الإصلاح السياسي في السودان(9): بين هيمنة جهاز الدولة وتعددية قوى المجتمع ..بقلم: د. محمد المجذوب

 


 

 




https://www.facebook.com/pages/%D8%AF%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A/248994459546#

تظهر نظرية الولاية علي المجتمع السياسي، بوصفها ماهية لتثبيت ولاية الأمر الإلهي واستمراره ودوامه، وذلك يرجع إلى أن الأمر هنا نازل من الله تعالى لا أمر سيادة الشعب أو الحاكم أو العقل، وبذلك تكون المجتمع السياسي وولايتها هي مشروع الاجتماع الأكثر إطلاقاً وعموماً وكلية وعالمية لكل البشر، والأكثر إلحاحاً على صعيد الاجتماع البشرى المعاصر لأنه يملك الاستمرارية والاتصال، طالما كان «أمر» الله تعالى متعالياً وخالدا، يقول تعالى: (وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ) {النحل/52}، أي متصلاً وهو عمل ضخم وعلى مدى طويل، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن استمرارية ولاية الأمر الإلهي يعنى أن كيان المجتمع السياسي وولايتها فكرة لا تموت بموت الناس المكونين لاجتماعها ولولايتها وإنما يصبح الناس على هذا وجهاً من وجوه استمراريتها، إلا إذا جاء أجلها المحتوم عند الله، يقول تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) {الأعراف/34}. أما وإن الأمر الإلهي الوارد في الرؤية الإسلامية على الرسول عليه الصلاة والسلام أمر مستمر إلى موعد يوم الجزاء، فإن هذا يعنى استمرار فرصة بقاء «المجتمع السياسي» على نحو لا تتأثر فيه بوفاة الناس ولا تعبأ بتعاقب الولاة والحكام، فالمجتمع السياسي تتضمن ديوان أعمالهم عندما ينجزونها وفقاً للمنهـاج وللشريعة المنزلة مما يمكن من نسبة تلك الأعمال إلى المجتمع السياسي، وهذا البعد، بعد ولاية الأمر الإلهي ما يعطيها قوتها وسلطانها الأكبر.
والحق إن المنظور الديني للسياسة يعيد النقاش في السياسة، بالمعنى الديني ومفاهيمه الأساسية، وعلى رأس تلك المفاهيم مفهوم «الولاية»، فتكون القاعدة هي أنه حيثما توجد «الولاية» توجد السياسة، وإن لم توجد السياسة في «الولاية» فإن من الصعب أن توجد في أي مفهوم آخر بنفس القدر من الوضوح والأهمية، بل إنه ومن جهة نظر علم السياسة الإسلامي، أنه لا وجود للسياسة خارج مفهوم « الولاية»، وإن وجدت سياسة ما خارج نطاق مفهوم «الولاية» التعاهدية فهي سياسة فاسدة، ومن ثم فهي خارجة عن الرشد، ولابد من مجاهدتها. والسياسي هو الشخص الذي يجسد مفهوم «الولاية»، حسب المواثيق الاجتماعية المستمدة من معني الإيمان بالله، وعلى ذلك فكلما تجرد السياسي عن مصالحه الذاتية والفئوية وعمل وفق العهود الإيمانية المتعالية، وبما يطابق مع العمل الصالح ازداد صلاحاً، ذلك أن عمل السياسي عمل دعوى وإداري وقانوني وبيروقراطي، يراعي ما هو ممكن، ويتم حسب الأصول والنصوص القرآنية.
وبالنتيجة فإنه في نظرية الولاية في الرؤية الإسلامية يظهر مفهوم الولاية بدلالة لا توجد في غيره، ذلك أن تثبيتها في الاجتماع يعطيها خاصية تنعكس على أحوال الناس والحكام وأسلوب عملهم بل وحياتهم، كما أن طبيعتها تعصمها من التعسف والاستبداد، إن ممارستها تخضع لقواعد جامعة توافق الجميع كما توافق الحق والعدل المتعاليين.
كون إن إقرار الولاية أو الأمر الإلهية ضروري لصلاح المجتمع السياسي ذاته من حيث استقامة الحكام والولاة فيه أولئك القائمين على تنفيذ أوامر الشريعة في المجتمع السياسي، فالحكام والولاة وفى أسوأ حالاتهم أعنى حالة الاستبداد بالأمر واحتكارهم له بصورة لا يشاورهم ولا يشاركهم فيه غيرهم، فإنهم يحتاجون إلى أن يكون هذا الرأي وذاك موضوعياً لا ذاتياً، يمكن الأخرين من الاعتراض عليه ونقده ومنازعة هؤلاء سلطانهم وولايتهم، فإنهم عندئذٍ يسعون إلى أن يكون هذا الرأي مسنوداً بحجة دينية يكون لها الإذعان والقبول عند الناس الأخرين، وهنا تقدم نظرية المجتمع السياسي في الإسلام الحل المناسب كونها الجهة التي قد يلجأ إليها الوالي المستبد في توطيد مشروعية أمره هنا أو هناك. وبما أن الشريعة صادرة من خارج الاجتماع وتحمل تحقيق الخير العام للناس جميعاً، فالنتيجة تكون صلاح الاجتماع والولاية بأوامر الشريعة لتصير هي النظام المنشود في خاتمة المطاف، سواء للوالي المستبد أو لبقية أفراد الاجتماع وتتجذر في وعى أفراد الاجتماع، ويسود عندئذٍ الأمر الإلهي الذي يحمل الحق والعدل المتعاليين لصالح الحكام والناس.
وهكذا فإنه لا يتصور رشد المجتمع السياسي وكيانها العام إلا برشد الولايات العامة والولايات الخاصة في ذات الوقت فثمة تلازم بن رشد الولاية العامة من جهة والولاية الخاصة من الجهة الأخرى، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى إمكانية القول أن الولاية العامة والخاصة لا يتصور رشد أحداهما إلا برشد صاحبتها لأنه من رشدت ولايته الخاصة مع فساد الولاية العامة لا يعدم أن يتعدى إليه فسادها والعكس بالعكس.
معنى ذلك انه إذا كان المجتمع السياسي، هو رؤية لنوع الحياة المرغوب فيها على الأرض بحسب القرآن، فإن الولاية هي الكيفية التي تجسد بها الأوامر والتوجيهات الواردة في الشريعة تحدد فيها الإدارات والتدابير والمسؤوليات وتتوزع بها في الاجتماع بحسب الابتلاءات والسنن والأوليات فيه، لهذا ولغيره تبرز الحاجة إلى ولاية للأمر العام للمجتمع تكيف عهودها وتختار ولاتها وأئمتها الذين توكل إليهم مهام اتباع توجيهات الرسالة وعندها تتغير نظرة الناس في المجتمع السياسي عن أنفسهم ويفهمون أن في طاعتهم للحاكم والولاة من دونه إنما هو تجسيد وطاعة لأوامر الله المنزلة.
وفي ذلك فإن مفهوم «الولاية» في الفكر الإسلامي يتسم بعدة خصائص:
أولاً: أنها ولاية نابعة من الإيمان بالدين الحق المنزل من عند الله تعالى أي نابعة من الايمان بالخطاب الديني وهي تعبر عن الرؤية الايمانية للفرد في العالم.
ثانياً: أنها ولاية محكومة بالتوجيهات والأوامر الدينية التي تشكل الوعي العام لدى أفراد المجتمع السياسي طالما كانت هذه الأوامر محكمة بإحكام الواقع لها. وهكذا فإنه وبدون الإيمان لا وجود ولا معنى للولاية في الرؤية الإسلامية، كون أن الإيمان بالله تعالي هو ما يجعل الإنسان طائعاً للولاية السياسية، أي آمراً ومأموراً في الولاية على تفاوت مراتبها، بحسب نوعية طاعته متناسبةً مع نوعية خبرته وثقافته الدينيتين، فالإيمان شرط ضروري لقيام الولاية، فالحاكم يمارس الولاية على نفسه كما يمارس كل الناس المؤمنون على نفسهم، أي بالاحتكام إلى ولاية الرسالة عليهم.
بيد أن هذه الولاية التي هي إلزام لكل فرد لنفسه ليست ولاية بلا حدود، ذلك أن الفرد المؤمن يتمتع بها مع غيره من الأفراد المؤمنين في المجتمع، فهي أذاً ولاية نسبية ومحدودة، ولذلك تطرح في شأنها مشكلات عدة، مثل مشكلة الوعي بها وكيفية تحقيقها في الحياة الاجتماعية للإنسان المؤمن، أما مشكلة حدودها فبحسب الميادين التي تجري فيها أفعال العباد المكلفين وطبيعة فرائضهم المستطاعة في حدود الزمان والمكان، وعلى هذا فإن نظرية الولاية في الرؤية الإسلامية تظهر بمفهوم لا يوجد في غيرها، إذ هي في جوهرها عبارة عن تجسيد للأمر الإلهي المتضمن في الرؤية الإسلامية، معنى ذلك أن الحرية وعلاقتها داخل المجتمع السياسي تنظيم وفق محتوى الأمر الإلهي، أي وفق أمر الرسالة فتكون الرسالة بذلك بمثابة مصدر الولايات الذي ينظم العلاقات وتؤصلها. ذلك إن نظرية الولاية في المجتمع السياسي تتحقق بتحقق سلطة الأمر الإلهي وإن فرائض هذا الأخير ملزمة للأفراد وللحاكم في المجتمع السياسي.
وهكذا فإننا نقول أنه بالنسبة لعلاقة الإنسان بالإنسان فإنه توجد ولاية واحدة، عليا وشاملة، هي الولاية الإلهية المعبر عنها في الخطاب الديني بوصفه المرجعية التي تنبثق منها سائر الولايات المختلفة، أو تخضع لها خضوعاً كاملاً، فتوجد ولايات متعددة، أصلية ومستقلة، يقول تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) {المائدة 55/56}، وانطلاقاً من هذه الحقيقة، ينبغي فهم جدلية الحرية والنظام والوحدة والتعدد في دائرة الحرمات الأمرية في حياة الناس. لما كان في كل ميدان من ميادين التي تعرف الأمر، فلا وجود لسلطتين متساويتين، إذ أن حق الأمر لا ينقسم في الميدان الواحد، ولكن واحدية الولاية الميدانية لا تستلزم نفي تعدد الولايات في المفهوم الإسلامي، ففي المجتمع تظهر ولايات وسلطات متعددة، لا يحسن ضمها جميعاً في نسيج ولاية واحدة، بدون تشويه طبيعتها الأصلية، عليه فإنه من الخطأ القول بإمكانية الانتقال من واحدية الولاية في كل ميدان بموجب الولاية النصية، إلى واحدية الولاية في المجتمع، إذا عنينا بالوحدانية هنا أنه لا وجود في المجتمع لولاية واحدة، وكل ولاية غيرها هي ولاية عنها أو منها.
ذلك أن وحدانية الولاية في المجتمع السياسي، تصور ينسجم مع فلسفة السيطرة، لا مع فلسفة الحرية والابتلاء، فالولاية السياسية هي ولاية واحدة في المجتمع، ولكنها وحدها ولاية أصلية في المجمع كله، وليست الولايات الأخرى مشتقة منها أو صادرة عنها أو تابعة لها، وما نزعة الوحدانية في تفسير الولاية السياسية في المجتمع وفي ممارستها سوى ترجمة لنزعة السيطرة الكامنة في القدرة الآمرة. يقول تعالى: (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) {الشورى 8/10}. ودلالة أن المجتمع كوحدة ثقافية واجتماعية ومعنوية وأخلاقية شاملة أعظم وأغني من المجتمع كوحدة سياسية. ومهما عظم تأثير البعد السياسي في حياة المجتمع، فإن التمييز يظل ضرورياً بين المجتمع بوصفه وحدة شاملة أو المجتمع بوصفة وحدة سياسية، أي بوصفه ولاية. إذا صح أن القول بوحدانية الولاية في المجتمع قول خاطئ، فإنه يصبح بالضرورة أن نؤكد خطأ القول بوحدانية الولاية في المجتمع. ومن هنا ينبغي إعادة بناء العلاقة بين نظرية الولاية السياسية وعلاقتها بالحرية، بداءً بنظرية مصادرها من فطرة الإنسان المؤمنة مما يستوعب المساواة والمشيئة الحرية للأفراد، بإرجاعها إلى الله تعالى، ومن خلال الالتزام الفري بأوامره المنزلة في الرسالة تتجسد الولاية في الواقع الظرفي لجماعة المؤمنين، ذلك أن صفة الإيمان والتدين هي الصفة الأساسية التي تتألف منها الفطرة الإنسانية بحسب الرؤية الإسلامية.

 

آراء