اغنية العائد … بقلم: معاوية جمال الدين

 


 

 

moawia_gamaleldin@hotmail.com

" سأكون أي شيء ، ولكن لن أكون أحمق أبدا ، أحمق من يرفض وظيفة غضباً لما يسمونه غضباً لما يسمونه الكرامة ، أحمق من يقتل نفسه في سبيل ما يسمونه وطناً ، ليس أسوة حسنة في ألإخشيدي ، وذلك لا ريب ظفر بوظيفته لأنه خائن ، ورقي لأنه  قواد  فإلى الأمام".

(( محجوب عبدالدايم – بطل رواية القاهرة الجديدة – نجيب محفوظ)).

هذا برنامج عمل ولاشك ناجح لم يفكر في نتائجه المضمونة ألاف السودانيين الذين شردوا في المنافي خلال العقدين الأخيرين ، ولو  فعلوا لجنبوا أنفسهم عذابات قادت بعضهم إلى الإدمان ، والبعض إلى حافة الجنون ، والبعض الآخر إلى الموت.

ولكن .." ما أصعب الاختيار وما أسهل الاختيار".

بعد غياب طال عن الوطن لم يطاوع القلم في الكتابة عن سنوات التشرد والهوان وقلة القيمة ، ربما لأن في النفس نفوراً غريزياً عن الكتابة في الخصوصيات ، فليس للقارئ ذنب فالأهم أن السؤال الذي يفرض نفسه بعد رحيل الكاتب هو:

ما الذي يبقي منه للتاريخ ؟

بيد أن هذا لا يعني أنني لا اغبط السادة الذين يدبجون المقالات والأعمدة عن أحوال العائلة ، وعن الحِل والترحال وأخبار العطلات والولائم، فانعقدت لبعضهم شعبية يحسدهم عليها هيثم مصطفى وفيصل العجب ، وأخذ القراء يتابعونهم من جريدة إلى أخرى ويتناقلون فيما  بينهم قفشاتهم وأخبار شقاوتهم فلله درهم.

لما تقّدم ، لم يكن غير النظر في الشعر ما يسعف حين تُظلم الدنيا ، وتغيم السماء ويسكن اليأس الأفئدة .

في القصاصات القديمة قصيدة أغنية العائد " للشاعر احمد عبدالمعطي حجازي التي كتبها  بعد عودته  إلى مصر من منفاه الاختياري في باريس . يبدأ الشاعر الكبير قصيدته بهذه الأبيات:

هذه ريحها، كأن كان حلماًًَ،

وعودتي اليوم صحوي

هذا النهار نهاري ، وهذه الشمس شمسي

شجر في دمي يجيش

صباحات خريف  من أول العمر مغسولة بطلٍ

ومنقوطة بسرب من الطير

وآسٍ في الضفتين وورس

ووجوه تتابعت في مداراتها تنادي ، أُناديها

ثم يحيي الشاعر أصدقاءه الذين رحلوا في فترة غيابه في باريس ، وعلى نحو خاص، الفنان الصحفي المناضل  حسن فؤاد والفنان العبقري  صلاح جاهين :

( هنا كان حسن فؤاد)

كان يسخو على السجون بأيامه الجميلة

يعطي الوجوه سمتاً وأسماء

ويعطي الأشياء خبزاً وماءً

ويرد الفضاء للناس يبنيه منزلاً

ويشيع الدفء فيه، والألفة الخضراء

وله الطمي، والجنائن ، والنيل

له الفجر، والشوارع والعيد

( وهنا كان صلاح جاهين )

ذلك الطفل ! كان يمشي بكفيه في المدينة والقاموس

تنهض من موتها الكلمات

وتستعيد صباها

كلمات هي البواكير  من كل نطفة

وهي الوردة أولى الأشياء ، أولى الأغاني

من حق الوطن على إبنه الذي غاب في المنافي أن يعرف كيف قضى أيامه هناك ، لان الوطن هو الذي أنبته . من حقه أن يسأله إذا كان عاش مرتزقاً باسمه، أو دق باب الأجنبي متسولاً بجراحه، أو طاف على الموائد ساعياً في طلب الفُتات....

يخاطب حجازي مصر:

وما بعت دماءً بدماء،

صنت نفسي عما يدنس نفسي!

فاكشفي هذه السحابة عن وجهك النقي

أنا العاشق  المقيم مغنيك.

حملت الاسم العظيم ، ولم أرحل سوى فيك

فهل آن أن نفئ لظل

وننجلي بعد لُبس ؟

وكان حظ الشاعر عظيماً حين أكتشف بعد عودته وياله من اكتشاف :-

أصدقائي همو همو ، وسواهم كما علمتُ

ولن امزج الطهور برجس

ويدي في يد التي خبأتني في صدرها

وبنت لي من سرها في المنافي قصراً،

وأورت سناني

ونورت لي حبسي!

وأخيرا ، لا بد أن ثمة ضوءاً في آخر النفق ، لذلك ، فان حجازي يختتم قصيدته بهذه الأبيات المليئة  بالأمل:

وجهها مقبل

أرى الأرض تمشي في سماء قريبة

وعليها من كل ما أخرجته حشاها

أمم تمشي،

أعلام أراها

كما يكون إذا أمطرت سماء

فهزت أرضاً

ونورت الأفق،

وأبقت على الغصون نداها

وكأن النشيد يقبل من صمت

ويهتز ناحلاً

ثم يعلو بعد ارتجاف وهمس

ترى: هل أخطأنا عندما قلنا أن السؤال الذي يلح بعد رحيل المبدع أو الكاتب هو ما الذي يبقي منه للتاريخ؟ 

 

 

آراء