التعريب: قضية التعليم العالي المحورية -3-

 


 

 

   استعرضنا في الحلقة الماضية مخرجات الورشة القومية التي أقامتها كلية العلوم بجامعة الخرطوم، حول تجربة تعريب العلوم الأساسية، والتطبيقية التي انتظمت كافة الكليات العلمية والتطبيقية بالجامعات الحكومية بالسودان، ما عدا كليات الطب، إذا استثنينا عنها كلية الطب بجامعة الجزيرة، التي أثبتت الدراسات التي أجراها أساتذتها، فشل التجربة البيّن لكل صاحب غيرة على الوطن. لقد وضح جلياً من خلال عرضنا لبعض الأوراق في تلك الورشة أن مواد مطلوبات الجامعة في حاجة ماسة لإعادة نظر أكاديمية شاملة، وغير عاطفية - قومية كانت أو دينية – تستصحب التحديات الحالية، والمستقبلية التي قد تواجهها مؤسسات التعليم العالي في سياق العولمة، ودور التعليم العالي في ما يتعلق بمساهمته في التنمية البشرية، والاجتماعية. فالتعليم العالي اليوم مواجه بتحدي استحداث، وتوزيع المعرفة ذات الصلة بالمجتمع، والتي تلعب دوراً نشطاً، وملتزماً في التحول والتغيير الإيجابي لهذه المجتمعات. ولن يتم ذلك إلا بخريج يلبي احتياجات سوق العمل المحلي، والعالمي علي حد سواء. أما مداولات الورشة؛ في جانبيها الجماهيري، والرسمي؛ فقد أفضت جميعها للشلل الذي اعترى جسد التجربة المنهك أصلاً، فنعيت قبل أن تدفن، ولكن أولياء أمرها أصروا على بقائها حية - كحال شارون - وما هي بذلك. 

  هذا ما كان من أمر تقوم تجربة التعريب بالسودان. أما تعريب التعليم العالي بالجامعات العربية فقد انطلق بقرارات سياسية حاسمة في سوريا، والعراق، ومصر، مع تسخير الإمكانات البشرية، والمادية، والفنية لهذا الغرض. كما أن النهضة البترولية في السعودية، والكويت، والإمارات، وقطر، وعمان قد وفرت عائدات ضخمة استثمرت بسخاء في إنفاذ سياسة التعريب بهذه الدول. إلا أن صعوبات جوهرية صاحبت هذه التجارب، وعاقت هذه الدول عن مواصلة مسيرة التعريب، فسلمت بفشل التجربة، ورجعت للتدريس باللغة الإنجليزية مثل جامعة الملك سعود – حصلت علي المرتبة الأولي بين الجامعات العربية في تصنيف الجامعات العالمية علي الشبكة، والجامعة العربية الوحيدة التي ورد اسمها ضمن التصنيف الأكاديمي للجامعات العالمية (ذو معايير تميز التعجيزية) - ، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وجامعة الملك عبد العزيز، بالملكة العربية السعودية، والتي أصبحت جميعها تتقدم جميع الجامعات العربية في كل التصنيفات العالمية للجامعات.

   تمثلت الصعوبات الجوهرية – استعصت علي الحل حتى في وجود بعض المؤسسات القومية المعنية في المقام الأول بإنفاذ التجربة مثل: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واتحاد الجامعات العربية – التي واجهت تجربة التعريب بالجامعات العربية في أن اللغة ليست كلمات تنطق فقط، ولكنها تعبر عن ثقافة بعينها، وبما أن ناصية العلم الآن معقود لواؤها للثقافة الغربية، فلم يعد بمقدور اللغة العربية مجارات ذلك عن طريق الترجمة الحرفية، ولذلك واجهت صعوبات جمة في تعريب الرموز، والمصطلحات، والنصوص العلمية، فاختلت المفاهيم العلمية حتى في أساسيات العلوم الطبيعية. لذا فإن المكتبة العربية غير مكتملة حتى في هذه الأساسيات العلمية، وتزداد الفجوة اتساعاً كل يوم كنتيجة للاكتشافات العلمية المتسارعة. إن مجاراة هذا التسارع لن تتم إلا بانتهاج سياسة جادة للبحث العلمي بالجامعات العربية، تهدف لربط العلم بالثقافة العربية – أي قيادة البحث العلمي، وليس الاستعاضة بالترجمة فقط كما نفعل الآن – وهذا ما يعرف بالتعريب في نظرنا، أو التأصيل أن صح التعبير.

  لاشك في أن الطالب يستوعب المادة العلمية أكثر بلغة الأم، لذا درجت جميع الأمم علي أن تكون لغة الأم هي لغة التعليم في جميع مراحله إن أمكن ذلك، غير أن هذه الأمم تهتم اهتماماً عظيماً باللغات الأجنبية الحية؛ وصلاً للمعرفة عن طريق الاستفادة من معيناتها من كتب مرجعية، ومنهجية، وأوراق علمية، ووسائط معلومات. يكفل ذلك الاستفادة من هذه المعرفة، ومن ثم الوصول لمراحل إنتاجها. هناك دولاً كثيرة مثل ألمانيا، واليابان، والهند، وماليزيا وغيرها تتخذ من لغاتها أدوات للتعليم الأولي، ولكنها في نفس الوقت تهتم باللغة الإنجليزية – لغة العلم الأولي في العالم حيث يدون ما نسبته 61% منه بها، تليها اللغة الألمانية بـ 9%، فاللغة اليابانية بـ 5%، واللغة الفرنسية بـ 4% واللغة العربية بـ 0.1% – اهتماماً بالغاً، فنجد الدارسين بها يتحدثون ويستخدمون اللغة الإنجليزية جنباً إلي جنب مع لغة الأم، لذا تجدهم قادرين علي الاستفادة من آخر الإصدارات العلمية، ونقلها للغتهم، ولذا فإنهم بإتباعهم لهذا النهج قد بلغوا مرحلة إنتاج المعرفة العلمية بلغة أمهم مما أدى إلي ازدهارها أيضاً، الأمر الذي سيمكنهم من اللحاق بركب الاكتشافات العلمية المتسارعة. لقد أفادني بروفسير عبد الملك محمد عبد الرحمن  بأن المشاركين الألمان في الورشة التي أقامتها كلية الزراعة بجامعة الخرطوم بعنوان: التوسع في التعليم العالي : الاستراتيجيات والتحديات قد نبهوا لنقطة مهمة وهي إنه يشترط علي كل من يود الترقي لدرجة الأستاذية بألمانيا أن يقدم بحوثه للجان التحكيم باللغة الإنجليزية. يتم ذلك برغم أن لغتهم تأتي في المرتبة الثانية بعد اللغة الإنجليزية من حيث الاستخدام في أغراض البحث العلمي. تنتهج هذه الدول فلسفة تعليمية ترتكز علي مفاهيم التنمية البشرية التي أصدرها برنامج الأمم المتحدة للإنماء.

   هناك محطات فارقة في مسيرة تطور التعليم النظامي في السودان، اتسمت جميعها بتدهور في المستويات الأكاديمية عندما تعلق الأمر بالانحياز للغة العربية لأسباب وطنية، أو قومية، أو أسلاموية. حدث التدني الأول عند اعتماد اللغة العربية كلغة للتعليم في المرحلة الثانوية عام 1964م؛ وأتبع ذلك بضربة قاضية للتعليم العام عند تغيير السلم التعليمي بقرار سياسي متعجل في عام 1969م. أثر كل  ذلك على التعليم العالي المنشود؛ ولكن قاصمة الظهر التي أجهزت علي التعليم العالي كانت ما سمي بثورة التعليم العالي حين أعلنت حكومة الإنقاذ عن سياسة التعريب، وزيادة القبول بالجامعات، والمعاهد العليا عام 1990م؛ دون أن توفر البنيات التحتية المناسبة لإنفاذها، وذلك لأن الهدف كان سياسياً، وإيديولوجياً، ولم يكن تنموياً يراعي المصلحة الوطنية العليا. فعولجت قضية الاعتقاد الديني بحجب الطلاب والدارسين عن الإطلاع علي الاكتشافات العلمية بحرية كاملة، ومن ثم حبسهم في أبجديات علمية بالضرورة لا تتعارض مع الدين؛ وقضية الأخلاق بعدم نقل المعارف، والرؤى، والأفكار التي يرون أنها قد تصطدم مع العقيدة الإسلامية إلي اللغة العربية بهدف الضبط الأخلاقي؛ وقضية التصور بإعمال المعتقدات الإسلامية في الحقائق، والاستنتاجات العلمية، ومن ثم التدخل في حرية البحث العلمي، وقضية رسالة الأمة الإسلامية وذلك بإكساب اللغة العربية أهمية كونها لغة القرآن علي الرغم من أن ذلك لن يضيف إليها قيمة علمية؛ لأن اللغة ليست من وحي السماء إنما هي ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني كما يقول الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء. يتضح من ذلك أن أي لغة تستمد قوة بقائها، وتطورها، ومقدرتها من الحراك الإنساني، وليس من وحي السماء.

   يتضح من ذلك أن الهدف من فرض سياسة التعريب في رأي أساطين الإسلام السياسي هو التصدي لدعاوى التحديث التي تتستر من ورائها أفكار التغريب من خلال تحديات العولمة وتداعياتها، ومظاهرها الجانحة إلي إسباغ رؤى، ومسميات دخيلة علي الحضارة الإسلامية، وكذلك سد الطريق لمشكلات علمية تعتبر أكثر تعقيداً، والتي تصطدم بجهود التعريب هذه التي أسموها تأصيلاً. قادهم كل ذلك إلي انتهاج سياسات انغلاقية جوفاء تتخذ من نظرية المؤامرة منطلقاً لها.

 إن عادة اجترار المجد القديم في خضم عدم القدرة علي الفكاك من التدني، والانحطاط العلمي، قد قاد الدكتور طه حسين للقول:"إن الأمم إذا اضطرتها صروف الحياة أن تنزل عن مجدها، وتنحط عن مكانتها العالية، فتخضع لخطوب الدهر حيناً، وتنام عن العزة، والسلطان، ثم استفاقت من هذا النوم، وتنبهت بعد الغفلة، فأول شعور تجده في نفسها إنما هو الشعور بهذا المجد القديم، والحاجة إلي إجلال أصحابه، وإكبارهم، واتخاذهم مثلاً عليا، الشئ الذي يقف عائقاً أمام البحث العلمي الصحيح". هذا التفسير ينطبق تماماً علي أيديولوجيا التأصيل ودعوتها الإسلامية العربية، عبر إنفاذ سياسة التعريب، والتي تحاول أن تبني نفسها بالتغني بأمجاد الماضي عبر تدريس تأريخ العلوم فقط، ومن ثم حبس الدارسين في مبادئ علمية قد عفا عليها الزمن أو كاد في أحسن الأحوال. من هذا المنطلق فإن أنصار التعريب، والتأصيل إنما يسيرون إلي الوراء، ولكنهم يخفون حالتهم وراء ألفاظ رنانة مثل الصحوة الحضارية، والنهضة العربية.

   لقد ارتبطت سياسة التعريب بإنشاء أقسام للدراسات الإسلامية في كل كليات التربية بالجامعات الحكومية بالسودان، وكذلك بإدخال مقررات الثقافة الإسلامية، واللغة العربية في كل الكليات، والمعاهد العليا. قد يكون حرج دعاة التأصيل والتعريب قليلاً لو أن جميع السودانيين كانوا من العرب والمسلمين، ولكن تكشف الخارطة الإثنية ، واللغوية في السودان الشمالي، بأن غالب أهله في الشمال، والشرق، والغرب لهم لغاتهم الخاصة، وبالتالي فهم ليسوا عرباً. أما القبائل العربية، والمستعربة في الوسط وشماله الأدنى، والغرب الأوسط فهي تتحدث العامية العربية باختلاف ظاهر من منطقة لأخرى. هذا إذا استبعدنا جنوب السودان ذو الأصول الإفريقية الصرفة، واللغات المتعددة. لذا فإن اللغة العربية التي تقام دعاوى التعريب، والتأصيل لتسيدها ليست بلغة الأم للغالبية العظمى من سكانه، وإنما هي لغة يتعلمها الناس في المدارس، أو "تقوم بروس" كعربي جوبا. أما الخارطة الدينية للسودان فتوضح أن نسبة غير المسلمين قد تصل لحوالي 30% من سكانه، وبالتالي فإن الإصرار علي  تدريس مادة الثقافة الإسلامية في جميع جامعاته، فيه تعد سافر علي حقوقهم الدينية، والتربوية، والأكاديمية. وبما أن هذه الجامعات قومية التوجه، فكان من الأوجب ألا تتحيز للمسلمين، حتى وأن كانوا أغلبية، فتقوم بتدريس الثقافة الإسلامية كمادة اختيارية، أو فعل الأمثل بتدريس الثقافة الدينية، توخياً للعدالة الأكاديمية، ودعماً للوحدة الوطنية الجاذبة.

   إذا تركنا كل ذلك جانباً، وأخذنا في الاعتبار الإشكالات الناشئة عن كون أن فلسفة التعريب تقوم علي الإخلاص للغة العربية، وليس للمعرفة، فإن تقنيات الترجمة سوف تحول دون إيصال المعلومات العلمية الدقيقة، نظراً لإشكالات اللغة العربية نفسها، التي أوردها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه:"تكوين العقل العربي" عندما  قال:" لاحظنا أن اللغة العربية ربما اللغة الحية الوحيدة في العالم التي ظلت هي هي في كلماتها، ونحوها وتراكيبها منذ أربعة عشر قرناً علي الأقل.... لقد جمدت اللغة العربية بعدما انحطت.... ولكن الحياة الاجتماعية لا تجمد ولا تنحط. لقد انتقمت لنفسها بفرض لهجات عامية(عربية) كانت وما تزال أغنى كثيراً من اللغة العربية الفصحى....هنا تكمن المفارقة بل التمزق الرهيب الذي عانى ويعاني منه الإنسان العربي اليوم: ذلك أنه من جهة، يتوافر على لغة للكتابة، والتفكير على درجة عالية من الرقي من حيث آلياتها الداخلية، ولكن هذه اللغة ذاتها لا تسعفه بالكلمات الضرورية عندما يريد التعبير عن أشياء العالم المعاصر". أكد علي ذلك أيضاً الدكتور محمد أركون في مقدمة كتابه:"الفكر العربي" عندما تحدث عن تعذر ملاحقة المعرفة في إطار تجددها، بواسطة اللغة العربية، وجمود الأطر الاجتماعية للغة العربية. للأسف فأن تجدد اللغة العربية قد تمظهر بصورة لافتة، وغير منضبطة، في قوالب اللغة الشبابية، التي ازدهرت في جميع البلدان العربية بمساعدة تقنية المعلومات، والقنوات الفضائية.

  إننا هنا ليس بصدد الانحياز إلي لغة معينة، بقدر ما ننشد الاستفادة من اللغات التي تحمل المعارف الجديدة، والاكتشافات العلمية المتسارعة، والتي تشكل جسراً للتواصل الإنساني. يستوجب ذلك التعامل مع اللغات الأجنبية بحياد تام، وألا يكون انحيازنا لأي لغة إلا بمعيار الأخذ، والعطاء المؤسس علي العلم وايجابية القصد. لقد أكد علي ذلك دستور السودان الانتقالي فيما يتعلق بلغة التدريس في التعليم العالي، بأن جعلها اللغة العربية أو اللغة الإنجليزية، بغير انحياز لأي منهما إلا بقدر مساهمة أي منهما في الحصول علي المعرفة، ومن ثم المقدرة علي إنتاجها. وضع كهذا حري به أن يجعل الوحدة بين أبناء الوطن جاذبة، و يرفد الطالب بالأدوات اللازمة للسباحة في بحر المعرفة الواسع، والعميق، ومن ثم الحصول علي خريج عالمي متميز، ومنتج للمعرفة أيضاً، وفاعل في تحقيق مطلوبات التنمية المحلية، أو العالمية. إلا أن واقع الحال غير ذلك، فما زال قانون التعليم العالي غير متوائم مع الدستور الانتقالي لسنة 2005م، وبالتالي فإن النظم الأساسية للجامعات مازالت تكرس قبضة الإنقاذ الحديدية علي الجامعات عبر احتكار أعضاء الحزب الحاكم للوظائف العليا بالجامعات، والذي هم بكل تأكيد معادين لأي إصلاح وطني قد يقوض مصالحهم الحزبية، والأيدلوجية الضيقة. لكن أبشركم فقد أعلن وزير الدولة بالتعليم العالي والبحث العلمي بأن مجلس الوزراء الموقر قد خصص جلسة في يوليو القادم مناقشة رؤية تجويد التعليم العالي (الصحافة 11/1/2010م) – طبعاً فرحتو ما خلاص ضمنتو – ولا ندري لماذا يونيو القادم؟ هل الرؤية ما زالت في طور الإعداد؟ وإذا لم تكف الخمس سنوات التي انقضت بعد اتفاقية السلام لبلورت خطة لتجويد التعليم العالي استناداً علي الدستور، فهل ستكون الأشهر الخمسة القادمة هي الحاسمة في هذه المسيرة؟ نعتقد أن أي رؤية لتجويد التعليم العالي في السودان يجب أن تستند علي الآتي:

1-إعادة النظر في مناهج التعليم العام.

2-إعادة النظر في سياسة التعريب في التعليم العالي.

3-الاعتراف بالتعددية اللغوية، والإثنية، والدينية.

4-الاهتمام بتدريس اللغات عموماً وبالأخص اللغتين العربية، والإنجليزية لما في ذلك من مد لجسور التواصل الإنساني مع العالم الخارجي.

5-الانحياز للعلم، والمعرفة المجردة من كل أنواع الهوى السياسي، والايدولوجي.

                     

 

د.عثمان إبراهيم عثمان

عميد كلية العلوم بجامعة الخرطوم السابق 

osman30 i [osman30i@hotmail.com]

 

آراء