الإرادة السياسية قبل النصوص الدستورية

 


 

 

 

يثير الجدل المحموم، الذي رافق تمرير البرلمان السوداني للنسخة الحكومية من التعديلات الدستورية، سؤالاً محورياً إن كانت بالفعل تستحق كل هذه الضجة، والمفارقة الأولى أنه لم يكن هناك أحد معني بها غير جماعتي الإسلاميين المنقسمة على نفسها، والملاحظ أن بقية المائة وستة عشر حزباً وجماعة من الذين قيل إنهم شاركوا في "الحوار الوطني"، لم يحفل أياً منهم بالأمر أو ينبري للدخول في جدل التعديلات بحسبانها تجسيداً دستورياً مؤسسياً لمخرجات الحوار، والشاهد أن هذا الانصراف من الاهتمام من قبل شركاء الحوار لا يعدو أن يكون تعبيراً عن الزهد في مردوها السياسي، ذلك أن أي دستور لا يعكس إرادة سياسية حقيقية مؤمنة فعلاً بالتغيير ومستعدة للإحتكام للدستور تعني أنه ليس سوى أداة لتكريس الواقع، وليست مؤهلة بأي حال لتحقيق الانتقال إلى واقع جديد.

ولئن كان مفهوماً حرص الطبقة الحاكمة على تفصيل تعديلات دستورية تناسب مقاس أجندة الاستمرار في احتكار القرار والتحكم في موازين السلطة والثروة، فإن الغريب حقاً هو موقف المؤتمر الشعبي المعارض، الذي أسسه الشيخ الراحل حسن الترابي، الذي راهن على إجراء تعديلات دستورية تسلب السلطة الحاكمة أهم أدوات الحفاظ على معادلات وأجندة الاستمرارية، فقد كان واضحاً منذ البداية أن هدف الحوار الحقيقي هو تجديد دماء الاستمرارية للمعادلة الراهنة مع بعض التعديلات الشكلية التي تقتضيها المرحلة بكل تبعات وتعقيدات توازناتها الخارجية، ولم يكن يعني بأي حال ترتيب الانتقال إلى مرحلة جديدة، وما كان ينبغي لأي مشتغل بالسياسة أن يتوقع أن تستقيل الطبقة الحاكمة طواعية عن سلطتها لصالح تغيير حقيقي تكون هي ضحيته.

لقد اختار المؤتمر الشعبي العنوان الخطأ، والوسيلة الخطأ كذلك، فالصراع حول نصوص دستورية لا معنى له في غياب مشروعية مرجعية لنظام سياسي دستوري، وهذه ليست بدعة وليدة العهد الإنقاذي الذي لم يكن سوى حلقة أخرى في مسلسل تأكيد أن الدستور بضاعة مزجاة في النظام السياسي السوداني منذ بواكير عهد الدولة الوطنية، ولذلك ظل عرضة للانتهاكات الفاضحة، للعجب في ظل النظام الحزبي كما هي الحال في ظل الأنظمة العسكرية، وما الانقلابات التي ظلت تبتدرها أحزاب مدنية سوى أوضح صورة لانعدام الوازع الدستوري في نظامنا السياسي، ودونك مهزلة حل الحزب الشيوعي في ظل نظام يفترض أنه ديمقراطي، وهكذا دواليك ظلت الثقافة الدستورية في السودان على كثرة الجدل حولها غائبة تماماً، ولا تشكل أي حضور حقيقي لا وعياً، ولا ممارسة، فضلاً عن فقدان أية تقاليد دستورية راسخة حقيقية تشكل سياجاً لاستقرار النظام الدستوري باعتبار حتمية الاحتكام إليه هي الضامن الوحيد لجدوى أي نظام سياسي.

ولئن تغاضينا عن سيرة الدساتير المنتهكة، فالتاريخ القريب الذي لم يمض عليه سوى عقد واحد، ما جرى لدستور العام 2005، ذلك أنه لم يكن مجرد دستور كسابقيه بل كان نتاج إجماع غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث بمشاركة ومباركة القوى السياسية كافة، الأهم من ذلك أنه كان تجسيداً لاتفاق سياسي متين تحقق لاتفاقية السلام الشاملة، بغض النظر التباينات حولها، ولكنها مع ذلك تحقق لها رضا شعبي وسياسي لم تحظ به أي اتفاقية سابقة، والأهم من ذلك أن دستور 2005، حظي أيضاً بمباركة ودعم دولي جامع بحكم الضمانة التي مثلها مجلس الأمن الدولي للاتفاقية.

لقد توفرت لهذا الدستور كل أسباب النجاح ولكن مع ذلك تبددت هذه الفرصة لأنه لا أحد من طرفي اتفاقية السلام، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، كان مستعداً ابتداءاً لاحترام التعهدات الدستورية والاحتكام إليها، ولذلك تواطأ الطرفان في مساومات انتهكت كل الحقوق التي أثبتها.

وفي ظل النصوص الدستورية المثبتة أصلاً، والمهدرة فعلاً، لم يكن من الحكمة أن يتجاهل المؤتمر الشعبي وجودها ليقفز إلى طرح بديل حول مسائل كانت محسومة دستورياً، كان من شأنه أن يقدم خدمة جليلة لو تمسّك بوثيقة الحقوق، وحاصر النخبة الحاكمة على عدم الاحتكام إليها مما أسهم في تمزيق وحدة البلاد، واستدامة النزاعات، واستمرار عدم الاستقرار السياسي، ذلك أن مشكلة الحريات العامة لم تكن أبداً في عدم توفر النصوص الدستورية المُحكمة الضامنة لها، بل تكمن المشكلة في عدم توفر إرادة الإحتكام إليها، وعندم لا تتوفر الإرادة السياسية القاطعة الملتزمة بالدستور نصوصاً وروحاً واحتكاماً، فلم يجدي فتيلاً ولو جئ بكل دساتير العالم في أعرق ديمقراطياته.

 

آراء