"أى المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها " لعب شعر المقاومة دورا كبيرا في الحركة الوطنية السودانية عندما لم تكن هناك وسائل اخري للتعبير سوي الكتابة في الصحف والمجلات تلككانت المنابر المحدودة الوحيدة التي يطل منها الناس علي واقعهم البائسفي ذلك العصر,وبالرغم من الأثر الكبير الذي احدثه النثر الذي جاء في شكل كتابات سياسية ضد المستعمرالبريطاني, إلا ان الشعر اخذ مكانا بارزا في المعركة لكونه وسيلة التعبير القريبة من وجدان الشعب السوداني , فكانت له السيادة في القضايا الوطنية ,فظهر شعر الرثاء للشخصيات الوطنية والأخوانيات الأجتماعية المختلفة للذين ينقلون من مدينة الي مدينة , او الذين يرقون في السلك الأداري. واذا عدنا الي بواكير العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي ,فأننا سنجد مشهدا شعريا واسعا اطل منه خليل فرح ,وصالح عبد القادر, ومدثر البوشي ,ويوسف احمد يوسف, واحمد محمد صالح , ومحمد المهدي المجذوب ,وتوفيق صالح جبريل ,وحمزة المك طنبل الذي طالب بشعر سوداني اصيل يعبر عن الخصائص الثقافية للمجتمع لسوداني كان هؤلاء الشعراء حداة الشعب يعبرون عن مواجعة , ويفتحون نوافذ الأمللفجرجديد تتكسر معه قيود الاستعمارالبريطاني تطلعا الي المستقبل والحرية, انشد خليل فرح عازة عزه في هواك ... عزه نحن الجبال و للبخوض صفاك ... عزه نحن النبال وانشد صالح عبد القادرالذي انضم إلى جمعية اللواء الأبيض وانخرط مع ثوار 1924 وحكم عليه بالسجن لمدة عامين.انشد أمتـي، أمةَ الجهـاد، ألا هـبْـــــــــــــبـي فإن الـحـيـاة رهـنَ الجهـــــــــاد إن مـن يألفِ العبــــــــــــــودية السَّوْداءَ يـنعـمْ بعـــــــــــــــيشة الأوغاد والـذي يـخلع الفضـيلةَ يعـــــــــــــرى ويلاقـي الـحِمـام فـي الأصـفــــــــــاد يـا شبـابَ الـبـلاد لستَ جـمــــــــــادًا فتُنـادى ولا تجـيب مـنـــــــــــــــادي
وانشد توفيق صالح جبريل عمالنا الغبش الخفاف الخشن لم ألجأ لملس أنتم حياة الشعب حاموه وحب الشعب قدسي ما بعتم يومآ ضمائركم بغال أو ببخس أو حمتموا حول "السرير" ولا تمسحتم بكرس
ويقول
سألاقي الموت صلبآ كالرماح تاركآ بعدي شيئآ لن يموت هو ماذا؟ إنه الحق الصراح
وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية وإتساع حركات التحرير في العالمين العربي والافريقي تغيرت رؤي الإبداع عند الشعراء والرواة , والكتاب ,وانتقل الشعر من مرحلة الرومانسيات الوطنية الي مرحلة الواقعية التقريرية المباشرة, ثم مرحلة الواقعية السحرية الاشتراكية جري ذلك تحت تأثيرات الافكار اليسارية ضمن الصراع النظري الذي احتدم بين نظامين رأسمالي يعبر عن الهيمنة , واخر اشتراكي يعد بالعدالة الاجتماعية وتحريرالشعوب. وفي غمرة هذا التحول مست هذه الموجة البنيات المضمونية للشعر والرواية وبدأ صراع اخر بين مدرستين تري احدهما ان يكون الابداع من اجل الابداع " الفن للفن"واخري تري ان يكون الابداع من اجل الانسان "الفن من اجل الحياة "وهكذا دوت صرخات جديدة إنطلقت هذه المرة من مصر ومن جيل ثوري من الشعراء السودانيين كان في مقدمتهم محمد مفتاح الفيتوري "عاشق من افريقيا", الملايين افاقت من كراها ماتراها ملأ الافق صداها ومحي الدين فارس الطين والاظافر اتون من داهومي اتون من منروفيا من ليلها القديم, اتون من قارتنا من قلبها الرحيم اتون من كوناكري من النيجر والخرطوم او, لن احيد انا لست رعديدا يكبل خطوة ثقل الحديد فهناك اسراب الضحايا الكادحون ملؤا الطريق وعيونهم مجروحة الأغوار زابلة البريق يتهامسون نحن الشعوب الكادحون ومن النافذة نفسها اطل جيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن في اغاني من السودان أغاني مشيت في شوارع المدينة الحزينة تكوم الرعاع... وإخوة جياع يسعلون .. يضحكون وأبصرت عيناي في مفارق الطريق صبية عنيدة مقطوعة الذراع تموج في الصراع والناس في الصقيع يحلمون بالربيع وانشد تاج السر الحسن اسيا وافريقيا عندما اعزف ياقلبي الاناشيد القديمة ويطل الفجر في قلبي علي اجنح قيمة للظلال الزرق في غابات كينبا والملايو لرفاقي في البلاد الاسيوية للملايو ولباندونق الفتية لليالي الفرح الخضراء في الصين الجديدة والتي اعزف في قلبي لها الف قصيدة في اندياح الموجات الجديدة التي وصلت السودان تحمل رؤي ثورية جريئة,نشأت مدرسة شعرية روادها شعراء ثوريون اختاروا طريق المقاومة للإستبداد السياسي عن طريق شعر تبشيري يقرأ المستقبل. اسهم انتشار الحركة اليسارية في السودان في بروز مدرسة شعرية ثورية جديدة تتجاوز الشعر الحسي الي شعر مغاير هو الشعر الواقعي الذي حرر الخيال الشعوري من إنغلاقه علي الذات وجعله ينفتح علي الجماعة, وتفاعلت هذه الرؤية الجديدة مع الناس فصار هذا الشعر احد ادوات النضال ضمن ادوات سياسية اخري ضد الاستبداد , وقد تجلي هذا الدور في تهيئة الأجواء لقيام ثورة اكتوبر الشعبية عام 1964 ثم دور اخر بعد إنتصار الثورة من المعروف ان نظام عبود كان اوقف العمل بالدستور الديمقراطي ووضع حزمة قوانين مقيدة للحريات كان في مقدمتها حرية التعبير التي ضيقت علي الصحافة حركتها وحددت لها ما تنشر وما لا تنشر. لم يخف النظام الجديد ضيقه بالصحف، فقد اجتمع الرئيس عبود برؤساء التحرير في مساء اليوم التالي للانقلاب، وأطلعهم على ما لاينبغي الخوض فيه، وفي أول مؤتمر صحفي لمحمّد عبد الوهاب وزير الداخليةعضو المجلس العسكري الأعلى، أعلن أمام أصحاب الصحف "أنّه لنيتوانى في تعطيل أيّة صحيفة، أوتقديمها للمحاكمة إذا حاولت التشكيكفي أهداف النظام الجديد ومرامِيه، طلب منهم أنْ يمتنعوا عن نشر الأنباء والآراء والتعليقات التي تُسئ لسمعة الحكومة،" وعند هذا التحذير كان لابد لأن يجد الشعر الرمزي طريقه الي الناس ,فعبر الصفحات الأدبية وبعض دواوين الشعر خرجت قصائد تتناول النظام فتهاجم إستبداده وتطالب بالحرية للشعب وكان لحادثة مصادرة ديوا ن الشاعر كجراي الصمت والرماد في بداية انقلاب عبود صدي كبيرا في الاوساط الأدبية , فقد كانت من بين قصائد الديوان قصيدة تشرين والرياح
تشرين يا أنشودة الجفاف.. يا موجة من الرياح تغمر الضفاف يا موسم الصقيع.. تنح عن ديارنا.. ابعد عن القرى يا خدراً ينساب في اختلاجه الكرى
وفي ثقوب الغرابيل يقول
اعرف اليوم ان الطغاة اعدوا مشانق اعدائهم واستغلوا بصنع القرار واقاموا تمثايل اعدائهم فوق ارض بوار مولد الشمس لن يتأخر فالفجر أغنية لقدوم النهار
وقبل كجراي وزع سرا الشاعر اليساري شاكرمرسال قصيدة ملتهبة نشرت بالرونيو ضد نظام عبود يقول مطلعها ولدت سفاحا فما انت حر فواجه مصيرك او فأنتحر فلا يغرينك صوت السلاح ولا لمعان النجوم الصفر , الخ وعند اعدام النظام الضباط الذين حاولوا قلب نظام الحكم فى1959 نشرت العديد من القصائد السرية, من بينها قصائد للشعراء الزين عباس عماره , ومحمد عبد الرحمن شيبون, واحمد جاد كريم وصديق محيسي كاتب هذا الموضوع, كانت تلك القصائد تصور مأساة هؤلاءالضباط الشباب الذين غدر بهم النظام . وبجانب الشعر السري المتداول بين ايادي الناس, كان للصفحات الأدبية ايضا دورا هاما في نشر الشعر الرمزى الذي يتناول النظام من منظور نقدي يستخدم الأسطورة والرمز في ايصال رسائله للناس كانت تلك القصائد كأنما تبشر بثورة علي الطريق هي ثورة اكتوبر الشعبيةا لتي اندلعت فيما بعد لتنهي ستة سنوات من الحكم العسكري الذي جسم علي الصدور. اذن يمكن القول ان الشعر الثوري مهد وحرض علي قيام الثورة الشعبيةضمن التحريضات السياسية الأخري, وعند نجاحها عمل علي إستمراريتها وليشد من ازرها حتي لا تنتكس الي الوراء, وقد لعبت الروابط الأدبية دورا كبيرا في مساندة الثورة , ففي رابطة ادباء الجزيرة تداعي الشعراء وأقاموا ورشة فنية كبري في مباني اتحاد المزارعين لشارك فيها شعراء الرابطة وفنانو وادمدني فخرج من هناك نشيدأكتوبر واحد وعشرين للشاعر فضل الله محمد وتلحين وإنشد الفنان محمد الامين
اكتوبر واحد وعشرين ياصحو الشعب الجبار يالهب الثورة العملاقة يا ملهم غضب الأحرار من دم القرشي وأخوانه في الجامعة أرضنا مروية من وهج الطلقة النارية أشعل نيران الحرية بارك وحدتنا القومية واعمل من أجل العمران
وانشد ابو عركي البخيت قصيدة لكاتب هذه السطور جرحاتك قنديل يضيء لشعبي دروب المنايا فدتك القلوب ,فدتك الضلوع, فدتك الحنايا وفي غير مدينة مدني كانت هناك رابطة عطبرة وشعراؤها وكتابها محجوب قسم الله "المنبثق" وبشير الطيب, ورابطة سنار نبيل غالي ومبارك الصادق وغيرهم وروابط بورتسودان والابيض والفاشر وغيرها من المدن حيث ساهم شعراؤها وفنانوها في الغناء للثورة الشعبية .
وفي الخرطوم قلب الزخم الثوري انشد محمد المكي ابراهيم من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسيرْمن غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمةْجيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمةْالمستميتِ على المبادئ مؤمناالمشرئب إلى السماء لينتقي صدر السماءِ لشعبناجيلي أنا...ومشى لباحات الخلودِ عيونهُ مفتوحةٌوصدوره مكشوفةٌ بجراحها متزينهْوانشد مكي بالاربعاء طبولنا دقّـت وزوبعت الفضاء صيحاتنا شقّـت جدار الليل و اقتحمت فناءهوتحدرت ناراً باذان الطغاة العاكفين علي الدناءهالخائنين السارقين القاتلينالحاسبين الشعب اغناماً و شاهبالاربعاء هتافنا شرخ السماءحفّـت بمواكبنا بطولات الجدود تزيد عزمتنا مضاءوتقاطر الشهداء من اغوار تأريخ البلاد مهللين مباركين نضالنابالاربعاء الرائعةنصبوا بروج الموت فوق الجامعةو تفجّـر الغاز البذئ علي العيون مدامعا
وانشد هاشم صديق لما لليل الظالم طول وفجر النور من عينا اتحول قلنا نعيد الماضي الأولماضي جدودنا الهزموا الباغي وهدوا قلاع الظلم الطاغيوفي ليلة وكنا حشود بتصارع عهد الظلم الشب حواجز شب موانعجانا هتاف من عند الشارعقسما قسما لن ننهار طريق الثورة هدي الأحراروالشارع ثـــاروغضب الأمة إتمدد نار والكل ياوطني حشود ثواروهزمنا الليل , وهزمنا الليلوالنور في الأخر طل الدار والعزة اخضرت للأحراروطني نحن سيوف أمجادك ونحن مواكب تفدي ترابك وبعد سرقة الثورة من قوي الظلام وإفراغها من شعاراتها انشد هاشم ايضا طفوا الشمس وشيلوا السوادوخلوا الضميربلبس ثياب الحدادمات الجمر تحت الرمادوالسيف نعس جوه الجفيروالقيد حرز رجل الجواد وفي قصيدة وجدت رواجا بين الجماهير انشد الشاعر الراحل علي عبد القيوم أى المشارق لم نغازل شمسها ونميط عن زيف الغموض خمارها أى المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها أى الأناشيد السماويات لم تشدد لأعراس الجديد بشاشة أوتارها نحن رفاق الشهداء نبايع الثورة والداً ووالدا نبايع الشهيد القرشى قائداً نبايع السودان منبعاً ومورداً نحن رفاق الشهداء الفقراء نحن الكادحون الطيبون والمناضلون نحن جنود الثورة التقدمية نحن المثقفون الشرفاء نحن النساء العاملات ونحن أمهات الشهداء اباؤهم نحن اخوانهم نحن اخواتهم نحن صدورنا سراقة الكفاح عيوننا طلائع الصباح اكفنا الراية البيضاء والسلاح نبايع السودان سيدا نبايع الثورة والداً ووالدا يا أكتوبر الحزين يا طفلنا الذى جرحه العدا ها نحن نصطفيك موعدنا ومولدا ها نحن يا حبيبنا الجريح نعيد مجدك القديم شامخاً ورائعا فلتستريح على صدورنا ولنكتشف معاً دروبنا نبايع السودان سيدا نبايع السودان والداً وولدا
عمقت هذه الأناشيد المغناة معني الثورة في الوجدان الشعبي,وحركتها لحمايتها بالصدور العارية ,وعندما اعلن فاروق ابو عيسي ان هناك إنقلابا يدبر ضد الثورة كانت المتاريس توضع في شارع النيل حتي يمنع الإنقلابيون من الوصول الي الإذاعة وفي غمرة الحشود الهائلة المتدفقة من مدن السودان المختلفة كان الشعر الثوري هو المحرض الرئيس لمشاعر الناس ,قد لا يكون الكثيرون لايعرفون ماهي الثورة مثلما تفهمها نخب المثقفين ,ولكنهم كانوا يحسون إن هناك تغييرا ما حدث , تغييرا يحسونه في العاطفة الجياشة التي تخرج من كلمات الاناشيد التي كانت تعبر صحاري السودان وفيافيه وأدغاله تدخل البيوت من الابواب والنوافذ , وتتعرج في شوارع المدن , وأزقتها الضيقة, لم يكن هذا الذي كتبت دراسة , او مقالة , او خاطرة , وانما هو مساحة تعبير مفعمة بالحنين لعمرعجلان اضاء في الستينات ويكاد يزوي في سنوات تجاوزت المئات لتعد بالالاف. يقول ناظم حكمت يا وطني يا وطني أهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك تقطع حذائي الذي حمل تراب شوارعك أخر قميص اشتريته من تركيا صار مقطع الاوصال منذ زمن يا وطني لم يبق لدي منك سوى الشيب في شعري ما عندي منك غيرخطوط من الهموم تعلو جبهتي يا وطني يا وطني يا وطني