التطبيع التركي السوداني!

 


 

 

 

وقفت على شرفة الفندق الفخم الذي يطل على ساحل التركواز جنوب غرب تركيا، في مدينة أنطاليا التي كانت إحدى أهم مدن الامبراطورية البيزنطية، أمر الملك أتالوس مبعوثيه آنذاك بالبحث عن جنة في الأرض، فاختاروا له هذه البقعة التي وقفت فيها شتاء2009 حين كنت أستعد لتقديم محاضرة عن إدارة التغيير مع البرنامج التركي لترقيةافريقيا، وفي مخيلتي حسن إدارة الأتراك لهذا التجمع، وجمال تفننهم في بناء الفندق على الشاطئ، حتى لتظن أن الفندق نزل من السماء كقطعة واحدة مع الرمال البيضاء والبحر الأزرق..

لم يشغلني جمال الساحل كثيرا، فقد غزا تفكيري التبحر في أسباب قدرة العثمانيين على تخطي البحر الأبيض هذا، وبقية الفيافي والأمصار للسيطرة على دول العالم وصولا لاحتلال مصر الشقيقة، ثم حملة محمد علي باشا لغزو السودان وحملات الدفتردار التي طالب البعض بدفع تعويضات عنها للضحايا، ووضع أكاليل زهور على ضحايا مجازر شندي وغيرها من القرى، كما وضعه الزعيم في يافا قبل بضع سنوات.

تردني رسالة الشيخ الضرير "هدي المستهدي إلى بيان المهدي والمتمهدي" طالبا عدم خروج المهدية على الحاكم العثماني درءا للفتن،
ومعها يتردد في أذني صدى كلمات ود عدلان الرائعات للغزاة من الباشاوات، قبل تدمير مملكة الفونج: "لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية، فنحن هنا الملوك وهم الرعية، أما علمت بأن سنارَ محروسةٌ محمية، بصوارم قواطع هندية، وجيادٍ جرد أدهمية، ورجال صابرين على القتال بكرةً وعشية ؟!".

تجاوزت محطة التعويضات إلى التفكير في قدرةتركيا على بناء نهضتها وخصوصا في عهد حزب العدالة والتنمية الذي يحكم منذ 16عاما، ذلك الحزب العظيم الذي لا زال يصر على أنه حزب محافظ معتنق لرأسماليةالسوق، وينفي أنه حزب إسلامي، ولكنه دون شك يطبق روح الإسلام باستثناء تطبيق الحدود !

عندما يزور السودان رئيس تركيا رجب طيب إردوقان، فإنه لا يأتي غازيا ولا ليبدأ من الخرطوم مسيرةتحرير أراضٍ محتلة داخل أو خارج حدودنا، وليست هذه هي أجندته كي نحرجه بها، ولم يأتِ ومعه 100 شيخ دين، ولا 100 مجاهد بالنفس، وإنما يأتينا ومعه 100 رجل أعمال وتاجر يجاهدون بالمال استثماراً وإنماءً لإعلاء شأن البلدين، وزيادة فرص العمل والراحة للشعبين.

يفهم الزعيم إردوقان لغةالعالم، ويتحدث بلغة المصالح معتنقا براغماتية ذكية يحافظ بها على مصالح بلده وشعبه مع الأقطاب المتضادة، فها هو يكسب اسرائيل ويصادقها ويتعاون معها في نفس الوقت الذي يكسب فيه العالم الإسلامي ويساند قضاياه ويعينه، و له حجم تبادل تجاري ضخم مع أمريكا وإيران مثلما له مع السعودية وقطر في نفس الوقت !
ولا يجعل خطبه الرنانة وشعاراته القوية تؤثر على سياساته بما يضر بمصالح مواطني بلده.

ولم يصدع الرجل بصوته العالي في وجه الأمريكان إلا بعد أن صنع من بلاده واحدة من أقوى 20 اقتصادا في العالم، وبعد أن واصل تقوية جيشهم الذي له إرث عثماني راسخ في العسكرية.

يزورنا القائد الملهم إردوقان، وهو يعيد علاقاتنا معها التي ضعفت إلى قوتها، خصوصا بعد رفع الحصار عنا. ولا يهمنا تطبيعه مع الكيان، ولكن يهمنا تطبيعه معنا نحن. فنرنو هذه المرة إلى تعاون بنّاء فيه دعم البحث العلمي، والاستثمار في البنى التحتيةللسياحة، والتصنيع الدوائي لنخفض أسعار دوائناالذي وصل مراحل تقض مضجع كل ذي قلب ورحمة، ونريد مشاريع توطين (التشخيص) والعلاج في السودان، ولا نريد مجرد بروتوكولات فلدينا مع تركياوغيرها بروتوكولات كثيرةسابقة لم تنفذ.

نثمّن لضيوفنا أول زيارة لرئيس تركي منذ استقلالنا، لكننا لا نحتاج من العظيم إردوقان لمحاضرات مثل محاضرات السيد مهاتير الماليزي، ولا نريد من تركيا المزيد من المطاعم، وإنما نريد عملا حقيقيا لتطوير دولتنا وتحسين حالها، فنتوقع منهم استثمارات حقيقية في تصنيع الطعام بدل تقديمه في المطاعم التركية !! نتوق لنقل التقانة الزراعية المتطورة ولمشاريع الأمن الغذائي وسلة غذاء العالم، والاستثمار في مشاريع البنى التحتية (الضخمة والحقيقية)، وفي فتح خطوط التمويل للسودان.

بالتأكيد لن نبتهج لاستثمارات أجنبية تشتري الدولار من بلادنا مثل شركات الاتصالات لتقوم بإخراجه منها وتفريغها من العملة الحرة !! وإنما ينبغي تدوير المال في استثمارات أخرى داخل البلاد، فلنبحث عن حلول وسياسات نقدية ومالية أكثر جدوى وابتكارا، كيلا نبكي على سقوط جديد لقيمة الجنيه أمام الليرة أو الدولار.

.عندما يزور الوفد التركي مدينة بورتسودان (النظيفة) والمنظمة، نتمنى بعدها رؤية الفنادق الضخمة الفخمة على ساحل البحر الأحمر جاذبةً سواح الخليج والعالم، مثل تلك التي استضافتني فيها تركيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وليكن اسم أولها فندق السلطنة الزرقاء.

هنيئا لتركيا بإردوقان، وهنيئا للسودان بزيارة الوفد المرافق لإردوقان.

عمود من المسؤول - صحيفة الأخبار
٢٥ ديسمبر ٢٠١٧

obay1975@gmail.com

 

آراء