو القصر. غير أني موظف في حكومة السودان، وينبغي علي الالتزام بأوامرها. ولكن انتابني الحزن والأسى وأنا أرى الخدم وهم في حالة خوف، وأنا أحاول – دون كبير اقتناع كبير مني – أن أطمئنهم وأؤكد لهم أن سيكونون في مأمن، إذ أنهم سودانيين. كنت أدرك أنه إن استمر ذلك التمرد فسيقتلون لا محالة إن حاولوا منع هؤلاء الجنود من سرقة محتويات منزلنا. وهنالك احتمال آخر: أن تسول لهم أنفسهم أن يقوموا بنهب محتويات منزلنا والهرب، ولن نراهم بعد ذلك أبدا. قدنا السيارة في الشارع المحاذي للنيل الأزرق حتى بلغنا قصر الحاكم العام، وكان خاليا تماما. كانت للقصر بوابات واسعة وجدران عالية ثبتت على قمتها قضبان حديدة للزينة. كانت كل البوابات مغلقة، ولم يفتح لي إحداها إلا بعد استخدمت بوق السيارة عددا من المرات. وجدت أننا كنا تقريبا آخر الواصلين للقصر. أحتشد في داخل القصر نحو مئتين من الرجال والنساء والأطفال. وتم منح السيدات والأطفال أماكن مناسبة للنوم. وكانت زوجتي من المحظوظات، إذ عثرت على مكان لها مع سيدتين أخريين في سرير واحد. وتم توزيع الرجال على مجموعات لأداء مهام محددة، ووزعت مختلف أنواع الأسلحة والذخائر من مستودع القصر. وكلفت أنا بحراسة أحد السلالم الخلفية في الطابق الأرضي. وكنت أقوم بالحراسة بالتناوب مع شخص آخر لثلاث ساعات متتالية تعقبها ثلاث ساعات للراحة. ونمت مع قليل من الرجال الآخرين على أبسطة فرشت على أرضية مكتب الحاكم العام، ولكن من دون وسائد. وكان النوم على أرضية صلبة لفترات متقطعة أمرا متعبا بعض الشيء. لم ينعم أحد في القصر بنوم جيد في الليلة الأولى، لأنه كان على معظمنا الخروج عند الثانية صباحا لإفراغ حمولة باخرة أتت من مرساها على الضفة الأخرى من النيل الأزرق، وربطت بالقرب من مدخل القصر. أتت تلك الباخرة محملة بصناديق معبأة بالذخيرة، وكان علينا حملها ووضعها في مخزن القصر. كانت تجربة فريدة أن يرى المرء رئيس القضاء ورؤساء المصالح المختلفة وكبار الموظفين وهم يجدون في حمل تلك الصناديق. وبدت ووجههم بعد فراغهم من حمل تلك الصناديق المتسخة مثل وجوه حمالي جوالات الفحم. كنا جميعا نبدو كمجموعة من الأشقياء الأشرار، فقد كانت ملابسنا قد اتسخت ولم يكن بإمكاننا حلاقة ذقوننا. لم نكن نعلم شيئا عما يدور خارج أسوار القصر. لذا فقد كانت تلك فرصة طيبة للمرء أن يعرف قيمة المعرفة الحقيقية للزملاء والأصدقاء في مثل ذلك الموقف العصيب. قدرت أن نحو 95% من الرجال في القصر اجتازوا ذلك الامتحان العسير بتفوق كبير. أما النساء فقد كن رائعات. وكان الأطفال شجعان فعلا رغم خوفهم من ذلك الوضع الاستثنائي. وفي غضون ساعات تلك الليلة ظللنا نسمع بين فينة وأخرى أصوات طلقات الرصاص، وكانت في قليل من الأحيان تزداد ضراوة ثم تخفت. كان الإفطار صباح اليوم التالي مخيبا للآمال. أخبرونا بأن الإفطار سيقدم في غرفة الطعام الكبرى. لذا قمنا بالاصطفاف هناك. غير أننا لم نحصل إلا على كوب من الماء وقطعة خبز. وطلب منا إن نعيد الكوب فور الفراغ من شرب ما فيه حتى يقدم لمنتظر آخر. لم يكن أحد يعلم شيئا عن المدة التي سنقضيها في القصر، غير أننا أحسسنا مما قدم لنا من طعام قليل أن هنالك تقنينا للطعام سيسري على الجميع. كانت قلة من الحضور قد أحضروا سياراتهم. لذا تطوعت مع عدد قليل من مالكي السيارات بالذهاب للسوق المدينة لإحضار مؤون غذائية. غادرنا القصر في أربع سيارات، وأخذ كل واحد منا بندقيته المحشوة بالرصاص. اتجهنا أولا لمخبز، ومنه إلى محل لبيع بضائع متنوعة. ابتعنا الكثير من الخبز من ذلك المخبز الذي يقع في طرف قصي في المدينة، وكانت المدينة مهجورة تماما ونحن في طريقنا لشراء ما نحتاجه من مواد غذائية، إذ لم نر إنسانا أو حتى كلبا في الطريق. توقفنا أمام محل بيع المواد الغذائية يملكه تاجر سوري، وخرج حراسنا المسلحون وأخذ مواقعهم. وفجأة ظهر من فوق الشرفة التي تقع فوق المحل التاجر السوري ومساعده وهما يحملان بنادقهما حمايةً للمحل. غير أنه ما أن عرف من نحن، حتى هبط الدرج وبدأ يفتح في محله المحصن بكثير من المزاليج والأقفال والعوائق التي وضعها أمام الباب. واشترينا منه كميات قدرنا أنها كافية لعدة أيام من كل صنف من الأصناف المعروضة للبيع. وقدم لنا الرجل بعد أيام فاتورة بتلك المشتريات التي بلغت قيمتها ما يزيد على ثمانين جنيها. وضعنا ما اشتريناه في سياراتنا وعدنا أدراجنا بكثير من الصعوبة، إذ أن ثقل تلك المواد الغذائية خفض من هواء إطارات السيارات بصورة كبيرة حتى كاد ينفد. لم يحدث لنا شيء ونحن في طريق العودة، وأفلحنا في تزويد (الجوعى) المنتظرين بالقصر بطعام يكفيهم لعدة أيام. وكان غداء ذلك اليوم ممتازا بصورة خاصة.