الإعلام عضلة رخوة في جسم الثورة
ما كان جعفر نميري حكيماً . لكنه كان بليغاً عندما يقول" الثورة تُراجِع ولا تتراجع ". حتماً ما كان ثمة ثورة تتراجع أو تُراجع .الرجل - عليه الرحمة – سعى لتبرير نكوص عن قرارات إتخذها سابقاَ. نحن حالياً أحوج ما نكون للمراجعة. ثورتنا العارمة لم تستهدف أبعد من إسقاط النظام. غداة الإنتصار وجدنا أنفسنا في حالة إرتباك. طيف القيادة متعدد المرجعيات مُحمّلٌ بكل عاهات العقود الثلاثة العجاف؛ أحزاب تكابد أوجاع التجريف الممنهج، منظمات مدنية وقودها الحماس غير المبرمج ،لم تستبن ما بعد الإطاحة.
ضُحى الإرتباك شكّلنا سلطة تنفيذية دون دوزنة موازنة أثقال التكاليف مع قدرات المُكلّفين. لو واكب التشكيل الوزاري تحديات المرحلة لأصبحت السلطة التنفيذية قاطرة ركب الثورة ، بما في ذلك الحاضنة السياسية متباينة الأحجام. لكن السلطة متواضعة القدرات ظلّت تترقب من طرف خفي من يَشغل كابينة القيادة .بمثل هذا التقاعس أفسحنا هامشا عريضاً أمام أعداء الثورة للمناورة و التربُص حدّ الإغراء بالإنقضاض.
الإعلام يشكل أحد أكثر حقول الثورة إدقاعاً. الجدب ليس فقط في غياب الإستراتيجية بل كذلك في تبني مفاهيم هروبية قفزاً فوق تضاريس المرحلة المعقّدة إلى أفق الأمنيات الحالمة. مقاربة ضحى الثورة بشروق شمس الديمقراطية يعكس إعشاءً في البصيرة. الثورة لا تزال في حالة مخاضٍ متعثّر بغية وضع لبنات التأسيس لمرحلة ديمقراطية.
في سياق الإرتباك المبكّر لم نستوعب الفرز بين نشطاء يشعلون ثورة وساسة يعيدون بنا ء دولة. كذلك لم نستبن الفرق بين "تكنوقراط " يسيّرون دولاب نظام دولة عطبٍ وآخرين مطالبين بإعادة بنا منظومة بلد غارق في بحر أزمات.
تلك خيارات زادت أزماتنا احتقاناُ.
للاعلام باع طويل في إدارة الأزمات . هو الجبهة الأكثر تقدماً و سخونةً حيث تدور المعارك السياسية والعسكرية . تلك باتت حقيقةً ناصعةً منذ إقتحام " سي إن إن " غرف نومنا ناقلة على الهواء غبار ودخان أبنية بغداد المتصدعة تحت الصواريخ الأميركية الذكية والغبية إبان حرب العراق الأولى.
هكذا لم يصبح ممكناً ربحُ معركةٍ دون امتلاك التفوق الإعلامي . نحن لم نستوعب فقط هذه البداهة بل تركنا كل أجهزة الإعلام المرئية، المقروءة والمسموعة بين يدي خصومنا ثم زيّنا تلك الغفلة ببناء الديمقراطية!
نحن لم نهمل فقط مهام التنوير بواجبات التأسيس لنظام جديد أو التبشير بثمار عهدٍ لم تُغرس بذوره بعد بل تجاهلنا عمدا مع سبق الإصرار واجبات التقنين بغية ضبط الخطاب الإعلامي في المرحلة الهلامية الحالية.
ذلك فرضٌ لا تستقيم صلاة الثورة دونه بغية كبح طغيان المهيمنين على الماكينة الإعلامية وإمكانات تزييتها. كأننا نؤمن بانهم يعتصمون بقول الرسول الكريم "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت"
كأننا لم ندرك أخطار دلق وسائط التواصل الإجتماعي في خضم ثورة الإتصالات والمعلومات. فكما وسّعت تلك الإبتكارات في حرية التعبير وكسّرت الحواجز بين المرسل والمتلقي ، ساهمت في بث الكراهية والعداء. نحن نستشهد كثيراً بحرب الهوتو والتوتسي في خطابنا المنادي باحترام التنوع الأثني لكننا لانذكر ولو مرّةً واحدة دور إذاعتهم المسماة بـ"التلال" في بث الكره وتأجيج تلك الحرب القذرة. نحن نستشهد كثيراً بمقولة وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز عن المثقفين والمسدس لكنّا لا نستعيد ولو مرة واحدة قوله "أعطني إعلاماً بلا ضمير أمنحك شعباً بلا وعي". فكل الإعلام وضميره في أيدي الآخرين.
الإعلام لم يعد فقط أحد صناعات العصر المتطورة والحيوية أو سلاحاً حاسماً في المعارك حيث تسبق الكلمة الرصاص ويتقدم الخطاب أرتال الجنود.
هو كذلك آلية التعبير عن عقلية الجماهير ،روحها وتوجهاتها. ربما الأجدر بنا ترديد مقولة الداعية الأميركي مالكوم إكس" وسائل الإعلام هي الكيانات الأقوى على وجه الأرض إذ لها القوة على جعل المذنبين أبرياء والأبرياء مذنبين " أليس هذا محور رحى معركتنا الراهنة؟
نحن خسرنا الحرب قبل خوضها إذ تبنينا إستراتيجية خاطئة وتسلحنا بمفاهيم مغلوطة.
جذر الأزمة في هروبنا إلى الأمام عندما توهمنا ارتياد آفاق الديمقراطية . في هذا الأفق الملتبس مشينا تحت شعار "الحرية لنا ولسوانا". هم يحتكرون منصات الإعلام بكوادرها ورأس المال ونحن فقراء على الصُعدين فتجمّلنا بزي فرعوني... من منطلق أعور تزيّنا بمبدأ إطلاق الحريات أمام متربصين حقدة عازمين على إشعال الحرائق. على جسر النقد المشرع من قبلنا يعبر حملة معاول الهدم علناً في وجوهنا. كأننا لا ندرك الخط الوهمي الفاصل بين الحرية والفوضى.
كأننا لم نتعلم كم هي السلطة المطلقة مفسدة مطلقة إذ عهدنا إلى من أسميناهم بالتكنوقراط حق الإنفراد ، كلٌ في وزارته، فتفرّد كلٌ منهم برأيه ، لا يرينا إلا مايرى .هكذا لم يتم فقط مصادرة الإصغاء للرأي الآخر بل جرى فرض القناعات الذاتية. ما من أحد يريد سماع الحكمة القائلة " إذا صدأ الرأي صقلته المشورة" إذ لا احد لديه مجرد الشك في إحتمال صدأ يتغشّى رأيه . فتق المجلس التشريعي لم يتم رتقه بلجان إستشارية. هكذا أمسى الملّفين جزءً من أزماتنا.
كأنما أريد للفترة الإنتقالية مواصلة الإستبداد بوجوه من ضفّتنا تملي علينا أراء مسرفة في الفجاجة والتسطيح. بالتأكيد كما تعدد المنابر الإعلامية غير المنضبطة لا يثري أو حتى يعكس تنوع الاراء والرؤى فإنه لا يسقي شجرة الثورة الطرية. من السذاجة مطالبة أنصار الثورة بمقارعة إعلام المعارضة عبر مؤسسات موازية. تلك رؤية تجهل أو تتجاهل مراكمة الزمن ورأس المال والإمكانات ضمن عناصر عديدة لصالح ربوة الخصوم . إنشاء منصات لوسائط التواصل الإجتماعي في كل وزارة ومؤسسة زاد من كثافة الدغل الإعلامي بحيث لم يعد من اليسير استبانة الدروب السالكة إلى رحابة الحق والحقائق إذ أشتجرت النباتات المتسلقة.
التبشير بالخصخصة لا يمثل فقط قفزة فوق تضاريس المرحلة ، بل هو تحفيز للقوى المضادة للتوغل في حربها. منصات الدولة الرسمية ليست ملك الدولة .
نحن نتابع في سياق تربصها الفاضح فرض الآراء المعاكسة من خلال إستضافة محاوَرين محددين تُلقى إليهم أسئلة معينة بغية بلورة إجابات معينة.
صياغة الأخبار لا تزال تُصب في القوالب العتيقة ذاتها.نحن لم نتجاوز مرحلة بث الأخبار إلى ولوج لجج الأحداث. هنا يمكن إستعادة حتمية التنوير، التبشير والتقنين في الخطاب الإعلامي.
الأنظمة الإعلامية على صعيد العالم لا تزال تلهث في مسارين إثنين من إجل الكسب: منظومة الخدمة العامة حيث تشكل بريطانيا القطب الأكثر جاذبية والمنظومة التجارية على النسق الأميركي. نحن أبعد ما نكون حالياً عن ترف الإختيار..
في مثل منحانا التاريخ الحاد يتم تكريس أجهزة الإعلام لصالح الثورة. كل المنصات تتقيّد طوعاً أو كرهاً بميثاق شرف صارم القسمات والآليات لخدمة الغايات الوطنية العليا . هذا خط التقنين الأدنى . لكل ثورة شرعتها .بما أنه جرى ويتم إستحداث تشريعات وقوانين في مجالات عدة فالإعلام أولى لنا ثم أولى. وكالة الأنباء الناطقة الوحيدة باسم سيدتها الأولى؛ الدولة . من حق الوزارات كما الوزراء وكل السؤولين التمتع بحق مواكبة العالم في إنشاء حسابات ضمن شبكات التواصل الإجتماعي . لكلٍ حقُ التعبير والتعليق لكنّما عندما يكون محور البث النبأ الرسمي فلا أحد أوجهة تعلو وكالة الأنباء فهي صاحبة الإحتكار المطلق. تلك خطوة عملية على جبهة إحتواء فرص الإشاعات الضارة بالدولة والسلطة.
في الوقت نفسه ليس من مصلحة الثوة وسلطتها التلكؤ في إصدار صحيفة ناطقة بلسانها من منطلق حجج مهيضة بفشل الصحافة الرسمية. تلك فرية لا تصمد أمام التاريخ إذ لم تستقم فرص الموازنة بين هذه وتلك .ثم ماهو رصيد نجاح الصحف الخاصة الحالية مما يحمل على الرهان عليه أو الرهبة منه! .
aloomar@gmail.com