الأجواء الخرطومية الملبّدة بالغيوم

 


 

 

ما انفك الجرح نازفاً من جراء جريمة شهيدي 29 رمضان علي يد عناصر الجيش، وما زال هذا الكابوس يلقي بظلاله علي الشارع، ويرسّخ الريبة وعدم الثقة في المكوّن العسكري the strange bed-fellow. وبرغم الفتح المبين الذي أتي به مؤتمر باريس الأخير، وبرغم الوعود المكتنزة ومليارت الدولارات التى تتحلب لها الأشداق، وشحنات التفاؤل التي جاءت معه....ما برح الشارع السوداني يتململ وجلاً وضجراً وإحباطاً، ويضجّ بالهمهمات اليائسة والتخرصات المتلاحقة والإشاعات الرائجة والسارية كنار في هشيم؛ ومنها التسجيل الذي وصلني البارحة من جهة مجهولة، (بصوت أقرب لصوت المتعافي)، يتحدث فيه شخص لا يذكر إسمه عن اجتماع لصغار ضباط حاميات الخرطوم ومعهم بعض الساسة، يتداولون فكرة انقلاب عرّابته دولة خليجية.

وهذه في رأيي مجرد أحلام زلوط، ومحاولات معطوبة من عصابات المؤتمر الوطني المفلسة للظهور علي المسرح بعد انتصار ثورة ديسمبر، وبعد أن سددت لهم لجنة التفكيك ضربات موجعة أطاشت صوابهم؛ وهي علي كل حال محاولة خاسرة لخلط الكيمان وزرع الشكوك في النظام الديمقراطي الوليد، ولزيادة الأجواء الخرطومية المعتكرة عتمةً وإرباكاً. ولقد خبرنا مثل هذه التكتيكات الصعلوكية الفاجرة من صحافة الإخوان المسلمين – الراية وألوان حسين خوجلي – في الأسابيع السابقة لانقلابهم المشؤوم في 30 يونيو 1989، وتلك فتنة احترف الإسلاميون تأجيجها لكي تعيش البلاد في عدم استقرار سياسي واقتصادي، لأنهم يعلمون جيداً أن مثل هذه الأجواء المضطربة، تحت ظروف الضائقة المعيشية الحادة والمسغبة المستدامة، هي التى تقود لليأس الذي يستغله حزب أقلية منظم لا يحلم بالفوز عن طريق صندوق الإقتراع، فيقفز للسلطة بالإنقلاب، كما فعل الدوتشي موسيليني والفاشيون في إيطاليا عام 1922، وكما فعل أدولف هتلر والنازيون في ألمانيا عام 1933؛ بيد أن كليهما تمت هزيمتهما وإزاحتهما من الحياة السياسية منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، ولم تقم لهما قائمة بعدئذ، واصبح الاستقرار السياسي والتقدم الإقتصادي المضطرد ليس فقط من نصيب دولتيهما، ولكن من نصيب الولايات المتحدة وأوروبا كلها.

ولقد تمت هزيمة حزب المؤتمر الإخواني الفاشي الذي حكم السودان منذ 1989 حتى ثورة ديسمبر 2018 العملاقة، ولكنهم ما انفكوا "يفرفرون" ويتثعلبون، آملين في الإنقلاب علي هذه الحكومة الانتقالية التى أفرزتها الثورة - متسربلة بحزمة من الفخاخ والتحديات، ومعظم تلك التحديات بفعل الإخوان المسلمين أنفسهم اللابدين بجهاز الدولة والجيش والأمن والشرطة.

وفي حقيقة الأمر، ثمة قصور من ناحية حكومة الثورة وحاضنتها السياسية أغري بتعتيم الرؤيا، وأوجد انطباعاً بالضعف والهشاشة شجع الفلول علي الخروج من أوكارهم لمحاولة اللدغ والأذي والتعويق مرة أخري. وأول مظاهر الهشاشة هو عدم احترام الوثيقة الدستورية من الجهات المعنية، بل وتعديلها بصورة مشبعة بسوء النية، خاصة ما حدث في جوبا من (اتفاقية سلام) مع بعض الجماعات الحاملة للسلاح، والتى تم بموجبها ما يسمي ب(التصفير)، أي إلغاء المعادلة التى حكمت البلاد منذ توقيع الوثيقة الدستورية حتي اتفاقية جوبا، وإبعاد أكثر الوزراء ثمثيلاً لروح وفكر الثورة، مثل الدكتور محمد الأمين التوم وولاء عصام البوشي، وإلحاق عناصر بالحكومة ومجلس السيادة ممثلة للاتجاهات الإسلاموية الرجعية المعادية للثورة، وداعية لاستنقاذ الإخوان المسلمين المدحورين ومجحورين، للعودة ببلادنا للمربع السابق لديسمبر 2018؛ وعلي الفور نشطت الدعوة للانتخابات المبكرة، كما ازدحمت الأسافير بالإشاعات التي تشكك في الوضع الراهن وتدعو لتغيير وزاري جزئي أو كلي يحقق المزيد من الانعطاف نحو اليمين، ونحو التوافق مع بقايا النظام الآفل، أو لانقلاب كامل الدسم يستصحب بعض رموز الحرية والتغيير علي سبيل الرشوة والتمويه وزرع البلبلة والشكوك المتبادلة في صفوف ثوار ديسمبر.

ومن آيات الهشاشة التى أغرت أعداء الثورة بالتحرك، بدءاً بإدخال عناصرهم في ألأجهزة الانتقالية، تردد الحكومة طوال عامها الأول، وعجزها عن انجاز الاستحقاقات العاجلة المطلوبة لتأمين الثورة واستقرار النظام:

• العدالة الانتقالية بما في ذلك المحكمة الدستورية.

• تطهير الإعلام وجهاز الأمن والجيش والشرطة من العناصر الإخوانية.

• إنشاء المجلس التشريعي,

• تكوين المفوضيات الثلاث عشرة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، خاصة مفوضية السلام ومفوضية الانتخابات.

• توفير المحروقات والخبز علي الأقل لمدة عام، حتى لو كان ذلك بالاستدانة من الأصدقاء، أو ببيع شيء من منتجات الموسم القادم بيع السَلَم (تحت الحضور).

ولقد ظللنا طوال العامين المنصرمين نذكّر بضرورة المحافظة علي وحدة الصف، وعلي الإسراع في تفيذ الاستحقاقات المذكورة لتأمين الثورة، ولجعل الشعب يحس بالتغيير، وبأن الكساد والفساد والقحط الإسلاموي الذي ران علي الوطن لثلاثة عقود قد ولي واندثر، وان التغيير لا يعني فقط ذهاب البشير وكبار معاونيه لسجن كوبر، إنما يعني تخفيف معاناة الجماهير، إن لم يكن رفاهيتها وسعادتها. وظلت الحكومة تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، برغم التفويض غير المسبوق الذي منحه لها شعب الثورة، وظلت الأوضاع في حالة تدهور وتراجع مذهل - لا شبيه له إلا ما حدث في سنين الكساد العالمي بدءًا بانهيار 1929 في أمريكا وأوروبا، ذلك الكساد الذي مهد لصعود اليمين الفاشستي في كل من إيطاليا وألمانيا واليابان، ومهد للحرب العالمية الثانية. ونحن الآن في كساد مشابه شنيع مريع يصعب التكهن بنتائجه، ما لم تستجمع قوي الثورة إرادتها، وتنهض بسرعة لتنفيذ الآتي:

• عقد مؤتمر عاجل لممثلي الأحياء المساهمين في ثورة ديسمبر، مع ممثلي تجمع المهنيين وكل الأحزاب الموقعة علي الوثيقة الدستورية (وبالطبع استثناء اللجنة العسكرية)، لإعادة الوثيقة الدستورية لما قبل التعديل,

• وللإتفاق علي مجلس وزراء ثوري رشيق، بمخصصات وتكاليف وطواقم مساعدة في حدها الأدني التقشفي، ومجلس سيادة قليل النفر من المدنيين + عسكري واحد.

• ولإصدار قرارات ثورية فورية بتفاصيل العدالة الانتقالية وجميع المفوضيات المعلومة.

• ولتكوين مجلس اقتصادي من عشرة خبراء يتواجد بصفة مستديمة بوزارة المالية ليشرف مع الوزير على إنقاذ البلاد من الكبوة التي ظلت متقرفصة لديها منذ نيف وثلاثين سنة.

• ولتقديم كل هذه القرارات لمجلس السياده لاعتمادها خلال 48 ساعة، وإن لم يفعل أو إذا ماطل وجرجر، يتم اللجوء للشوارع السودانية كما حدث في أبريل 2019.

إن السودان في مفترق طرق، وتتأهب العديد من الأنظمة الرجعية بالمنطقة،  والقوي الاستعمارية التوسعية المتحالفة مع الإمبريالية، لتفتيته إلي كانتونات يسهل ازدرادها، كأنهم ورثة جاهزون أمام عجوز يحتضر. غير أن الشعب الذي فجر ثورة ديسمبر التي أذهلت العالم ما زال موجوداً، رغم المسغبة والمرض والإرهاق والعنت واليأس بفعل مؤامرات بقايا النظام المدحور، ولكنه شعب يفتقد القيادة المناسبة؛ ولقد كانت قوى الحرية والتغيير جسماً مبشراً شبيهاً بكميونة باريس -  يوليو 1871- بما حققته من وحدة لكافة ألوان الطيف الرافض لاستبداد نظام الإخوان المسلمين، وبما أنجزته من ثورة ظلت صامدة بشوارع كل مدن السودان لعدة شهور. غير أن هذا الجسم الواعد تهالك وانقسم علي نفسه وغرق في التفاصيل الهامشية، وترك جوهر القضية، وهو وحدة جماهير الثورة ممثلة في قوى الحرية والتغيير، والشروع مباشرة في استكمال استحقاقات الثورة بلا جرجرة أو تسويف.

واليوم، هنالك فرصة ذهبية أخيرة أمام هذا الجسم ليلملم أطرافه مرة أخرى، ويرفع شعار وحدة قوي الثورة من أجل تحقيق شعاراتها الخالدة:

حرية

سلام

عدالة

مدنية خيار الشعب.

والسلام.


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء