الإصلاح السياسي في السودان (6)
بين هيمنة جهاز الدولة وتعددية قوى المجتمع
إن الإصلاح السياسي في السودان، أمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإعادة النظر في الفلسفة السياسية للحكم والولاية في السودان قبلاً، والفضاء الأخلاقي والقيمي والمعرفي الذي أوجده، أعني الفضاء الأخلاقي والقيمي الاستعماري، هذا القول يعني إعادة النظر وبشكل جذري في الموقف من منظورات ودراسات التنمية السياسية، فلا نعتبر أن قضية النهضة في السودان، هي مجرد تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ونحو ذلك فحسب، بل هي نهضة حضارية شاملة، تربطها بمفاهيم المجتمع ذاته كفاعل مهم، لا بأية اعتبارات خارجية، لما في ذلك من حالة تعالٍ على ثقافة المجتمع السوداني نفسه، ولما تطلبه تلك المفاهيم من وضوح المقاصد والرؤيا، وتحريك طاقة النخب والأفراد والمجاهدة في السير نحوها.
والحق أن تدافع الثقافة السياسية السودانية مع الثقافة الغربية، يختلف عن صراع هذه الأخيرة مع الحضارات الأخرى، كون أن المجتمع السوداني يتمتع بثقافة لها بعد غيبي ومتعالي وكلي وخالد يمنعها من النهاية النهائية، وعلى هذا فإن السودانيين ما أن يوظفوا طاقاتهم وفق أبعاد الرؤية الإسلامية، فإنهم بالضرورة يعودون إلى موقع الريادة والقيادة العالمية، بحكم إطلاقية هدي الرسالة الإلهية المتعالية، التي توجه حضارتهم، ومن ثم يكونون في حالة الشهود والشهادة والتأثير على مستوى السياسة المحلية والإقليمية والعالمية، والحق أنه لا يمكن تجديد نهضة المجتمع السودانية إلا من داخلها، ومن خلال الاندماج في ثقافتها المتعالية، فتاريخ المجتمع السوداني السياسي، لا يمكن صنعه وتجديده من خارج إطاره الثقافي والأخلاقي ورؤيتها النهائية للعالم والوجود، ومع ما يحمله هذا النقاش من وجاهة، فإن السؤال الملح الآن هو كيف تفهم العلاقة بين طبيعة الدولة وثقافة المجتمع، وما المقصود بمفهوم النظام الذي تدافع عنه نظم الدولة ؟ في مقابل مفهوم الحرية التي ترجوه قوي المجتمع؟ وهل هناك علاقة واضحة في المستقبل لها منهجيتها ونظرياتها وأدواتها التحليلية، في النموذج الإسلامي؟
الرؤية الإسلامية وجدلية الحرية والنظام.
انتهينا إلى إن أهم وأخطر الإشكالات الفلسفية التي تظهرها فكرة الولاية العامة في علاقتها بالمجتمع وفضلاً عن إشكاليتي الهوية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية والتي ناقشناهما في رسائل منفصلة، فإننا نجدها تتمثل في إشكالية العلاقة بين الحرية والنظام، كإشكالية يثيرها نمط النظم السلطوية المركزية بإلحاح، كونها علاقة توضع بين طرفين هما الحاكم والمحكوم، في حين أن الحرية الكاملة للإنسان في التصور الإسلامي تتحقق عندما توضع علاقات السلطة والولاية على مستوي ثلاث أطراف، الله تعالي سبحانه والإنسان والحاكم، فكيف ذلك؟.
والحق أن المسالة تنصب في الحقيقة على تقدير قيمة الحرية بالنسبة للإنسان، لا على مفهوم الحرية نفسه، ذلك أننا ومن خلال تتبع تاريخي أولي، نجد أن الذي شد الإنسان للبحث عن الحرية، هو ما رآه من ظلم مارسه الإنسان في مقابل أخيه الإنسان، سواءاً في السياسة أم في الاقتصاد أم في الفكر والعلم...الخ. مما يعنى أن المشكلة في البحث عن معنى الحرية ليس في البحث عن مفهومها بل في تحديد معنى الحرية التي نعترف بقيمته، وهكذا هي في جوهر شروحات فلاسفة نجدها ومهما تم التعبير عنها، ومهما تكاثرت التعريفات بشأنها، فهي تعبير عن قدرة ما، أو عمل غير مقيد سواء كان عملاً بدنياً أم عملاً فكرياً، وشرطها أن يكون هذا العمل وتلك القدرة غير محجوز عليها، وعندها يكون هذا العمل حراً وتلك القدرة حرة.
والواقع أن الكثيرين ممن حللوا مسألة الحرية لم يتمكنوا من إثبات القيمة المطلقة للحرية، بل إن أكثرهم انطلق من معنى ذاتية القيمة، كمسألة مسلمة بها ومن ثم أسس عليها مفهومه للحرية، دون أن يكلف نفسه عناء البرهان على صحة ذلك الأساس، علماً بأن تأسيس المبدأ النظري سلباً أو إيجاباً له القدح المعلى في حسم المناقشات وحل المسائل التي ستتفرع عن البحث في مفهوم الحرية، والتي من جملتها إمكانية تقييد الحرية، وما إذا كان تقييدها ينافي قيمتها، مع غض النظر عن القيد المطروح. وهكذا فإنه إذا كان هذا الذي فهمناه من معنى الحرية صحيحاً، وأن مجال فاعلية الحرية هو الفكر أو العمل، أو الاثنين معاً، وطالما أن العمل نفسه حركة بغرض الوصول إلى مقصد ما، وحيث أن القدرة نفسها هي فعل بغرض تحقيق غاية، فسيكون معنى الحرية عندئذٍ أنها وسيلة ما دامت صفة للسلوك والقدرة الذين هما في حد ذاتيهما وسيلتان أيضاً.
ودلالة ذلك أنه لا يمكننا أن نستخلص مفهوم الحرية من الذاتية لوحدها، لأنّها لا تستطيع أن تمنح الحجية المنطقية التي تجعل من الأفعال الإنسانية إلزاماً أخلاقياً عاماً وشاملاً وخالصاً، طالما كان المقصد الأخلاقي أمر قبْلي نابع من الرؤية والمبادئ والمعتقدات الأخلاقية مهما اختلف مصدرها، كونها هي التي تضع شروط وقيود وحدود وطبيعة الأفعال الإنسانية بالاستناد إلى الدوافع الأخلاقية التي تدفعنا إلى القيام بالأفعال المريدة الحرة.
إلا أن كون المبادئ الأخلاقية عبارة عن هداية ووصايا وإلزامات وتعاليم وتوجيهات، تتحول وجدانياً إلى مقاصد ودوافع ونوايا، فإنها هي التي توجد الأفعال الحرة فينا أو تنفيها، وبالتالي فإنه يجب أن تستند الحرية إلى الأخلاق. وبما أن كونية الإلزامية الأخلاقية في كمالها، لا تكون إلا من خلال مبدأ التعالي، وهو ما لا يكون إلا عندما يكون معنى المتعالي نابعاً من هداية الله ووصاياه وتعاليمه المتعالية، ومن ثم إن الإلزام بالرؤية الكونية الأخلاقية الإلهية، يكون هو المنشئ للمقصد الإنساني العاقل المريد، بما يعني أن فهم الأفعال الإرادية للإنسان، وقد نشأت وتزكت وتربت بواسطة الهداية الإلهية المتعالية للوجود الأخلاقي، كونها رؤية كونية أخلاقية شاملة، وعندها فإن المبادئ الأخلاقية القائمة على معنى التعالي الإلهي، هي التي يجب أن تؤسس الدوافع والمقاصد والنوايا الاسمي لمقبل مشروع تصرفات الإنسان السياسية الحرة في المستقبل.
أما لماذا الأخلاق الإلهية، كأساس للتعالي والكرامة والحرية الإنسانية، فإن الحجة في ذلك هي أن الظاهرة الدينية من حيث هي ظاهرة مطلقة ومتعالية وكلية وخالدة من جهة الأصول والمصدر الإلهي المعجز، كما رأينا، بالقياس إلى مصادر الأخلاق العقلية أو العملية أو النفعية أو العدمية...الخ، ذات المصدرية التاريخانية، فإنها ـ وبحكم إعجازها ـ ظاهرة متعالية عن مصدرية الأخلاق البشرية، أي متعالية عن أطر وقوانين الأخلاقية التاريخانية التي تُعني بها الفلسفات الحداثية في شرحها لمفهوم الحرية أو أي مفهوم أخر. ودلالة ذلك أن المشروع الأخلاقي الحداثي بوصفه مشروعاً وضعياً إنسانوياً تاريخانياً وعلى مستوى فرص التعددية الأخلاقية في العالم، لا يملك إمكانية التعالي بمفهوم الأخلاق والحقوق الإنسانية حتى يجلب للإنسان معنى الحرية والكمال والكرامة والاعتراف والحقوق.
وهكذا يظهر الربط بين مفهوم الحرية وبين التعالي والإيمان، بما يجعل من قيمة الحرية في معناها الحقيقي، عندنا هي حالة «الاختيار» إزاء الفعل الأخلاقي وإلا نعترف بقيمة للحرية خارج هذا الإطار، يقول تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) {الكهف/29}، فهنا وضع الكفر والإيمان في معنى الحرية والمشيئة الإنسانية، لأن خيارات الإنسان تحتمل الوجهين الإيمان والكفر، وله الخيار فيهما، ولذلك اقتضى الموقف من الحرية الموقف المقاصدي الأخلاقي لإثبات المسؤولية الإنسانية ونفي الجبر الذي يعطل هذه المسؤولية، وكان القول بالحرية الإنسانية مما تقتضيه الضرورة الأخلاقية.
والمعنى أن الإنسان كامل الحرية، هو ذلك الإنسان الذي يتعرف على الرؤية المتعالية بواسطة الرسل المرسلين من الله، ويعيش تجربة التعالي في كيانه كإنسان حر قائم بنفسه، بقدر ما يتعرف عليها ويعيشها في علاقته مع الأفراد الآخرين في المجتمع، بمعنى أن الإنسان الحر القائم بنفسه، هو ذلك الإنسان الذي يمارس الأمر الإلهي على نفسه في كل لحظة من لحظات حياته، فيتخذ فيها قراراً في أي شأن من الشؤون الحياتية التي تخصه. ودلالة ذلك أن هذا الفهم لمفهوم الحرية ذو ارتباط مباشر مع مفهوم الفعل الاجتماعي، فحرية الإنسان إلى جانب كونها حالة إراديه وروحية فإنها تعبير عن نفسها اجتماعياً وسياسياً وثقافياً...الخ، وعلى هذا فحالة الحرية بما هي حالة قيد التحقق في الزمان، فهي تنهض على أصل التعالي كفلسفة لحركة التاريخ الإنساني، كونها حالة من التقرب الدائم إلى الله، فيتجاوز الإنسان عبر الزمان حالته التقرب أكثر وأكثر من حالة المطلق، لكونه إنسان تقي، وفطري وبهذا تكون حركة التاريخ لا نهاية لها، ينتقل فيها الإنسان من الضلال إلى الهداية، ومن الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان، ومن الشهوات إلى الحقيقة ومن الغريزة إلى العقلانية.
هذا من ناحية علاقة مفهوم الحرية وتبعيته لمعنى الحق الأخلاقي، أما من ناحية علاقة مفهوم الحرية بمنظومة القيم السياسية الأخرى كالمساواة، التي تعني مساواة البشر من حيث كرامتهم الإنسانية، فإنه ومن حيث المبدأ فإنه لا يجب أن يكون الإنسان مجرد موضوع لتشريع وضعي كالذي يفرضه المشرعون في القانون الوضعي، لأن الإنسان عندئذٍ سيكون خاضعاً لإرادة إنسان آخر غير مساوٍ له، وعندها فإنه سيخسر كماله وإرادته وتعاليه وكرامته، إلا إذا تلقى القانون المتعلق به من إرادة متعاليه خارج الذوات الإنسانية والا وقع في التاريخانية والوضعانية واللا مساوة واللا عدالة. ومن ثم فإن مجال الحرية وثيق الصلة بالمجالين السياسي والأخلاقي، لأنّ تجليات الحريات على مختلف أنواعها، تقتضي ممارسة وأفعال اجتماعية راشدة على مستوى علاقات المجتمع وتفعيلا لماهية الهداية والوصايا والتعاليم والأوامر والنواهي المتعالية وتحقيق العدالة والتسامح وإدارة الاختلاف ومحاصرته...الخ.
كون أن موضوع الحرية الفردية في علاقتها بالمجتمع تستند إلى مرتكزات: الحق والمساواة والعدالة. ذلك أن الإقرار بحرية الأفراد يطرح مسألة «المساواة» في «الحقوق» بينهم، وبالتالي يطرح مسألة العدالة الاجتماعية أي يطرح علاقة هؤلاء الأفراد بالمجتمع والدولة. وبرهان ذلك ارتباط مسألة المساواة بمسألة الكرامة الإنسانية، فلما كانت المساواة من مبدأ الكرامة الإنسانية، وبالتالي فإن مساواة الإرادات الإنسانية هي مبدأ أخلاقي أسمى لا يمكن الحياد عنه، كونه يتضمن فكرة المساواة الإنسانية الشاملة عندما تقف متساوية أمام الإرادة الإلهية بالالتزام بالتشريع الإلهي وبالنتيجة احترام كل الشخوص الإنسانيون كون أن كرامتهم تتأسس انطلاقاً من مبدأ المساواة في الفطرة الإنسانية ذاتها، وسيصبح المبدأ الأساسي هنا، هو أن المساواة الإنسانية تكون عند التعالي بالتشريع الإلهي، انطلاقاً من قواعده الأخلاقية النابعة من القانون الإلهي المعبر عن معنى الكرامة والمساواة والعدالة في أبعادها النهائية المطلقة.
وعندئذٍ يظهر الاقتران بين فكرة الإيمان والتعالي ومسألة الحرية والفاعلية الاجتماعية للفرد، مما يجعل من نقاش قضايا الحرية والالتزام الأخلاقي، قضايا مرتبطة كل الارتباط بقضايا النظام الاجتماعي وشرعية السلطة ومشروعية القوانين وطبيعة التعاقدات السياسية الإنسانية، وماهية المحرمات والحقوق الإنسان، طالما أنها مرتبطة بالإنسان ككائن إرادي حر يطمح إلى تفعيل مبادئ التعالي بالحق والعدل والمساواة والتسامح والتراضي التي يتقاطع في إطارها مع حريات الأخرين فتقع الحرية عندئذٍ في مسألة الفاعلية الاجتماعية.
fadel ali [faadil1973@msn.com]
///////////////