البروفيسور علي عبد القادر: رحيل مُفكر مُلْهِم وصاحب عقل محايد (1-3)

 


 

 

abdallaelbashir@gmail.com

على الرغم من أن مكانة الأستاذ الجامعي، لها وقار واحترام مستحق، وقد تبوأها البروفيسور علي عبد القادر علي (1944- الجمعة 16 سبتمبر 2022)، ردحاً من السنوات في جامعتي الخرطوم والجزيرة، أستاذاً للدراسات الاقتصادية، واقتصاديات التنمية، وكان واحداً من المؤسسين الأوائل لجامعة الجزيرة، إلا أنها مكانة لا تسعه، وقطعاً يشاركني في هذا الرأي طلابه وزملاؤه. كما أن مقعد القائد والمدير، له هيبة وهالة، وقد جلس عليه البروفيسور علي عبد القادر، سنوات عديدة، حيث عمل مديراً للبحوث في المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، الكويت، ومديراً لقسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة. ونائباً للمدير العام في المعهد العربي للتخطيط بدولة الكويت، ومديراً للأبحاث بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، إلا أن المقعد لم يك كافياً لتقديم تعريف وافي ومنصف عنه. إن الأستاذ الجامعي والقائد والمدير، وبحكم أنه يمثل نموذجاً إرشادياً يحتذى، وصاحب إسهام في تكييف حياة الناس وأوضاعهم، إن لم يكن مُلْهِماً ومُلهَماً، ومتواضعاً، وصاحب عقل محايد، يكون هو الشخص الخطأ، الذي أحتل مكاناً أكبر منه، وجلس في مقعد ليس له، عندها يجافيه الحق، لا يجري على لسانه وقلبه، فينمحق عمله ويندثر أثره. والإِلهام هو أمر يخص الله به بعض أصفيائه، وهو حالة سموّ في الذِّهن والرُّوح تسبق التَّأليف الخلاَّق، ويحسّ به الإنسان كأنّه يتلقَّى عونا من مصدر علويّ. والإنسان المُلهِم هو الذي يوعز ويوحي من صور وأَفكار ومعان، ويزداد في إلهام الآخرين والعطاء بتواضعه. والتواضع "هو أصل الخلق الرصين، الذي يسوق إليه العلم الصحيح"، والمتواضع لا يغالط، يسمو عن ذلك بصحة علمه وحياد عقله. والعقل المحايد هو "العقل الذي لم يتأثر بالرغبة"، كما ذكر أرسطو في تعريفه للقانون، وأوضح المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، بأن "العقل المحايد هو العقل العادل". وأضاف بأن تحييد العقل هو غرض التوحيد، الذي هو "ترويض العقل الحادث، عقل الإنسان، على محاكاة، أو قل تقليد، العقل الكلي في نزاهته عن الرغبة، وفي عدم ميله مع الهوى. ذلك لأن الهوى هو آفة التفكير الأساسية". وتحييد العقل هو عمل الدين، والعبادة إنما هي محاولة مستمرة لتحييد العقل.
إنا نشهد بأن فقيدنا البروفيسور علي عبد القادر على، كان مُلْهِماً ومُلهَماً، وكان منبعاً للتواضع أصل الخلق الرصين، وصاحب عقل محايد. إننا لا نزكيه على الله ولكننا نقدمه وندرسه كنموذج إرشادي يحتذى، معلم للأجيال وملهم لهم، وبالطبع سيتفق معي الذين عرفوه عن قرب من أصدقائه وزملائه وتلاميذه. وقطعاً لديهم الكثير من المواقف والقصص والدروس التي تؤكد ما ذهبنا إليه، وقد حكى بعضهم طرفاً منها في مقالات رثائهم له. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كتب عنه تلميذه وزميله بجامعة الخرطوم، الدكتور مالك بشير مالك، قائلاً: "لقد احببناه كطلاب له وازددنا به تعلقاً كمساعدي تدريس ثم كزملاء بالكلية [كلية الاقتصاد، جامعة الخرطوم] وفوق كل ذلك وطواله كأصدقاء لا نمل السماع إليه ومقابلته ودعاياته المحبوبة وتواضعه الجم مثالاً للعلماء…. لا نزكيه على بارئه". كما كتب تلميذه وزميله، الدكتور سيد عباس، جامعة الجزيرة، قائلاً: "فقد عهدنا وتعلمنا منه عفة اللسان واحترام آراء الآخرين والاستماع إليهم والاختلاف معهم بأدب، والثبات على المبدأ، وكلمة الحق مهما كلفته، وتعلمنا منه حب السودان..."، وأضاف الدكتور سيد، قائلاً: "إن استقامة شخصية علي عبد القادر تنبع من إيمان صاحبها، وإخلاص قلبه، واستقامة لسانه، فكان يوطن نفسه على القصد في الكلام، يقل خطؤه ويحسن قوله، ويتسم بالروية وعدم الاندفاع في الكلام، فهو إما أن يقول الخير، وإما أن يؤثر السكوت، ويلوذ بالصمت، وفي هذا ما يجعله مرموق الشخصية، محبوب الحديث لا يتبرم الناس بمجلسه، ولا يستثقلون رأيه". من جانبي أقف هنا عند موقف واحد كان فيه البروفيسور على عبد القادر ملهماً لي. وعبر هذا الموقف تعرَّفت عليه من قرب، وتطورت علاقتي به، فتكشفت لي الكثير من الحقائق، منها: احترامه الشديد للمفكر محمود محمد طه واعجابه بفكره ودوره، بصورة نادرة المثيل عند المثقفين، من غير تلاميذه الجمهوريين والجمهوريات. ووقفت كذلك على علاقته الخاصة بالأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، مدير جامعة ود مدني الأهلية، السودان، وهو من كبار الإخوان الجمهوريين. كذلك تكشف لي هيامه بالسودان، والتزامه تجاه السودان والإنسان. أيضاً أتاحت لي علاقته به التوسع في الاطلاع على انتاجه الفكري والالمام به، فضلاً عن نقاشاتي معه والتي كشفت لي عن تمتعه بالتواضع الجم والعقل المحايد. كما تعرفت على علاقته الخاصة بالبروفيسور أمارتيا سن، عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1998، وأستاذ الاقتصاد والفلسفة، حالياً، بجامعة هارفارد، بالولايات المتحدة. وتعود علاقته بأمارتيا سن، كما حكى لي، إلى ستينات القرن الماضي، حيث كان بحثه لنيل درجة البكالوريوس في الدراسات الاقتصادية (مرتبة الشرفة) عن أعمال أمارتيا سن. وحدثني عن سن وتميزه وعن إسهاماته الكبيرة في الدراسات الاقتصادية والتنموية في العالم منذ خمسينات القرن الماضي. وقد مثَّل سن مناسبة الموقف الذي كان فيه البروفيسور علي عبد القادر ملهماً لي.

*المفكر المُهِلم*

كنت في نهار الأربعاء 8 يناير 2014 قد قدمت سمناراً تلبية لدعوة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، دولة قطر، عن كتابي: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، الذي صدر في 31 أغسطس 2013، وهو أول كتاب أصدره عن محمود محمد طه وعن سيرته الفكرية. بعد تقديم السمنار، وما تم خلاله من نقاش، دعاني البروفيسور علي عبد القادر لتناول كوب قهوة في مكتبه، وكان أوانئذ مديراً للأبحاث بالمركز. كانت جلستنا تعبيراً منه عن الشراكة في الاحتفاء بالكتاب، وكنت قد أهديته نسخه منه. تحدث مشيداً بالكتاب وبالمنهج العلمي الذي أتبعته، وبالمجهود الذي أنفق فيه، وعبَّر عن سعادته بصدوره، وأضاف بأننا تأخرنا كثيراً في دراسة الأستاذ محمود محمد طه، وفي الاحتفاء بإنتاجه الفكري. وأشار إلى أن هذا التأخير جاء استجابة لحملات رجال الدين، ويحمل دلالات الخوف، إلى جانب عدم الاطلاع على الفكر الجمهوري، وهذا قصور ونقص يجب علينا جميعاً العمل على سده. ثم سألني عن رؤية محمود محمد طه تجاه التنمية، وقال لي لقد لاحَظت قلة كتاباته عن التنمية. ولمَّا لم تكن عندي إجابة شافية عن سؤاله ساعتئذ، لم أزد عن أن قلت له: إن محمود محمد طه أصدر كتاباً بعنوان: الدين والتنمية الاجتماعية، (1974)، ونشر بعض البيانات عن التنمية الاقتصادية في خمسينات القرن الماضي. ولم تكن الإجابة كافية بالنسبة لأستاذ متخصص في اقتصاديات التنمية، ومن جانبي لم أكن راضياً عن تلك الإجابة، غير أني صنفت السؤال في ذاكرتي. ثم أضاف طالباً مني الاهتمام بموضوع رؤية محمود محمد طه تجاه التنمية. كان بسؤاله وطلبه، وكأنه يوعز ويوحي لي بالإجابة، وهو يحمل مصباحاً أضاء عتمة في عقلي، وهو يدل على الدرب من تاه في البرية.
ودعته معلناً له عن وعدي، وقاطعاً على نفسي عهداً بالإجابة عن سؤاله والاهتمام بطلبه. ومن لحظة خروجي من مكتبه بدأت تتكشف لي معالم الإجابة، وكأنه أهداني مع سؤاله أساساً للإجابة وطرفاً منها. ثم ظللت أعمل، ولم يفارقني سؤاله وصوته وصورته، وظل علي عبدالقادر مصاحباً لي في قراءاتي وتأملاتي في الفكر الجمهوري، ولم يغب سؤاله عن مناخاتي الداخلية قط. وظلت هذه الرفقة حتى أتت الإجابة والتلبية لطلبه بعد سبع سنوات ونيف من الشهور، من تاريخ سؤاله وطلبه. وكانت الإجابة عبارة عن كتاب جاء بعنوان: *أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأماراتيا كومار سن (مقاربة)*، ط1، 2022.

*بصوته من القاهرة: "هذا كتاب مذهل"*

قبل صدور المقاربة بين محمود محمد طه وأماراتيا كومار سن في الكتاب، كنت قد أرسلت له مسودة الكتاب، وعرضت عليه فكرته وفصوله، وحدثته عن رحلة بحثي، وناقشت معه المنهج وكافة التفاصيل والنتائج والخلاصات، إلى جانب مراسلاتي للبروفيسور أمارتيا سن. كان ذلك عبر محادثات تلفونية عديدة، كانت منها محادثة بتاريخ 23 يونيو 2021، الساعة 21:30 بتوقيت الدوحة، وهو في القاهرة، وكان بصحبتنا زوجته الفضلى الأستاذة هدى عبد الستار، والتي كنت دوماً أتواصل معه عبرها، فكانت تستقبل مهاتفاتي والرسائل النصية والملفات بكامل الترحاب والأريحية والاحتفاء، ثم تحولني للحديث معه. وكان كذلك للسفير إبراهيم جعفر الشريف السوري، والذي تربطه علاقة خاصة وطويلة بالبروفيسور علي عبدالقادر، دور كبير في تجسير التواصل بيننا، وتبادل الآراء والأفكار. والسفير إبراهيم خبير ضليع، يجمع في تخصصه العلمي وخبرته العملية، ما بين التنمية والاقتصاد والدبلوماسية والمنظمات الدولية والإقليمية. وقد ضمني فريق عمل مع إبراهيم، كان هو رئيسه، وعملنا لفترة قصيرة، ولكنها كانت كبيرة بمعانيها ودلالاتها وآثارها. كانت تلك المحادثة مع البروفيسور علي عبد القادر طويلة وقد تتمحور حول الكتاب. وبعدما فرغت منها، رويت للأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، مساء نفس اليوم تفاصليها، فاقترح عليّ توثيقها بكتابة صورة قلمية عنها، ففعلت، وما كنت أدري أن تلك الصورة القلمية ستسعفني اليوم، ولكن الأستاذ عصام البوشي كان يدري!
في تلك المحادثة فصلت للبروفيسور علي عبدالقادر عن محاور الكتاب، مع ذكر المصادر والمراجع، وأوضحت له بأن ما طرحه أمارتيا سن قد تناوله محمود محمد طه منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، في العديد من كتبه وأحاديثه. وعلى الرغم من الاختلاف في المرجعيات الفكرية والثقافية بين طه وسن، فهناك توافق كبير بينهما، غير أن طه كان أعمق وأسبق وأشمل، وينتهي أمر الحرية عنده إلى العبودية لله. كان سن منطلقاً من العلم المادي التجريبي، وهو رجل لا ديني كما وصف نفسه، بينما ينطلق طه من الدين، ويدعو للمزج بين العلم المادي التجريبي والعلم الروحي التجريبي. مثَّل الإنسان الحر، عند طه، هدف التنمية وغايتها. والتنمية الاقتصادية، عنده، بدون إعطاء العناية بالفرد وحريته مكان الصدارة، منخذلة، ومنهزمة، وفاشلة منذ البداية، لأن الناس هم الثروة الحقيقية. وهو يقول: "لنجاح التنمية... لابد من الحرية"، وهذا ما عبَّر عنه سن، قائلاً: "الحرية مركزية لعملية التنمية". ويكاد قول سن: "إن المسئولية تقتضي الحرية"، يوافق قول طه: "إن الحرية مسئولية". كذلك يرى سن بأن: "الحرية الفردية في جوهرها منتج اجتماعي"، وهذا عين ما قاله طه: "المجتمع وسيلة موسلة لحرية الفرد". وفصلت له في التشابه بينهما، لما يقرب لحد التطابق، حينما تحدثا عن حق الفرد في تحريره من الفقر، ومن الجهل، ومن المرض، وقد أضاف طه التحرير من الخوف، كذلك. ويأتي التشابه كذلك في رؤية كل منهما عن التعليم ودوره في زيادة الإنتاجية، فهو عند سن تمليك للقدرة، بينما يُعَرِّف طه التعليم، قائلاً: "بإيجاز نُعَرِّف التعليم بأنه اكتساب الحي للقدرة"، غير أن طه يدعو إلى عودة الحياة إلى الله، فالتعليم يتصل بعناصر البيئة والتكيَّف معها.. إلخ. وهكذا، فالكتاب في مقاربته اشتمل على الكثير من نماذج الاتفاق والتشابه والتقاطعات بينهما.
إستمع البروفيسور علي عبد القادر لكل حديثي عن الكتاب، باهتمام ودقة مدهشة، وكان قد قرأ ما أرسلته له، فعلَّق، قائلاً: "هذا كتاب مذهل". ثم حكى لي أنه تحدث إلى بعض أصدقائه عن الكتاب ورؤية محمود محمد طه تجاه التنمية، فعبَّر أحدهم عن دهشته عن معرفة محمود محمد طه بالتنمية، فرد عليه علي عبدالقادر، قائلاً: إذا كان كل دارس يمكن أن يعرف تنمية، هل من المعقول أن يكون محمود محمد طه لا يعرف تنمية. وأضاف، قائلاً: محمود محمد طه يعرف بدقة وعمق وشمول، بينما نحن الذين لا نعرف. ثم سألني أين ستنشر الكتاب؟ أقف هنا لنلتقي في الحلقة الثانية تتبعها الثالثة، وهي الأخيرة، من خلال المحاور الآتية:
1. لمحات عن الإنتاج الفكري: حياة جادة وعامرة
2. مواقف وطنية وإنسانية جديرة بالتأمل والدراسة
3. في انتفاضة أبريل 1985 رفض تولي الوزارة في ظل اشراف المجلس العسكري علي الحكومة وطالب بعودة الجيش إلى ثكناته
4. دعوة لتنظيم ندوة عن جهود البروفيسور علي عبد القادر العلمية وإسهاماته الوطنية والإنسانية
5. خاتمة

 

آراء