د. عمر بادي عمود : محور اللقيا إرتفعت هذه الأيام وتيرة الإهتمام بالآثارالكوشية في السودان و التي قبعت نسيا منسيا لعدة قرون إلا من فئآت قليلة مستنيرة داخل السودان , أما خارج السودان فلم يتم الإلتفات إليها إعلاميا إلا قريبا من خلال أطروحات عالم الآثار شارل بونيه و من خلال زيارة الشيخة موزة للأهرامات السودانية و وقوفها على عمليات الترميم الجارية للأهرامات التي تقوم بها دولة قطر و قد أكملت حتى الآن ترميم 60% من الأهرامات التي تفوق الثلاثمائة هرم . كان رد الفعل قويا من الإعلام المصري الذي إعتبر في إبراز الآثار السودانية تنافسا للآثار المصرية خاصة الأهرامات فنكروا أن الآثار السودانية هي الأقدم و هي الأصل , بل و وصل الأمر إلى السخرية من الأهرامات السودانية و من ثم من الشعب السوداني ! النتيجة الفورية لذلك كانت تكتل السودانيين و رفضهم لتلك الإهانات بل و الرد عليها بالأدلة و البراهين . رب ضارة نافعة , أقول هذا لأنه لم يكن هنالك إهتمام كبير بالآثار و التاريخ الكوشي في الإعلام الرسمي و في المناهج الدراسية في السودان , و قد كتبت قبل هذا بعض المقالات عن التاريخ الكوشي و أبرزت بعض الأطروحات و لكن كانت آراء بعض المعلقين أن ذلك التاريخ لا يجب الإهتمام به لما به من أصنام و أننا يجب أن يبدأ تاريخنا مع بداية السلطنة الزرقاء ( مملكة سنار ) العربية الإسلامية في عام 1504 . لا أنكر هنا الدور الرسمي لوزارة السياحة و الآثار و دور المتحف القومي في نقل و إنقاذ آثار شمال السودان من الغرق و لكنه دور محدود . في ندوة من ضمن ندوات لتدشين الكتاب القيّم ( الكشر – مفتاح اللغة النوبية ) لمؤلفه علي حسن علي قيلي بالأمس في مسرح حديقة الحي الرابع بحلفاية الملوك شاركت ببعض الإضافات التي أوجبت متابعتها لغويا للتأكيد على الدور النوبي فيها , و قد رأيت أن أشرك القراء الكرام في ما ذكرته لأن ما ذكرته هو حديث الساعة , فإليكم به .. كلمة ( النوبة ) أشار المؤلف أنها تعني الذهب و صارت تطلق على المنقبين عن الذهب في ذلك العصر القديم , و لا زال المنقبون عن الذهب يعملون في التنقيب حتى الآن ! أما كلمة ( السودان ) فقد أشار المؤلف أن أصلها بالنوبية ( أسي دان ) و تعني بلاد المياه , و قد ذكر بعض المعلقين أن السودان كلمة عربية نسبة إلى سواد اللون , و أنا أرى أن كلمات نوبية عدة قد إنتقلت إلى العربية و ربما أخذ العرب لون السواد من لون قاطني بلاد المياه . أما كلمة ( كوش ) فقد ذكر المؤلف أن أصلها بالنوبية ( كوش قل ) بمعنى أسد الغابة , و لذلك كان الكوشيون يصففون شعور رؤوسهم على شكل اللبد التي على الأسود , و هذا أعتبره دليلا على كونهم الملوك الأوائل الذين تبعهم الآخرون في ذلك ! كوش هو إبن حام بن نوح و كان لحام أربعة أبناء هم : كوش و مصرايم و فوط و كنعان , و قد إنحدرت منهم شعوب الكوشيين و المصريين و الليبيين و الكنعانيين في أرض الشام . يرد العلماء و المؤرخون الطوفان العظيم في زمن سيدنا نوح إلى العام 5 ألف ق.م , و هذا التاريخ هو نفسه الذي تعود إليه حضارة كرمة و هذا يثبت أن حضارة كوش عمرها 7 آلاف عام , و قد شاهدت في متحف مدينة أكسفورد في بريطانيا بعض آثار حجرية و فخارية و نقوش تعود إلى حضارة النيل الأوسط و كتبوا أن عمرها 10 آلاف عام ! مع تحاليل الحمض النووي للنساء و نتائج الفحص الكربوني تبين أن منطقة شمال السودان بها أصل الإنسان و قد تم إثبات ذلك بنظرية الخروج للجنس البشري من افريقيا . حضارة كرمة تعود إلى عام 5 آلاف ق.م و هي المرحلة الأولى من حضارة كوش ثم تلتها حضارة نبتة ثم حضارة مروي التي إستمرت حتى عام 300 ميلادية . طيلة هذه المدة صارت اللغة النوبية حية مع الممالك المسيحية نوباتيا و المقرة و علوة و إلى اليوم و ظهرت حديثا معاجم لمفردات اللغة النوبية كما هو الحال في المنتدى النوبي في الإنترنت , لكن رغم ذلك نجد أن رموز اللغة النوبية خاصة المروية لم يتم التوصل لفكها , كما حدث للغة الهيروغليفية التي فك رموزها شامبليون بعد عثوره على حجر رشيد , و لا بد لعلماء التاريخ السودانيين أن يبذلوا جهودهم في ذلك , لأنه من المؤكد عند حل رموز اللغة المروية سوف تظهر حقائق تاريخية عدة تعزز من الدور الريادي للحضارة الكوشية . الملك الكوشي نارماري ( نا أر مري ) و يعني إسمه بالنوبية القاطع للرؤوس , يقال أنه نفسه هو الملك مينا في التاريخ المصري الذي وحّد الوجهين القبلي و البحري و كون بداية الأسر في مصر الفرعونية في عام 3150 ق.م و التي إستمرت إلى 31 أسرة حتى عام 332 ق.م , عندما إحتل مصر اليونانيون البطالمة و إعتبروا أنفسهم خلفاء للفراعنة و تعتبر كيلوباترا اليونانية البطليمية آخر ملكة مصرية و قد هزمها الرومان في عام 30 ق.م و جعلوا مصر مقاطعة لروما , ثم أتى المسلمون بقيادة عمرو بن العاص و جعلوا مصر ولاية إسلامية في عام 642 . فرعون هي كلمة نوبية أصلها ( فري أوون ) و تعني الطائر في السماء كما جاء في كتاب ( الكشر ) و لكنه صار لقبا يطلق على ملوك مصر , حتى و إن لم يكن الحكام مصريين , ففي زمان حكم الهكسوس و حكم الليبيين و النوبيين و الأشوريين و الفرس تم إعتبار كل هؤلاء الحكام فراعنة و أدخلوهم في نظام الأسر . مثلا الأسرة 15, 16 , 17 كونها الهكسوس و الأسرة 24 كونها الليبيون و الأسرة 25 كونها النوبيون و الأسرة 26 , 28 كونها الأشوريون والأسرة 27 كونها الفرس . لقد غزا ملك النوبة بعانخي مصر في عام 727 ق.م و خلفه شبكا و شبتكا و ترهاقا (أو تهارقا ) و إستمر حكمهم قرابة ال 100 عام , و في عهد ترهاقا تمدد حكم النوبيين إلى منطقة الشام و صار حاميا للعبرانيين من هجمات الأشوريين و الذين مع الزمن تكتلوا ضده بينما خذله الأسرى الذين كانوا يحاربون معه مما أدى إلى تراجعه جنوبا . توجد أسطورة كنت قد ذكرتها آنفا , و هي أن النوبيين كانوا قد تحالفوا مع الفينيقيين في منطقة الشام و المشهورين بركوب البحر و التجارة و ركبوا معهم في سفنهم إلى قرطاجنة ( تونس حاليا ) و التي كانت تابعة للفينيقيين و إزدهرت حتى غزا قائدها هانيبال روما برا بعد عبور جبل طارق و هزمها شر هزيمة . تقول الأسطورة أن النوبيين كانوا يبحثون عن مصادر جديدة لمعدن الحديد الذي إكتشفوا طريقة صهره , و قد واصلت السفن سيرها عبر مضيق جبل طارق إلى إيرلندا و استقروا فيها لمدة من الزمن و الإيرلنديون حتى اليوم يقولون أنهم شرقيون ! وعند عودتهم ضلت بعض السفن طريقها و تاهت في المحيط الأطلنطي حتى وصلت إلى جزيرة جمايكا في البحر الكاريبي . لقد أورد ذلك الكاتب الديبلوماسي عبد الهادي صديق عندما عمل ديبلوماسيا في سفارة السودان في جمايكا و وجد في متحف العاصمة كينغستون وثيقة تحكي عن ذلك و أن أصلهم من النوبة . لقد تأكد ذلك من زيارات مغني الريقي الأول جيمي كليف قبل بوب مارلي للسودان و لخلاوي حمد النيل في نهاية السبعينات و تسجيله للإيقاعات الصوفية و إدخالها في الأغاني الغربية الحديثة , كذلك الأميرة ذات الأصل النوبي التي حضرت من ترينداد و زارت أرض الأجداد في شمال السودان قبل سنوات مضت ! السيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل كانت أميرة نوبية , و هذه حقيقة أقر بها العلماء المصريون . جراء ذلك إنتقلت كلمات عدة من اللغة النوبية إلى اللغة العربية المستعربة . أيضا فقد تمدد النوبيون منذ زمان سحيق شرقا فكونوا البجا و الأكسوميين و تدل بعض الأبحاث أنهم قد عبروا البحر الأحمر عند مضيق باب المندب و دخلوا جنوب الجزيرة العربية , و بنفس الطريق خرجت قبيلة حبش العربية في هجرة معاكسة بعد إنهيار سد مأرب من اليمن إلى الساحل الأفريقي للبحر الأحمر , و بذلك صار هذا الساحل الأفريقي يعرف عند العرب بأرض الحبشة . من هنا أتى تأكيد الدكتور عبد الله الطيب أن هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة كانت لدولة المقرة و ليست لأثيوبيا , فالنجاشي كلمة نوبية تعني الملك كما ورد في كتاب ( الكشر ) , و يقيني أن هذا الكتاب سوف يفتح منافذ كثيرة للبحث في أصول الكلمات التي تعود إلى اللغة النوبية , فهل من باحثين ..