الاستكشاف البيولوجي لدارفور بين عامي 1799 و1998م (2/2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
The Biological Exploration of Darfur (1799 – 1998), 2/2
Richard Trevor Wilson ريتشارد تريفور ويلسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لقليل مما جاء في مقال طويل عن الاستكشاف البيولوجي في دارفور في القرنين التاسع عشر والعشرين، نُشر عام 2012م في العدد التاسع والثلاثين من مجلة "محفوظات التاريخ الطبيعي Archives of natural history".
وكاتب المقال عالم بريطاني متقاعد له اهتمامات بحثية في مجالات البيئة والعلوم الزراعية والإنتاج الحيواني في مختلف المناطق المدارية على مدى عقود طويلة. وكان الرجل قد ساهم في سبعينيات القرن الماضي مع منظمة الوحدة الأفريقية في عمل مسح جوي منخفض المستوى لأعداد الثروة الحيوانية في السودان. ونشر الرجل أكثر من 13 ورقة علمية عن السودان (خاصة مناطق دارفور المختلفة) في مجالات مختلفة شملت دراسات عن الإنتاج الحيواني في مختلف الأنواع، والبيئة (مثل دراسته عن الرّئِيسات / القرود primates في دارفور)، وتاريخ الحيوانات في القرنين التاسع عشر والعشرين. ونشر أيضا في ذات المواضيع في ليبيا وتنزانيا وتركيا والهند وغيرها من بلدان العالم النامي.
وذكر الكاتب في نهاية مقالة، من باب "الشكر والعرفان" أن ما حفزه لكتابة المقال هي النقاشات المعمقة التي دارت بينه وبين عدد المهتمين من الأجانب بمشكلة دارفور، الذين التقاهم في الخرطوم في مارس من عام 2011م.
المترجم
***** ***** ******
مديرية دارفور، السودان الإنجليزي – المصري (1916 – 1955م)
إن كان من المحرم على الأجانب دخول دارفور قبل عام 1916م، فقد توافدوا بسرعة على دخولها بعد ذلك التاريخ، وبأعداد كبيرة. وبعد أقل من نصف عام على إسقاط حكم السلطان علي دينار، كان الإداريون البريطانيون يحتلون مواقعهم في مختلف المناطق. وبعد عام ونصف من ذلك وفدت لدارفور أول بعثة جغرافية في مارس من عام 1918م كانت مكونة من جيمس أنقس قيلان الإداري من القسم السياسي لحكومة السودان، والرائد هـ. هوبس من الجيش المصري. وزار الرجلان جبل مرة، وشاهدا كثيرا من الحيوانات فيها، كان من بينها أنثى ظباء كودو الكبرى Tragelaphus strepsiceros))، وزوجين من طيور الكركي المسماة علميا (Balearica pavonina). وذكرا بأنهما سمعا عن وجود فهود في المنطقة، وكتبا عن طرق الصيد التقليدية، مضيفين إلى ما كتبه الرحالة محمد بن عمر التونسي (1854م) ليس فقط عن الزراف، بل الأفيال أيضا.
وفي عام 1920م زار كبير مهندسي المساحة بحكومة السودان أ. ر. بويس حدود جنوب دارفور مع بحر العرب، وكتب عن صيده لأسد ولبوة كانا يصطادان بقرة وحشية من نوع يسمى Tiang، واسمها العلمي هو Damaliscus lunatus . واصطاد أيضا نوعا آخر من الظباء الأفريقية السمراء اللون تسمى Roan (Hippotragus equinus) في وضح النهار، وهو أمر غير معتاد.
وأتى بعد هؤلاء جيل من الإداريين من القسم السياسي الذين لم يكن لمعظمهم ما يفعلونه سوى ملاحظة الطبيعة في أثناء رحلاتهم التفتيشية الطويلة على ظهور الإبل في مختلف أجزاء المديرية. وانشغلت زوجات هؤلاء الإداريين بالسياحة البيئية (ecotourism) في رحلات وعطلات قصيرة إلى جبل مرة، حيث الجو اللطيف الذي يختلف عن الأجواء المغبرة الشديدة الحرارة في المناطق المنخفضة.
وفي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي سجل عدد من إداريي تلك الفترة (مثل بولنوا Boulnois) بعض المعلومات عن توزيع الحيوانات البرية وأعدادها التقريبية في دارفور. فقد كتب الرجل في عام 1922م عن حيوانات الصيد بالقول إنها "نادرة في غابات الصحراء (شمال الجنينة على الحدود بين وداي ودارفور)، باستثناء الغزلان. وتُشاهد ظباء كودو في جبل كردي Jebel Kudri وما حوله، وعلى تلال انوقورو. وتُشاهد أحيانا كذلك حيوانات أخرى مثل النعام والزراف. أما في وادي هور فعدد تلك الحيوانات كبير جدا. ولم يُشاهد الأسد أو يُسمع في أي من مناطق شمال دارفور عدا في منطقة اوندر Undur".
ولاحظ بولنوا في عام 1924م وجود الجواميس على المنطقة الفاصلة بين نهري النيل والكنغو، وثيثل الهارتبيس hartebeest بكثرة في تلك المنطقة. وكانت هنالك أدلة على وجود الظبي الأفريقي الأسمر اللون المسمى Roan، وظبي الماء waterbuck ونوع آخر من الظباء يسمى الإيلاند العملاق giant eland. وكانت آثار مشي الأفيال على الغابات واضحة، إلا أنه كان من النادر رؤيتها فعليا.
ووجدت في سنوات سابقة آثار قديمة في شمال دارفور لنحت أشكال حيوانات على الصخور، كان من بينها الزراف. غير أنه من الملاحظ عدم وجود أي نحت لجمال في تلك الصخور. ويدل ذلك على أن تلك المنطقة كانت أكثر غِنَى بالمياه في ذلك الزمن. وكانت هنالك أيضا آثار لوجود الأسود في وادي هور، كما كتب حسنين أفندي في أبريل – مايو 1923م. وهنالك أيضا دراسات أنثروبولوجية وردت فيها عرضيا بعض المعلومات عن بعض الحيوانات البرية ومنتجاتها. فعلى سبيل المثال وجدت في شمال دارفور الخراف البربرية والمارية (نوع من البقر الوحشي) في المناطق التي تحيط بجبل الميدوب. وكان الناس يصطادون المارية ويستخدمون جلودها بعد دبغها في صناعة الأحذية في شمال دارفور. غير أن سكان جنوب دارفور كانوا يفضلون استخدام جلود الجواميس ثم الظباء السمراء ثم الزراف.
وقام الرائد هبرت لاينز (مع آخرين) بالتجول في أنحاء دارفور المختلفة في أبريل 1920م. فتحرك من الفاشر إلى مناطق جبل مرة. ثم قام في رحلة أخرى من جبل مرة إلى زالنجي، وإلى الشمال لمليط وجبل الميدوب. وقام لاينز لاحقا بنشر ملاحظاته عن نباتات المناطق التي زارها (شملت السرخسيات ferns and bracken) وعن كلاب الصيد والقرود في أعالي جبل مرة، ومجموعة من الأسود تسقى عطاشها بالقرب من كالوكيتنق. وكتب أيضا عن حيوانات مختلفة في المناطق المنخفضة مثل الغزال ذو الجبهة الحمراء، والعبلنج السوداني grivet وأنواع مختلفة من القرود (منها القرود الحمراء). وسجل لاينز أيضا أسماء عدد من الحشرات في الأماكن المنخفضة، كان أهمها النحل الصغير المسمى علميا (Melipona sp)، وهي حشرة مزعجة تدور حول وجوه البشر بحثا عن الرطوبة.
وقام لاينز (وهو في الأساس عالم طيور) بجمع العديد من النباتات والثدييات من دارفور. وهو يُعد بذلك أول من قام بذلك بعد فوند في الفاشر قبل خمسين عاما. وبلغ ما جمعه لاينز من نباتات أكثر من 300 نوعا، محفوظة الآن في متحف التاريخ الطبيعي في لندن. وكان من بين تلك الأنواع 11 نوعا جديدا (أي لم يسبق تسجيلها من قبل)، حملت خمس منها اسمه. وجمع لاينز 800 عينة من الثدييات، من منطقة لم يسبق جمع أي عينة حيوانية منها من قبل. وشكلت تلك المجموعة إضافة مهمة للمجموعات الإفريقية، خاصة وأنه حرص على كتابة أسماء ما جمع من عينات باللغة الإنجليزية وبالأسماء العلمية اللاتينية أيضا. ونشر الرجل بين عامي 1924 و 1926م أعظم أعماله، وكانت سلسلة من الأوراق (من سبعة أجزاء) في المجلة الدولية لعلم الطيور (IBIS) عن الطيور في المناطق التي عمل فيها بدارفور وجبال النوبة. والجدير بالذكر أن لاينز كان قد جمع 3,200 نوعا من الطيور، قدم معظمها لمتحف التاريخ الطبيعي بلندن. ولكن للعجب لم يكن من بينها سوى 12 نوعا فقط هي التي عُدت من الطيور الفريدة.
وظلت مجموعات لاينز هي المجموعات المعتمدة للحيوانات والنباتات في دارفور لسنوات، حتى جاء آخرون وزادوا عليها. ومن أمثلة ذلك أعمال بروكليهيرست في عام 1931، وماكينزي الذي ألف فهرسا مصورا ومزودا بخرائط عن ذوات الحوافر غير المستأنسة في السودان، ونشره في العدد الرابع من مجلة متحف التاريخ الطبيعي بحكومة السودان في عام 1954م. وفي أعوام الثلاثينيات والأربعينيات قام جي. ف. مادن بنشر أوراق عما جمعه من طيور في مناطق جنوب دارفور المختلفة، وعن فيزيلوجيتها ومواسم تزاوجها، وعن هجرة الطيور للفاشر، وذلك في مجلة "السودان في رسائل ومدونات".
وزارت مناطق شمال دارفور عدد من البعثات الاستكشافية، كان من قادتها عدد من المستكشفين والرحالة والمغامرين، ومن غريبي الأطوار (eccentrics) أيضا. وكان من ضمن أفراد الفئة الأخيرة رجل من تنجانيقا اسمه كونستانتين جون فيليب ايوندس، كان يعمل في مجال المحافظة على الحياة البرية وإدارتها (وفي ذات الوقت كان من ممارسي الصيد غير القانوني poacher!)، وأشتهر بصيد الثعابين. وكان يزعم أنه يجمع عينات لمتحف كريودون في نيروبي بكينيا. وهنالك سجل (باليوم والشهر والسنة) لعدد الحيوانات البرية التي اصطادها الرجل في جبل الميدوب والحزا (El Haza) في سنوات 1937 – 1947م.
وعمل ويلفرد ثيثيقر لفترة قصيرة مساعدا لباشمفتش منطقة كتم، وكتب برومانسية شديدة عن تعامله مع الأسود، وزعم لاحقا أنه قتل منها على الأقل ثلاثين أسدا في فترة القصيرة في المنطقة (سبق لنا نشر عرض لكتابه المعنون Desert, Marsh and Mountain بعنوان: (من ذكريات الإداري البريطاني ويلفرد ثيثيقر في السودان). المترجم". وجاء في مذكرات الرجل: "كنت أقضي جل أوقات فراغي في الصيد، حيث ظللت اصطاد المارية (الأوركس) وغزلان المها في الصحراء الليبية، وأطارد الضأن البربري في سفوح جبال الميدوب البركانية. وكنت أصوب نيران بندقيتي نحو كل أسد ألقاه في المنطقة. كان الأسد يُعد في تلك الأيام عند أهل السودان حيوانا مؤذيا ضارا يفتك بقطعان بهائم الرعاة في شمال دارفور. وكنت في معية رفيقي في السفر الشاب الزغاوي إدريس، نقتفي آثار الأسود لساعات طوال فوق التلال الصخرية والسهول الحصباء. وبينما كنا ذات مرة على ظهري فرسينا نتتبع آثار أحد الأسود مع أفراد من قبيلة بني حسين، لوح أفراد تلك القبيلة بحرابهم وأطلقوا صيحات عالية في تحدٍ لأسد أحاطوا به وحاصروه في مكان ضيق. في مثل تلك الحالات كانوا عادة ما يترجلون عن ظهور خيولهم لملاقاة الأسد وجها لوجه، والهجوم عليه بالحراب. لم تكن لديهم مجن (درقات) يحمون بها أنفسهم، وكان عادة ما يُقتل أحدهم في مثل تلك المواجهات، وتُنهش لحوم الكثيرين منهم قبل القضاء علي ملك "الغابة والصحراء ". لم أجد في نفسي الشجاعة لكي أقدم على مثل ذلك العمل؛ فما أن ألمح جزءً من جسم الأسد مختبئا خلف شجيرات حتى أقفز على ظهر حصاني وأسرع نحو مخبأ الأسد وألقم جسده رصاصات متتالية من فوهة بندقيتي. لقد قتلت نحوا من ثلاثين أسدا خلال الأربع والعشرين شهرا التي قضيتها في شمال دارفور. المترجم). ولعل ثيثيقر كان أحد أسباب القضاء المبرم على الأسود في شمال دارفور. وكان هنالك ضابط (رياضي) آخر مغرم بالصيد اسمه آر. دي. هينريكس قد سافر لدارفور في عام 1938م (في نفس السنة التي كان فيها ثيثيقر يصطاد فيها الحيوانات البرية) وقتل – لمجرد إشباع شهوة القتل – 14 أسدا و19 فهدا (وربما جرح أعدادا أكبر) في جنوب غرب دارفور.
وكان دوغلاس نيوبولد (مدير مديرية كردفان) قد حصل على إجازة من العمل ليجول في أقصى المناطق الشمالية والغربية بالسودان مستكشفا. وقام نيوبولد برحلته الأولى بمفرده على ظهر جمل، وقام في الرحلة الثانية برفقة المهندس العسكري بيل شو بجولة على ظهر جمل وفي سيارة. وزار الرجل في الرحلتين وادي هور على حدود دارفور وتشاد. وفي المناطق التي زارها، لاحظ نيوبولد وجود مختلف أنواع حيوانات الصيد مثل الماريا والمها ومختف أنواع الظباء والأبقار الوحشية الأخرى، إضافة إلى النعام والخراف البربرية (وقام "العرب" الذين كانوا معه بقتل 5 من تلك الخراف في بير النطرون في رحلته الأولي). ولاحظ نيوبولد وجود قرون الماريا والمها بكثرة في بير النطرون، إذ كان الناس يستخدمونها في حفر التربة للحصول على الملح. ولاحظ أيضا عدم وجود الزراف أو الأفيال، رغم أن منحوتات أشكال تلك الحيوانات كانت قد وجدت على بعض الصخور. وشاهد نيوبولد أيضا حيوان التيانغ ضمن مجموعات الظبيان المختلفة، وذكر أنه رأى "أعدادا متوسطة" منها في "دار مساليت" في عام 1950م.
وقام العقيد السير هيو بوستيد في عام 1932 بجولة استكشافية في شمال دارفور، وسجل في مذكراته أنه رأى منحوتات أشكال حيوانات كانت قد نحتت على بعض الصخور، وأصطاد بعض الطيور المهاجرة مستخدما بندقية رش (dust gun)، ثم حقنها بمادة حافظة /مثبتة هي فورمالين، ولفها في صوف قطني وبعث بها إلى متحف التاريخ الطبيعي في لندن. وجمع بوستيد كل الصور والمعلومات عن الطيور وسلوكها التكاثري في كتاب مذكرات أصدره في عام 1971م (سبق لنا ترجمة جزءٍ قصير من فصل في ذلك الكتاب بعنوان "في ركاب الجندية". المترجم).
ولم يتجاهل المستكشفون البريطانيون الحشرات. فقد كتب رالف القر باقنولد في عام 1933م عن كثير من فراشات "السيدة الحسناء" المهاجرة المسماة علميا (Vanessa cardui) في جنوب الصحراء الليبية. وقامت الآنسة الثرية (وغريبة الأطوار) أم. استيل بجمع 21 نوعا من حشرة اليعسوب من مختلف ارتفاعات جبل مرة، وذلك بين أبريل وأغسطس من عام 1932م. وكان الضابط لينز قد سبق له أن سجل وجود يرقات تلك الحشرة في جبل مرة في عام 1921م. وجمعت الآنسة استيل أيضا عددا من عينات النباتات أودعتها الحديقة النباتية في كيو ببريطانيا. غير أن من عيوب تلك المجموعة الأخطاء العديدة التي وقعت فيها الآنسة عند كتابة رقع لاصقة (labels) على عيناتها.
وكان الجراد الصحراوي هو المهدد البيولوجي الأول للمحاصيل في السودان في القرن العشرين. وبذلت مجهودات كبيرة لمكافحته عبر سنوات ذلك القرن. فقد طاف مسؤول الحشرات الأول في حكومة السودان في الثلاثينات بكل أنحاء دارفور لتقييم سبل المكافحة المستخدمة. وتوصل أيضا إلى أن مشكلة الجراد الصحراوي المهاجر من تشاد هي مشكلة محصورة في دارفور فقط. ويذكر هنا أن للفور مداوي لمشكلة الجراد يسمونه "الدمباري"، يعمل بسحره الخاص على إبعاد الجراد عن المحصول الزراعي. ونشرت السيدة كونستانس هيدليستون (زوجة الحاكم العام السير هيربرت هيدليستون) مقالا طريفا في عام 1946م بمجلة "السودان في رسائل ومدونات" عن طريقة الفور في اصطياد نوع من النمل الأبيض (alate termites) وأكله. وأضافت أن النساء يأكلنه نيئا وحيا كما هو (بجناحيه)، بينما يؤثر الرجال طهيه أولا.
وكانت معظم الحشرات التي كتب عنها أولئك البريطانيون اكتشافات بيولوجية غير مسبوقة في عهدها.
ودرس واي. أم. كولي في منتصف الأربعينات ثعابين منطقة الجنينية والحدود السودانية – الشادية، وجمع منها 60 عينة مكونة من 11 نوعا مختلفا، شملت الكوبرا وغيرها من الأنواع، ووجد أن ثلاثة من تلك الثعابين شديدة السمية للإنسان. وتم نشر دراسة الرجل في عام 1946م بمجلة "السودان في رسائل ومدونات". ولم تضم مجموعة كولي أي ثعبان من نوع الأصلة أو الأفعوان النَفَّاخ. غير أن بعض أفراد سلاح الطيران الملكي الذين كانوا يقيمون بالجنينة، وبعض سكانها أيضا، ذكروا أنهم شاهدوا النوعين بالمنطقة.
ولم تكن هنالك – بخلاف ما ذكره الرحالة البريطاني براون عام 1799م - غير القليل من الإشارات إلى وجود تماسيح في مكان "غريب" في السودان كدارفور. غير أنه ذكر في إحدى الخرائط الطبوغرافية بين عامي 1920 – 1923م أن المنطقة الواقعة بين 12° 15 شمالا و 22° 40' شرقا على طول الجانب الغربي لوادي أزُوم بها "سلسلة من برك المياه التي تسبح فيها الأسماك والتماسيح طوال العام". وكتب حاكم دارفور جراهام ديدلي لامبن في عام 1933م عن البقارة مقالا في مجلة "السودان في رسائل ومدونات"، وذكر أنهم في جنوب دارفور يعدون بيض التماسيح من أشهي الأطعمة. وذكر بوتسيد في كتابه عام 1971 أن بحر العرب في شرق دارفور كان "مليئا بالتماسيح وأفراس النهر" في الثلاثينيات. وأكد تي أوين ذات المعلومة في عام 1951م.
وكتب عالم الآثار (القس) أنتوني جون آركل في عام 1926م عن وجود أنواع مختلفة من القواقع في اليابسة وفي المياه العذبة في دارفور وكردفان، ونشر ما سجله من معلومات في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في عددها السادس والعشرين، الصادر عام 1945م.
أما الأسماك فقد كانت تشكل جزءً قليلا من بيئة واقتصاد دارفور، غير أنها كانت ذات أهمية في مناطق دارفور الجنوبية (على بحر العرب)، ووادي أزُوم في غربها. وكان الناس في زالنجي يقومون باستزراع نوع من السمك هو القرموط (catfish) في الآبار من أجل إبقاء مياهها نظيفة وخالية من الطحالب. وكنت قد نشرت دراسة قصيرة عام 1980م عن 27 نوعا مختلفا من الأسماك في جنوب دارفور، ولكني للغرابة لم أعثر على سمكة البياض (فرخ النيل Nile perch) من بين تلك الأنواع!
وكتب عدد من البريطانيين في ثلاثينيات القرن الماضي عن النباتات في دارفور، فقد نشر ماكسويل – دارلنق، ونيوبولد بمفرده ومع شو، بحوثا عن عدد من النباتات المعمرة والحولية (خاصة البقوليات) التي تنمو في شمال دارفور. ولاحظوا جميعا أن هذه النباتات تحتاج لأمطار متأخرة نسبيا (حتى أكتوبر)، ثم طقس بارد بعد ذلك. وسجلوا أيضا الأسماء العلمية لتلك النباتات باللاتينية، واسمائها المحلية. وتناولوا كذلك استخدامات تلك النباتات في تغذية الحيوانات الأليفة والمتوحشة، وكيف أن وفرة المراعي بتلك النباتات قد ساهمت في تقليل الصراعات القبلية. ونشر نيوبولد وشو في عام 1928م بمجلة "السودان في رسائل ومدونات" سجلا شاملا لغالب نباتات واحات وادي النطرون والنخيلة والسليمة، وكان من ضمنها نخيل التمر.
وبعث متحف التاريخ الطبيعي البريطاني بعالمين (هما جيمس ايدقار داندي ودينستان سكيلبيك) لدارفور في الفترة بين 26 ديسمبر 1933 و19 يناير 1934م لجمع عينات من النباتات. وبالفعل أفلح العالمان في جمع 237 عينة من نباتات دارفور (خاصة جبل مرة)، وحرصوا على أخذ ثلاث عينات من كل نبات ليودعوها في جامعة الخرطوم، والحديقة النباتية في كيوي، وفي متحف التاريخ الطبيعي بلندن (حيث فقدت بعص تلك العينات في حريق شب بالمتحف لاحقا).
لقد كان المفتشون في القسم السياسي لحكومة السودان يعيشون في مناطق نائية بعيدة عن "المدنية" الحديثة وحياتها المريحة. وكانت الحكومة قد منعت زواج الشباب الصغار منهم، وألزمتهم بالحصول مسبقا على تصريح من الحاكم العام قبل التفكير في الزواج (في الأمر تفصيل بحسب ما جاء في المقال المترجمين بعنوان " القسم السياسي في دولة الحكم الثنائي: صورة الإمبرياليين" و "كيف كان الإداريون البريطانيون يقضون أوقات فراغهم في السودان؟" المترجم). ولم يقف ذلك المنع من إقدام بعضهم على الزواج، رغم شظف الحال في تلك المناطق النائية (مثل دارفور). وكانت منطقة جبل مرة هي قبلة المفتشين البريطانيين وزوجاتهم لقضاء عطلات قصيرة بعيدا عن الحر الشديد والغبار المزعج في مناطق عملهم. واستثمرت زوجات الإداريين أوقاتهن في جبل مرة في جمع عينات كثيرة من نباتات المنطقة، وجدت كثير منها طريقها إلى الحديقة النباتية في كيوي (ذكر الكاتب بتفصيل شديد أسماء الزوجات البريطانيات اللواتي قمن بجمع عينات نباتات من جبل مرة. المترجم).
alibadreldin@hotmail.com