The Biological Exploration of Darfur (1799 – 1998), 1/2 Richard Trevor Wilson ريتشارد تريفور ويلسون ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لقليل مما جاء في مقال طويل عن الاستكشاف البيولوجي في دارفور في القرنين التاسع عشر والعشرين، نُشر عام 2012م في العدد التاسع والثلاثين من مجلة "محفوظات التاريخ الطبيعي Archives of natural history". وكاتب المقال عالم بريطاني متقاعد له اهتمامات بحثية في مجالات البيئة والعلوم الزراعية والإنتاج الحيواني في مختلف المناطق المدارية على مدى عقود طويلة. وكان الرجل قد ساهم في سبعينيات القرن الماضي مع منظمة الوحدة الأفريقية في عمل مسح جوي منخفض المستوى لأعداد الثروة الحيوانية في السودان. ونشر الرجل أكثر من 13 ورقة علمية عن السودان (خاصة مناطق دارفور المختلفة) في مجالات مختلفة شملت دراسات عن الإنتاج الحيواني في مختلف الأنواع، والبيئة (مثل دراسته عن الرّئِيسات / القرود primates في دارفور)، وتاريخ الحيوانات في القرنين التاسع عشر والعشرين. ونشر أيضا في ذات المواضيع في تنزانيا وتركيا والهند وغيرها من بلدان العالم النامي. المترجم ***** ***** ****** مقدمة تقع دارفور في أقصى شمال وغرب جمهورية السودان، بين خطي عرض 10 جنوبا و20 شمالا، وخطي طول 22 غربا، و27 شرقا. وتبلغ مساحتها أكثر من 400,000 ك.م. وتنعدم الأمطار تقريبا في شمالها، بينما تهطل على جنوبها الأمطار بأكثر من 800 مم في كل خريف. وتتراوح الارتفاعات فيها بين 300 إلى 600 م، ما عدا في منطقة جبل مرة في منتصف غرب دارفور الذي يبلغ ارتفاعه 3,000م، وفي بعض التلال في الشمال. سلطنة دارفور قبل عام 1916م وجدت أقدم آثار ذات طبيعة بيولوجية بدارفور في العصر الحجري الحديث قبل نحو 11,500 سنة. وتمثلت تلك الآثار في رسومات على الصخور في وادي هور، وجبل تقابو في شمال جبل مرة، وشملت رسوما لفيل وضبع وزرافة وأسد. ولم يزر دارفور في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر سوى عدد قليل من الغربيين. وكتب بعض هؤلاء عن تفاصيل رحلاتهم واكتشافاتهم. فقد كتب وليام جورج براون في عام 1799م عن وجود الأَرَضة (النمل الأبيض) في دارفور، والذي وصفه بأنه "شديد الازعاج، ويمكنه أن يشق طريقه في الخيمة مخربا لكل ما فيها". وسجل باقي ملاحظاته البيولوجية في كتابه بالفصل الثامن عشر، الذي عنونه بـ "الحيوانات الرباعية الأطراف – الطيور – الزواحف – الحشرات – المعادن والأملاح – والنباتات". ويعدما وصف حيوانات دارفور المستأنسة كتب عن حيواناتها البرية، ووصفها بأنها "حيوانات مفترسة" مثل الأسود والفهود والضباع والذئاب والجواميس البرية. ولاحظ أن تلك الحيوانات المفترسة (عدا الضباع والذئاب) لا تُرى إلا نادرا جدا في المناطق المعمورة في دارفور. وتكثر تلك الحيوانات في البلاد المجاورة لدارفور، وتشكل خطرا كبيرا على المسافرين من وإلى دارفور. وذكر براون أيضا أنه شاهد مجموعات كبيرة من الأفيال (في قطعان تتكون من 400 إلى 500، ويصل عدد بعضها إلى 2,000)، وأعدادا كبيرة من وحيد القرن وفرس النهر، ونوع من الزراف يسمى camelopardalis، والتماسيح. وذكر براون أن الأهالي يقتلون الفِيَلة من أجل لحومها وأنيابها، ويصطادون أفراس النهر للحصول على جلودها (لصناعة السياط والدروع) وأسنانها، التي تفوق قيمتها المادية أسنان الفيل (العاج). ويقتلون أيضا وحيد القرن للحصول على قرنه (الذي يشكل مع ريش النعام أهم المنتجات المصدرة للخارج عبر القوافل). ومن الحيوانات البرية المنتشرة والكثيرة العدد في مناطق دارفور المختلفة هي الظباء / الأبقار الوحشية والنعام. وكان الأهالي يحتفظون بقطط الزباد في أقفاص لإنتاج المسك. وأتى براون أيضا على ذكر حيوانات أخرى رباعية الأطراف شملت اليربوع، وأنواعا مختلفة من القرود منها العبلنج /العبلاج (اسمه العلمي Simia aethiops). وسجل براون أيضا وجود تسعة أنواع من الطيور (ذكرها بأسمائها العلمية والانجليزية. المترجم). وزعم براون أنه قام بجمع أعداد كبيرة من الزواحف والحشرات من دارفور، ولكنه فقدها لاحقا في حادثة ما. غير أني لست متأكد من زعمه هذا، وأرى أنه قد سجل في كتابه أسماء زواحف وحشرات لم يرها أصلا (أورد الكاتب نصوصا من كتاب بروان فيه تفصيل شديد لبعض العقارب والثعابين والحيوانات الأخرى التي يشك في أن براون وجدها في المنطقة. يمكن النظر في المقال المترجم بعنوان: "أول من وطأت قدماه أرض دارفور من الأوربيين: د.ج. براون". المترجم) وأتى براون أيضا على ذكر جراد الجزيرة العربية الذي كان يطوف على دارفور في بعض المواسم، وذكر أنه كان واسع الانتشار، وأن الناس (خاصة الرقيق) كانوا يشوون الجراد على الجمر ويأكلونه. وذكر أيضا وجود الناموس والبعوض وغيرهما من الحشرات المزعجة والضارة، خاصة في موسم الأمطار. وبعد أن تناول براون حيوانات دارفور، خصص نحو ست صفحات في كتابه لنباتات تلك السلطنة، وسجل اسم 34 نوعا منها، كان نصفها مما يزرعه السكان. واستخدم في ذلك الأسماء العربية المحلية، خاصة لبعض الأشجار، وذلك لعدم معرفته لأسمائها اللاتينية أو الإنجليزية. ومن النباتات التي سجلها نبات التمر هندي، الذي ذكر أنه ليس شائعا في المنطقة، ولكنه نبات كثيف الإنتاج! ومن النباتات التي سجل براون اسمائها، وتوسع قليلا في ذكر صفاتها المورفرولجية نبات العنب، وأشجار السنط، والعشر، والدلب، والدلب الغربي (الذي لا يثمر)، والنبق والهجليج وثمره، والخروب. ويستفاد من بعض تلك الأشجار في عمل زرائب شوكية، وتوضع أوراق بعضها في وسط البضائع والمفارش والسجاجيد للحد من غزوات الأَرَضة. ولعل الرحالة العربي محمد بن عمر التونسي (1854م) هو أفضل من وصف دارفور بعد أن زراها في خمسينيات القرن التاسع عشر الباكرة. وكان من ضمن ما وصفه في كتابه عن تلك الرحلة ريش النعام واستخداماته العديدة، وأشار أيضا إلى أن بيض النعام كان يستخدم لزخرفة وتزيين أسقف المنازل. وكتب أيضا أن "العرب .... يجدون في دارفور كل ما يحتاجونه من ضروريات الحياة... وبدارفور يجدون أيضا ريش النعام وقرون وحيد القرن متوفرا بكميات هائلة تكاد تجعلهما عديمي القيمة التجارية". ووصف في كتابه أيضا صيد رجال قبيلة الحمر للزراف وهم على ظهور خيولهم، وقطعهم لأوتار مأبض (باطن ركبة) تلك الحيوانات بالسيوف، قبل أن يقذفوها بالحراب. وبالإضافة إلى كتابات براون السطحية، هنالك أيضا كتابات الألماني جوستاف ناختيغال (1834 – 1885م)، الذي زار دارفور في بدايات سبعينيات القرن التاسع عشر. واقتصرت كتابات ناختيغال على التاريخ الطبيعي بدارفور، ولا غرو فقد كان مجيدا لملاحظة ومراقبة الأمور البيئية، خاصة ايكولوجية (علم التبيؤ) النباتات. وكان ناختيغال يعزو وجود تلك النباتات ووفرتها في تلك المواقع التي وجدها فيها إلى أنواع التربة، ورطوبتها وغير ذلك من العوامل الطبيعية. ولاحظ أيضا أن نعام دارفور يتميز بحجم كبير جدا ولون جاذب، رغم أن ما تجلبه السلطنة من عاج كان في تناقص مستمر بسبب أن النعام في جنوب دارفور كان يرسل للخارج عبر بحر الغزال. ومع سقوط دارفور في يد الحكومة المصرية بين عامي 1875 – 1876م بدأت حركة جادة للكتابة عن مختلف الجوانب في السلطنة. وقاد العقيد المهندس الأمريكي إرياسمس سبارو بوردي (الضابط المخضرم الذي شارك في الحرب الأهلية، والمتوفي في 1881م) حملة إلى أقصى جنوب دارفور. وجمع بوردي في رحلته تلك مجموعة صغيرة من النباتات من المناطق شبه الجافة، وكتب عن كل نبات مذكرة شارحة صغيرة، ثبت لاحقا أنها لم تكن مفيدة بصورة كبيرة. وتم تعيين الدكتور يوحنا دانيال كريستيان فوند (المولود في 21 أغسطس 1876م) في خدمة الحكومة المصرية كعالم مختص في العلوم الطبيعية. وقام فوند بجمع الألاف من عينات النباتات والبذور وقطع الأخشاب، غير أنه توفي قبل أن يكتب شيئا عن مجموعته تلك. وبُعث لاحقا بمعظم ما جمعه الرجل إلى القاهرة، حيث صُنف منها 625 نوعا. وتنقلت مجموعة فوند بعد ذلك من مركز لمركز، وأرسلت نسخ منها إلى الحديقة النباتية في باريس وكيوي ببريطانيا. ولم يكن في مجموعة فوند تلك أي نبات لم يكن معروفا من قبل. غير أن أهمية تلك المجموعة أنها كانت أول مجموعة متكاملة من دارفور، وأن كل نبات فيها كان مرفقا بشرح مقتضب. وظلت تلك هي المجموعة المعتمدة لنباتات دارفور لخمسين عاما تقريبا. لم تمتد طويلا سيطرة الأوروبيين الذين عينتهم الحكومة المصرية وبعثت بهم في حملات استكشافية لدارفور. ولم تطأ أقدام هؤلاء دارفور لثلاثين عاما. غير أن ذلك لم يكن يعني أنه لم تتوفر أي معلومات عن دارفور في تلك الفترة. فقد كان هنالك قسم للمخابرات يعمل بنشاط كبير في مناطق حدود سلطنة دارفور، بل في داخلها. وتم جمع الكثير من المعلومات عن التجارة في دارفور مثلا، خاصة تجارة ريش النعام والعاج، بل وحتى عن تأثير هجمات الحيوانات المفترسة على أعداد الحيوانات المزرعية والمستأنسة. ودونت كل تلك المعلومات في تقارير مالية وعسكرية واقتصادية، أُطلع عليها الإداريون وضباط الجيش. وكان النعام "من أهم الموضوعات الأساس في تلك التقارير، ولا عجب، إذ أن ريشه كان من أهم المواد التجارية المصدرة من دارفور، وشكلت أهم جزء في الضريبة / الجزية التي فُرضت على سلطان دارفور من قبل حكومة السودان (إضافة إلى الزراف الحي، والفهود الحية)، وتلك التي فرضها سلطان دارفور الأكبر على السلاطين الأقل شأنا في دارفور نفسها. وكان النعام منتشرا بصورة كبيرة في شرق دارفور في سبعينيات القرن التاسع عشر، وسجل ناختيغال في مذكراته أن أكواما هائلة من ذلك الريش كانت تترك في مخازن السلطان حتى تتعفن. وكان كثير من سكان دارفور يحتفظون بالنعام في منازلهم باعتباره حيوانا مستأنسا حتى بدايات القرن العشرين. وذكر ناختيغال في كتابه أيضا أن أحد معاوني السلطان "استولى على 300 من الطيور التي كان أهالي منطقة معينة يربونها لريشها، وذلك عوضا عن الضرائب / الإتاوات التي كانت مفروضة عليهم". وربما بدأت أعداد النعام في بَرّيَّة دارفور بالتناقص في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، ولكنها عادت للتزايد فيما يبدو بعد ذلك، خاصة في شمال شرق وجنوب غرب دارفور. وظلت التقارير العسكرية والمدنية عن دارفور تزيد من حجم المعلومات عن بيئة دارفور وحيواناتها، خاصة الثَدييّات الكبيرة.