الانتخابات وعواقبها .. زيارة جديدة لمقال قديم …. بقلم: خالد التيجاني النور
15 April, 2010
tigani60@hotmail.com
لما كنت بصدد كتابة مقالي لهذا الأسبوع عن المشهد السياسي في البلاد ومآلاته على خلفية الانتخابات الجارية حالياً, عدت إلى مقال كتبته ونشرته في هذا المكان قبل نحو سنتين, وبعد إعادة قراءته رأيت أنه يجوز لي أن أزعم أن ما أوردته فيه يكاد يكون قد تنبأ ببعض ما نعايشه اليوم من تطورات, لا سيما تحذيره من انعكاسات سلبية لتبعات الانتخابات على وحدة البلاد, وقد جادل المقال حول ذلك داعياً إلى عدم مساومة الانتخابات بالانفصال مما حمله عنوانه (لماذا يجب تأجيل الانتخابات إلى ما بعد الاستفتاء على تقرير المصير؟), وكان ذلك عقب محادثات بين شريكي نيفاشا (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) جرت في مدينة جوبا كان الكاتب من بين شهودها.
وأشير إلى أن المقال نشر ب(صحيفة إيلاف العدد 179 بتاريخ 22 يونيو 2008, وبجريدة الصحافة العدد 5399 بتاريخ 23 يونيو 2008).
وإلى نص المقال
من المؤكد أن محادثات اللجنة السياسية التنفيذية العليا بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، شريكي تسوية نيفاشا، التي انعقدت بجوبا الأسبوع الماضي، قد أعطت دفعة قوية انعشت عملية السلام وجددت روحها، على خلفية الاتفاق على جملة قضايا عالقة ظلت محل جدل في الساحة الوطنية.
ولعل الاختراق الأبرز في هذه المحادثات هو الاتفاق بين الشريكين على تسوية بشأن المسائل الخلافية العالقة بينهما حول النظام الانتخابي، مما يشير إلى أن إقرار قانون الانتخابات، الذي ظل حبيس الجدل الكثيف حوله لفترة طويلة، بات مسألة وقت لا أكثر في انتظار عملية إخراج تجنب الطرفين الإحراج السياسي أمام حلفاء محتملين، كان كلا الطرفين أمضيا معها اتفاقات، أو مواقف سياسية، بشأن القانون قبل اتفاقهما الأخير.
وعلى الرغم من الاتفاق بشأن النظام الانتخابي، حول نسب الدوائر الجغرافية أو التمثيلية، والكليات الانتخابية القومية والولائية، الذي يمهد الطريق لإصدار قانون الانتخابات، فمن المؤكد أن ذلك سيؤدي إلى جدل كثيف ستثيره بعض القوى السياسية المعارضة التي ستنظر إلى هذا الأمر من باب أنه سيضر بمصالحها، بالنظر إلى أنها كانت تعلق آمالاً على كسب الحركة الشعبية إلى جانبها في تحالف يقود إلى الإطاحة بالمؤتمر الوطني عبر صناديق الاقتراع.
صحيح أنه من المبكر قراءة اتفاق جوبا بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بشأن النظام الانتخابي بما يعني بالضرورة إقامة تحالف انتخابي بينهما، ولكن صحيح أيضا أن هذا الاتفاق لم يكن ممكناً بدون تحليل الدوافع الموحية بذلك، والتي أدت إليه، فعلى الرغم من المنازعات التي طبعت علاقات الطرفين في عدد القضايا خلال الفترة الماضية منذ بدء الفترة الانتقالية، ولكنهما ظلا يدركان في نهاية الأمر أن مصالح كل طرف لا يمكن تحقيقها بدون رعاية مصالح الطرف الآخر، وبدون ذلك لم يكن ممكناً لعملية السلام أن تظل مستمرة رغم كل العقبات التي واجهتها.
بيد أن المسألة الأكثر أهمية في هذا الأمر لا تتعلق بمجرد إصدار قانون الانتخابات، ونظامها المثير للجدل، ولكن ينبغي أن تصوب القوى السياسية المختلفة النظر في جدوى إجراء الانتخابات في التوقيت الذي نص عليه الدستور بحلول التاسع من يوليو 2009، أي بعد نحو عام من الآن.
وتصويب النظر الذي نشير إليه بشأن جدوى الاستحقاق الانتخابي، لا ينبغي النظر إليه بعيون المصلحة الحزبية لأي طرف سياسي، بل بمحددات ومعايير المصلحة الوطنية، والإجابة عن سؤال رئيسي: هل سيساعد إجراء الانتخابات في الوقت المحدد على تحقيق مقاصد الاستقرار، والتحول الديمقراطي، والشرعية الدستورية، والتنمية أم يكون التمسك بإجرائها في هذا التوقيت، دون تبصر في الشروط الموضوعية المؤدية إلى تحقيق مقاصدها، سيكون سبيلاً إلى إثارة المزيد من الاضطراب، وزعزعة ما تحقق للبلاد من استقرار؟.
ولعله من المهم الإشارة هنا إلى ان مجرد إصدار قانون الانتخابات سيمثل خطوة مهمة في اتجاه إجراء الاستحقاق الانتخابي، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن قيامها سيصبح أمراً حتمياً في الوقت المحدد لها دستورياً، والأمر هنا لا يتعلق بنية القوى السياسية، خاصة الشريكين، وعزمهما على إجرائها أم لا، ولكن يتعلق بترتيبات إدارية عملية لا يبدو أن فترة الإثنتي عشر شهراً المتبقية ستكون كافية لاكتمالها، فلا يزال هناك مشوار يجب أن يقطع بشأن تشكيل مفوضية الانتخابات التي تقع على عاتقها المسؤولية الكاملة في إعداد كل الترتيبات اللازمة لإجراء الانتخابات.
ومن المؤكد أن جدلاً كبيراً سيثور حول تشكيل المفوضية، ولن يكون سهلاً الاتفاق على أعضاء المفوضية المفترض توفر أكبر قدر من رضا القوى السياسية عنهم، وثقتها في حيدتهم؛ لأن ذلك شرط اساسي في إكساب العملية الانتخابية الشرعية اللازمة التي تجعل لإجرائها معنًى سياسياً يحقق مقاصد الاستحقاق الانتخابي.
وسيكون أمام المفوضية بعد تشكيلها طريق طويل لتأسيس عملها قبل الشروع في مهمتها الأساسية،ترسيم الدوائر واعتماد كشوفات الناخبين، وترتيبات عملية التصويت، فضلاً عن تفاصيل إدارية أخرى، وكل هذه إجراءات معقدة لا يمكن إنجازها على عجل في وقت تتطلب فيه العملية الانتخابية توفر شروط الشفافية والدقة والحيدة والنزاهة.
وأشير هنا إلى مفارقة تؤكد مدى التعقيد المحيط بالاستحقاق الانتخابي، فحسب ملحقات اتفاقية السلام الشامل في الباب الخاص بوسائل تنفيذ بروتوكولي مشاكوس واقتسام السلطة، فإن مصفوفة التنفيذ تنص على إصدار قانون الانتخابات القومية خلال ستة أشهر من بداية الفترة الانتقالية، وهذا يعني أن قانون الانتخابات كان ينبغي أن يكون صدر بنهاية العام 2005، ولكن مضت الآن سنتان ونصف السنة على ذلك الموعد، ولا يزال القانون في انتظار الاتفاق بشأنه.
هذا من ناحية الترتيبات العملية الموضوعية، التي تتطلب التمهل من الذين قد يصرون على ضرورة إجراء الانتخابات في الموعد المحدد بنص دستوري ، ولكن من ناحية قراءة سياسية لمجمل الأوضاع السياسية في البلاد ومآلاتها المحتملة، هل هناك أية حكمة في إجراء الانتخابات العامة المفترض فيها أن تحدد موازين القوى السياسية وإكساب الشرعية وتشكيل النظام السياسي في البلاد للسنوات الخمس المقبلة، قبل ثمانية عشر شهرا فقط من ذهاب مواطني جنوب السودان للتصويت على تقرير مصيرهم، فحسب مصفوفة تنفيذ اتفاقية السلام، فإن الاستفتاء يجب أن يجرى قبل ستة اشهر من نهاية الفترة الانتقالية، أي بحلول التاسع من يناير 2011، وفي الواقع فإن الاستفتاء على تقرير المصير لا يحدد مستقبل الجنوب السياسي فحسب، بل سيحدد عملياً مصير ومستقبل السودان كله، ما إذا كان سيظل موحداً، أم سينقسم إلى دولتين، وما يترتب على ذلك.
وعندما يكون البلد مواجهاً بمثل هذا الموقف الذي يحدد مصيره ومستقبله، فلا يتوقع من أية قوة سياسية تمتلك الحد الأدنى من الحس الوطني ألا تكون المحافظة على وحدة البلاد هي أولويتها القصوى المقدمة على عداها من أية مصالح، وليس هناك شك في أن إجراء انتخابات تحدد شكل النظام السياسي سيكون في صالح القوى السياسية، سواء تلك التي تريد المحافظة على سلطتها، أوتلك التي تسعى للوصول إلى السلطة، ولكن في الحالين فإن ذلك لن يصب بالضرورة في المصلحة الوطنية العليا، لسبب اساسي هو أن الانتخابات ستجرى في ظل جو تنافسي سياسي لا تتوفر له بالمعطيات الراهنة أجواء صحية، بل ستكون معركة أقرب إلى كسر العظم منها إلى تنافس في أجواء صحية ملائمة تفرز شرعية انتخابية مقر بها من قبل الجميع، ولا يحتاج المرء إلى إقامة دليل على فساد الأجواء السياسية التي تخيم على البلاد في الوقت الراهن، مما سينعكس سلباً على مخرجات العملية الانتخابية.
ومن المؤكد أن التنافس السياسي في أجواء غير معافاة سيزيد الأوضاع المتأججة اصلاً، وسينشغل كل فريق بمعاركه ومصالحه الحزبية، وفي ظل مثل هذه الظروف لن يملك أي طرف ترف التفكير في أمر التحدي الوشيك الذي سيحدد مصير البلاد، وسيضحى مستقبلها يتيماً في حمأة العصبية الحزبية التي سيطلقها التنافس السياسي غير الرشيد من عقالها.
وإطلاق صافرة بدء العملية الانتخابية، دون النظر في اعتبارات تحدي تقرير المصير واستحقاقه الوشيك، سيجعل كل القوى السياسية منشغلة بشؤونها الحزبية ومصائرها الانتخابية، ولن توفر جهداً لقضية ينبغي أن يصرف إليها كل الهم الوطني من أجل تعضيد خيار الوحدة السياسية للبلاد، وتمكين وحدة الوجدان الوطني، وتعمير الشعور بالمصير المشترك للشعب السوداني.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الوعي بالتحدي المصيري الذي يواجه البلاد يعاني فقراً مدقعاً في الشعور الوطني للقوى السياسية المختلفة، وثمة غفلة كبيرة في الأوساط الشعبية لهذا الاستحقاق الذي يزداد اقتراباً دون أن يبدو أن هناك من يكترث به على الوجه الذي يستحقه، ولا يبدو أن هناك قدراً كافٍٍياً من التحسب لعواقب هذا التحدي إن قرر الجنوب الذهاب في حال سبيله، ومن يتبصر جيداً في مآلات هذا الخيار- إن قدر له أن يحدث- فإن ذلك لن يعني بأية حال ما يتمناه البعض بأنه سيكون نهاية لحقبة من المشاكل المزمنة، بل سيكون بداية لفصل جديد من أوضاع أكثر تعقيداً لن يسلم جراءها ما تبقى من السودان، أو ما ذهب منفصلاً.
وعلى الرغم من الإرادة السياسية المعلنة لطرفي اتفاقية السلام بشأن جعل الوحدة خياراً جاذباً، فإن الواقع يشير إلى أن القليل جداً من الجهد قد بذل في سبيل تعضيد وتقوية هذا الخيار بوسائل عملية، في وقت يمضي فيه الوقت مسرعاً نحو موعد الاستفتاء على تقرير المصير، ولا يزال هناك الكثير الذي يجب عمله للتأكيد على هذه الإرادة السياسية، فالمعطيات الموجبة لصالح الوحدة أكبر بكثير من تلك التي تشد للانفصال، ولكن المطلوب توظيفها في سباق مع الزمن، ولقد كان لافتاً ذلك الأثر الوجداني العميق الذي تركته زيارة نائب رئيس الجمهورية، الأستاذ علي عثمان محمد طه لجوبا وبقاؤه فيها ليومين، فقد كان ذلك محل تقدير وحفاوة من قيادة الحركة الشعبية، مما أثار الانتباه إلى أن فتح أبواب التواصل باتجاه الجنوب أمر لا يقل أهمية بأية حال عن غيره في جهود بناء قواعد الوحدة الجاذبة، ولعل قادة المؤتمر الوطني وغيره من القوى السياسية يلتقطون هذه الإشارة الوجدانية من قادة الجنوب، وينفتحون باتجاهه وبوتيرة مستمرة حتى لا تكون زيارة الزعماء الشماليين للجنوب حدثاً في حد ذاتها.
وبالطبع هناك من يرى أن إجراء الاستحقاق الانتخابي في موعده الدستوري أمر لا بد منه؛ لأن ذلك شرط لازم للمضي باتجاه التحول الديمقراطي، وأن المطالبة بتأجيل الانتخابات التفاف على هذا الاستحقاق، وأنه بمثابة تقديم خدمة مجانية لتبرير استمرار المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في الانفراد بالسلطة، ومع الإقرار بوجاهة هذا الرأي من ناحية الشكل، إلا أنه يحتاج إلى فحص وتدقيق موضوعي.
فالزعم بأن التحول الديمقراطي سيتحقق بمجرد إجراء انتخابات عامة حتى ولو تمت في نزاهة وحيدة تامة، وبغض النظر عمن سينُتخَب، هو وهم كبير، لسببين أولهما أن الديمقراطية الليبرالية التي يتحدث باسمها كثيرون لا وجود لها في واقعنا السياسي، ببساطة لأنه لا توجد لها في بلادنا قواعد حقيقية اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية تستند إليها، وهي مسألة أقر بها في اعتراف نادر أكبر دعاتها، السيد الصادق المهدي.
والسبب الثاني هو أن أياً من تلك القوى السياسية التي تدعو للديمقراطية الليبرالية لا تمارسها حقاً، حتى بافتراض وجود قواعد لها، داخل أحزابها، فكيف يستقيم أن تفتقر للممارسة الديمقراطية داخل تنظيماتها ثم تزعم أنها ستطبقها أو تطالب بها في مؤسسات الحكم؟، ففاقد الشئ لا يعطيه!.
ولقد حان الوقت لأن تراجع القوى السياسية المختلفة شعاراتها المعلقة في الهواء، وحان الوقت لأن يتفق السودانيون على نظام سياسي قائم على الحقائق الموضوعية للواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمعهم، ولا بأس من الدعوة لتطويره باتجاه نظام ديمقراطي حقيقي، لكن ذلك لا يأتي بقفزة في الهواء، ولا بالتمني والأحلام، ولكن بنظام مستند على الجذور الحقيقية للمجتمع.
ولذلك فإن الزعم بأن الدعوة لتأجيل الانتخابات ستؤخر التحول الديمقراطي قول لا يسنده منطق، ولا الممارسة العملية الراهنة سواء في نظامنا السياسي الحاكم، أو في الوسط السياسي المعارض، ولا يُتصور أن الشروط الموضوعية للتحول الديمقراطي المفتقدة بشدة ستتحقق خلال أقل من عام بمجرد إجراء انتخابات عامة.
ومن الطريف، الإشارة هنا إلى أن المؤتمر الوطني يبدو متمسكاً باتمام الاستحقاق الانتخابي؛ لأنه يرى أن ذلك سيحقق له شرعية سياسية إضافية، تمكنه من البقاء في السلطة لخمس سنوات قادمة، في حين يعتبر خصومه أن الانتخابات ستوفر فرصة لتحالف قوي يقود للإطاحة بالمؤتمر الوطني الذي قضى عقدين في سدة السلطة. وفي الحالين، لا يبدو أن هناك من يضع وزناً لمصير البلاد الذي يجب أن يكون هو الاستحقاق الأهم لكل القوى الوطنية.
ولذلك من الحكمة أن تتفق القوى الوطنية على تأجيل الانتخابات العامة إلى ما بعد الاستفتاء على تقرير المصير؛ أولاً لأنه يجب أن تصب كل الجهود الوطنية في دعم جهود المحافظة على وحدة البلاد، وثانياً لأن مستقبل البلاد سيكون تحدد بشكل يمكن من أن يكون التنافس الانتخابي قائماً على واقع معلوم، خاصة وأن الفترة بين موعدي الانتخابات العامة، والاستفتاء على تقرير المصير، لا تتعدى الثمانية عشر شهرا.
ومع ذلك، لا يجب أن يكون هذا التمديد هدية مجانية للمؤتمر الوطني والحركة الشعبية، فالمطلوب منهما المبادرة بتوسيع دائرة الحكم إلى حكومة قومية تكون مهمتها الأساسية العمل على توفير كل الظروف المواتية لجعل خيار الوحدة جاذباً، والبند الثاني في مهمتها الإعداد لإجراء انتخابات عامة عقب الاستفتاء على تقرير المصير، وتهيئة الأجواء لقيامها في أجواء تنافس سليمة تحقق الغاية من مقاصدها.
والأمل أن يتحول المؤتمر الجامع الذي اتفق حزبا المؤتمر الوطني والأمة القومي في اتفاقية التراضي على إقامته، إلى ساحة تلتقي فيها كل الأطراف السياسية السودانية، وتبحث فيها هذه القضايا بموضوعية بعيداً عن الأوهام والأحلام السياسية وتصفية الحسابات الحزبية الضيقة، ولا ينبغي ان تسود الأجندة الخاصة للذين يستبطئون التغيير أو الذين يستدعونه، على المصلحة الوطنية المتمثلة في أولوية الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها.