التعليم في السودان فِي إِبَّانِ سنوات الاستعمار (1900 – 1957م) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Education in Colonial Sudan, 1900 -1957
Iris Seri-Hersch ايريس سيري - هيرش
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لقليل مما جاء في مقال عن التعليم في السودان فِي إِبَّانِ سنوات الاستعمار، نشر في "موسوعة أكسفورد البحثية. التاريخ الأفريقي Oxford Research Encyclopedia، African Historyا" الصادرة عن دار نشر أكسفورد بالولايات المتحدة عام 2016م، بقلم الدكتورة ايريس سيري – هيرش.
وتعمل هذه الكاتبة أستاذة مساعدة في جامعة إيكس - مارسيليا بفرنسا، وتخصصت في التاريخ الحديث للسودان وفلسطين / إسرائيل. وكانت اطروحتها للدكتوراه عن تاريخ التعليم بالسودان بين عامي 1945 و1960م، ومنها استلت عددا من الأوراق المنشورة في عدد من الدوريات العالمية. وسبق لنا ترجمة عدد من تلك المقالات مثل "حول كتاب "تاريخ السودان" للمدارس الأولية بين عامي 1949 و1958م، و"مناهضة جار مسيحي: تصورات السودانيين عن إثيوبيا (الحبشة) في عهود المهدية الأولى" و"إعادة التفكير في الدراسات السودانية بعد انفصال جنوب السودان عن شماله". وفازت الكاتبة في عام 2013م بجائزة معهد الدراسات الإسلامية والعالم الإسلامي لأفضل أطروحة باللغة الفرنسية عن العالم الإسلامي.
واستعانت الكاتبة في هذا المقال بعدد من المصادر والمراجع، لعل أهمها ما ورد في كتاب الأستاذ محمد عمر بشير الموسوم "Educational Development in the Sudan 1898 –1956 " الصادر عام 1959م عن دار نشر أكسفورد.
يمكن النظر أيضا إلى مقال مماثل بقلم البريطانية ليزا ساندال، الذي ترجم بعنوان "مقدمة لتاريخ التعليم الحديث في السودان".
المترجم
***** ******
ملخص المقال
كان السودان يحكم في النصف الأول من القرن العشرين (حين كان يشمل كل أراضي سودان اليوم، إضافة إلى جنوب السودان) حكما ثنائيا بواسطة بريطانيا ومصر، بِدَايةً من عام 1899م إلى 1956م. وكانت السلطة الحقيقية في ذلك الحكم لبريطانيا، إذ أن مصر نفسها في تلك السنوات (1882 - 1956م) كانت خاضعة للسيطرة السياسية والعسكرية لبريطانيا. وكان السودان في غضون غالب سنوات الحكم الثنائي يحكم بحسبانه دولتين، إذ أن الاستعمار البريطاني كان يهدف لعزل الشمال المسلم العربي في غالبه عن الجنوب المتعدد الديانات واللغات. ولم تكن السياسة التعليمية استثناءً من تلك القاعدة. فإلى عام 1947م كان البريطانيون قد أسسوا لنظام تعليمي مستقر في شمال السودان، بينما تركوا شؤون التعليم في جنوبه في أيدي البعثات المسيحية. وأقيمت في شمال السودان شبكة من المدارس الحكومية، إضافة لعدد من المدارس المصرية، ومدارس البعثات المسيحية والجاليات والمدارس الأهلية. أما في جنوب السودان، فقد أقامت جمعية بعثة الكنيسة الأنغليكانية، والرومان الكاثوليك (الآباء فيرونا)، وبعثة المشيخية (التبشيرية) الأمريكية بعض المدارس. وكانت اللغتان العربية والانجليزية تستخدمان في التدريس بمدارس الشمال. غير أن الوضع اللغوي في الجنوب كان أكثر تعقيدا، فقد كانت مدارس البعثات التبشيرية فيه تستخدم اللغات المحلية الدارجة، والإنجليزية، والعربية المكتوبة بالأحرف اللاتينية (Romanized Arabic) لأغراض التدريس.
أما عقد الاستعمار الأخير (1945 – 1957م) بالسودان فقد شهد عملية ثلاثية تمثلت في التوسع التعليمي، والتوحيد، والتَأْمِيم. وفي ذلك العقد تصاعدت التجاذبات والصراعات حول من سيحكم السودان، وتفاقم الاستقطاب في أوساط الوطنيين السودانيين، ما بين دعاة الاستقلال (الموالين لبريطانيا) ودعاة الاتحاد مع مصر. ودعا كل ذلك البريطانيين في الخرطوم لزيادة أعداد المدارس الحكومية، والتخلي عن سياسة حكم منفصل في كل من شمال البلاد وجنوبها. وكان توحيد التعليم في شطري السودان يعني عمليا تعديل المناهج التعليمة في جنوب السودان وضمها للبرامج التعليمية في شمال السودان، وإدخال اللغة العربية في مناهج التعليم بمدارس الجنوب، كأحد المواد في البداية، ثم جعلها لغة تدريس كل المواد من بعد ذلك. وتم تأميم كل المدارس التبشيرية والخاصة بالجنوب بعد عام واحد من نيل السودان لاستقلاله من بريطانيا ومصر (1956م).
**** **** **** ****
يتكون المجتمع السوداني (الذي نما من نحو مليونين نسمة في 1899م إلى نحو 10 مليون نسمة في 1956م) من مسلمين يتحدثون اللغة العربية، ويعيش معظمهم في شمال البلاد، ومسلمين لا يتحدثون بالعربية كلغة أولى (مثل الفور والزغاوة والمساليت في دارفور، والبجا في الشرق)، إضافة لمجموعات لغوية ودينية متعددة في الجنوب، تشمل المسلمين والمسيحيين ومعتنقي الأديان المحلية المختلفة. ويتحدث هؤلاء عشرات اللغات منها لغة الدينكا والنوير والباري والزاندي، ومختلف لهجات اللغة العربية، والإنجليزية. وكان متوقعا أن تواجه دولة بمثل ذلك التنوع في الجغرافيا واللغات والأديان مشاكل عديدة متعددة في الجوانب المتعلقة بالسياسات والممارسات التعليمية.
لقد عرفت بعض أجزاء السودان أشكالا من التعليم المؤسسي قبل عقود من القرن العشرين. ففي الشمال كانت هنالك (الخلاوى)، والتي ربما بدأت في السودان مع بداية دخول الإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي. وكان التعليم في تلك الخلاوى يشمل اللغة العربية، ومبادئ الحساب، والقرآن والتفسير والفقه. وتوسع الحكم المصري – التركي للسودان (بين 1820 – 1881م) في التعليم بفتح أنواع جديدة من الخلاوى، وتشييد بعض المدارس الأولية كذلك. وأقامت البعثات التبشيرية الإيطالية الكاثوليكية والبروتستانتية البروسية أيضا عددا من المدارس في بعض مدن السودان الكبيرة مثل الخرطوم والأبيض وبربر وسواكن. وبعد سقوط الحكم المصري – التركي وقيام الدولة المهدية (1881 – 1898م) أوقفت نشاطات تلك المدارس، وبقيت الخلاوى وحدها هي المؤسسات التعليمية الوحيدة بشمال السودان. وقدر عدد الخلاوى في عام 1899 بـ 1500 خلوة، كانت تساهم في محو أمية نحو 60000 من أطفال الشمال وتعلمهم القرآن. ولا توجد الكثير من المعلومات عن التعليم بجنوب السودان في سنوات ما قبل الاستعمار البريطاني – المصري. غير أنه من المعروف أن مدرسة أولية في مديرية الاستوائية كانت قد أقيمت في سبعينيات القرن التاسع عشر، وكانت مخصصة لأبناء الضباط المصريين العاملين في تلك المديرية. وربما استقبلت تلك المدرسة المصرية عددا محدودا من أبناء السكان المحليين. وقد أنشأت البعثات التبشيرية مناطق تقع على النيل الأبيض وأنشأت لها محطات صغيرة في قوندوكورو وكاكا و"الصليب المقدس Holy Cross". غير أن وخامة الهواء وسوء الأحوال، وعدوانية السكان المحليين تجاه أفراد تلك البعثات لم تسمح لهم بفتح مدارس في تلك المناطق.
تشكُّل سياسة التعليم (1900 – 1947م)
توسعت وتنوعت المؤسسات التعليمية في غضون سنوات الاستعمار. غير أن ذلك التوسع والتنوع لم يحدث في شطري السودان على نحوٍ متساوٍ. فقد أقرت حكومة السودان الاستعمارية سياستين منفصلتين متميزتين في شطري البلاد إبان غالب سنوات ذلك الاستعمار. ولم تجانس الحكومة السياستين إلا بعد عام 1948م (العام الذي تخلت فيه الحكومة عما كانت تسميه "السياسة الجنوبية"، التي قضت بإدارة جنوب السودان بصورة منفصلة عن شماله). ففي عام 1948م كان عدد المدارس الحكومية في الشمال 26,074، بينما كان عددها في الجنوب 394 مدرسة. أما المدارس غير الحكومية في الشمال في ذلك العام فقد بلغت 2,835 في مقابل 5,303 في الجنوب. وكان عدد تلاميذ المدارس الأولية في شمال السودان خمسة أضعاف عددهم في جنوبه.
وفي حقل التعليم، عاملت بريطانيا شمال السودان معاملة تختلف عن معاملتها لبقية المناطق الأفريقية التي استعمرتها، مثل ساحل الذهب أو شرق أفريقيا. ففي تلك المناطق تبنى المستعمر البريطاني فلسفة عدم التدخل، وترك الأمور تجرى على أعنتها (laissez –faire philosophy)، وأسندت أمر التعليم للبعثات المسيحية (التبشيرية). أما في السودان (الشمالي) فقد وضع المستعمر البريطاني – منذ دخوله للبلاد – سياسة حكومية تعليمية نشطة. وربما كان السبب في ذلك هو وضع السودان القانوني والسياسي المختلف عن بقية المستعمرات، والمنافسة بين "شريكي الحكم"، والحرية الواسعة التي أتاحتها لندن لحكومة السودان في إدارة البلاد.
ووضع أول مدير للمعارف في السودان، جيمس كيري (الذي تولى هذا المنصب من 1900 إلى 1914م) سياسة تعليمية لشمال السودان لها ثلاثة أهداف رئيسة هي:
أ/ خلق طبقة من الحرفيين الأَكْفاء.
ب/ نشر التعليم في أوساط عامة سكان البلاد بطرق تتيح لهم فهم أساسيات مبادئ عمل الجهاز الحكومي، خاصة في إدارة العدل بطريقة محايدة ومعتدلة ومُطَّرِدة.
ج/ خلق طبقة صغيرة من الإداريين السودانيين، الذين يمكن لهم – في النهاية – ملء الوظائف الحكومية الصغيرة.
وأنشأت الحكومة عددا من المؤسسات لتنفيذ تلك الأهداف الثلاثة. وفي ذات الوقت أبقت الحكومة على ما كان قائما من خلاوى، بل كانت تقدم لبعضها عونا ماليا منتظما، شريطة أن تدخل في منهجها بعض المواد "العلمانية" مثل اللغة العربية والحساب. وارتفع عدد الخلاوى التي كانت تتلقى معونات حكومية من 6 في عام 1918م إلى 768 عام 1930م، مما يعكس بصورة عامة تأثير سياسة "الحكم غير المباشر" التي نفذتها حكومة السودان عبر تلك السنوات. غير أن الحكومة صممت أيضا نمطا من مدارس "الكتاب" كان هدفها أن تحل محل الخلاوى الموجودة على المدى الطويل. وعقب سنوات الثلاثينيات، بدأت الحكومة تغل يدها عن الإنفاق على الخلاوى، ووجهت مصادرها المالية المحدودة نحو توسيع نظام المدارس الحكومية.
وكانت المدارس الأولية تضم التلاميذ بين عمر 7 إلى 11 عاما، وكانت لغة التعليم فيها هي اللغة العربية. وكانت المواد الرئيسة التي تدرس هي اللغة العربية والدين الإسلامي والحساب، إضافة إلى مواد أخرى هي الجغرافيا والتاريخ والصحة العامة والزراعة وعلم البيطرة والأعمال اليدوية و"علم الأشياء"(ربما كان المقصود "علم الطبيعة"). وابتداءً من عام 1934م أدخلت الحكومة في المناطق الفقيرة التي تعوزها الأموال اللازمة لفتح مدارس أولية كاملة نظاما إضافيا هو نظام المدارس الصغرى (sub-grade) المكون من عامين فقط. وكان من المأمول أن يكون ذلك النظام الإضافي نظاما مؤقتا فحسب، يفضي لقيام مدارس أولية تدرس التلاميذ لأربع سنوات. غير أن المدارس الصغرى بقيت لسنوات طويلة في مشهد التعليم بكثير من المناطق بشمال السودان، وبقيت منافسة للخلاوى.
وأنشأ الحكم الثنائي في سنوات حكمه الباكرة مدارس لمرحلة ما بعد التعليم الأولي. وكان الحكم التركي – المصري قد سبق بإقامة مدارس ابتدائية (primary) في كل من بربر وسواكن. وفتحت تلك المدارس من جديد في بداية عهد الحكم الثنائي. وافتتحت مدارس جديدة في أم درمان (1900م)، والخرطوم (1901م) وبربر ووادي مدني (1906م). ثم غير اسم المدارس الابتدائية إلى المدارس الوسطى (intermediate) في عام 1933م. وفي ذلك العام كانت هنالك مدرسة وسطى واحدة (على الأقل) في أكبر 10 مدن بشمال السودان. وكان قبول من أكملوا التعليم الأولي لتلك المدارس يتم بعد النجاح في امتحان موحد. وكانت مدة الدراسة في المرحلة الوسطى هي 4 سنوات من الدراسة الأكاديمية، ولم يكن فيها أي نوع من التدريب المهني. وفي هذه المرحلة يبدأ التلاميذ في دراسة اللغة الإنجليزية. وافتتح اللورد كتشنر في عام 1902م كلية غردون التذكارية، كأول مدرسة ثانوية، وظلت هي المدرسة الثانوية الوحيدة بالبلاد حتى أربعينيات الفرن العشرين. وساهم في إنشاء تلك الكلية (وإحياء ذكرى غردون الذي قتله جنود المهدي في 1885م) عدد من المتبرعين من بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا ومستعمرة الكيب والهند ومصر والولايات المتحدة. وكان طلاب غردون يدرسون لعامين كاملين موادا عامة قبل أن يتخصصوا في واحد من مواد متعددة تشمل التعليم والمحاسبة والقانون والعلوم والهندسة أو التجارة. وتطورت الكلية في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية إلى مؤسسة للتعليم العالي، وأصبحت نواة لقيام جامعة الخرطوم، التي غدت جامعة مستقلة مع الاستقلال.
وتميز التعليم العام في كل مراحله بشمال السودان بالتبيان الشديد بين المديريات، فقد استأثرت الخرطوم بغالب المدارس، وكانت أعداد مدارس البنين ثلاثة أضعاف مدارس البنات. وكان التعليم فوق مستوى الأولية حصرا على صفوة قليلة. فإلى يوم الاستقلال (1/1/1956م) كان عدد تلاميذ المدارس الأولية والوسطى والثانوية 76996 و4675 و1700 فردا، على التوالي. أما عدد طلاب التعليم العالي فلم يتجاوزوا 722 فردا.
وبالإضافة إلى لمدارس الحكومية، كانت هنالك أيضا في شمال السودان المدارس المصرية، التي كانت تحت سيطرة الحكومة المصرية وحدها. وظهرت في تلك السنوات كذلك مدارس خاصة، منها مدارس أهلية أنشأها السودانيون بالعون الذاتي منذ عام 1927م، ومدارس الجاليات الأجنبية (الإغريق والأرمن والأقباط)، ومدارس البعثات التبشيرية (جمعية بعثة الكنيسة الأنغليكانية، والرومان الكاثوليك (الآباء فيرونا)، وبعثة المشيخية (التبشيرية) الأمريكية) في الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري وبورتسودان واتبرا ووادي مدني. وكانت هنالك مدارس الأحفاد التي أقامها بابكر بدري (1860 – 1954م). وبقرار من الحكومة صدر في 1907م صارت لمديرية التعليم حق الاشراف على جميع المدارس غير الحكومية.
وتوسع كذلك تعليم البنات في عهد الحكم الثنائي، ولكن بكثير من البطء. فقد أقيمت بين عامي 1899 و1920م خمس مدارس أولية للبنات في كل أجزاء شمال السودان، ولم تكن أي من تلك المدارس في الخرطوم أو أم درمان. وكانت تلك سياسة قصدت منها الحكومة الاستعمارية تحاشي أي اضطرابات قد تنشأ في عاصمة البلاد من قبل المعارضين لتعليم البنات. ولم تقم مدرسة أولية لتعليم البنات في أم درمان إلا بعد إنشاء معهد تدريب المعلمات بها في عام 1921م. ومن المعلوم تاريخيا أن حكومة السودان لم تبادر بفتح مدارس للبنات، بل جاءت المبادرة من قبل بابكر بدري في رفاعة بالنيل الأزرق عام 1906م، ثم من المبشرين المسيحيين. وظلت السياسة التعليمية في السودان إلى ثلاثينات القرن العشرين تتبع تعليمات جيمس كيري وأهدافه التي سبقت الإشارة إليها. غير أن مصادر تمويل التعليم بقيت شحيحة. وبالإضافة إلى ذلك واجه المعلمون البريطانيون معضلة تمثلت في قيامهم بما يطلب منهم من تخريج قلة من صفوة المتعلمين السودانيين مؤهلين للعمل في سلك الإدارة الحكومية، وعلى استعداد في ذات الوقت لموالاة ومسايرة النظام الحاكم وعدم الخروج عليه. وبقيت مشكلة الاستعمار الكلاسيكية في إمكانية (تعليم "الأهالي" دون الوقوع في جريرة إفسادهم أو تحريرهم) ماثلة أمام المعلمين البريطانيين بشمال السودان في ثلاثينيات القرن العشرين. وعبر قريفث، أول مدير لمعهد بخت الرضا، عن ذلك في كتابه "تجربة في التعليم: رواية لمحاولات تحسين تعليم البنين في المراحل الأولية بالسودان الإنجليزي - المصري المسلم 1934 - 1950"، ربما ناصحا للمدرسين البريطانيين، إنه "ينبغي السعي للحصول على فنيين سودانيين وموظفين صغار لأداء المهام الضرورية – غير أن عدد هؤلاء يجب أن يكون أقل ما يمكن، كما هو حادث الآن. وليس هنالك أسوأ من أن تضعوا بذرة أي نوع من أفكار السلطة السياسية في رؤوسهم. لقد سمعت، بالمناسبة، أنهم يدرسونهم تاريخ الثورة الفرنسية في كلية غردون! ... " (قامت البروفيسورة فدوى عبد الرحمن علي طه بترجمة ذلك الكتاب، وصدر عن دار نشر جامعة الخرطوم عام 2014م. المترجم).
ولام قريفث مدرسي المدارس الأولية السودانيين لمحاولتهم الدائبة تقليد الأوربيين تقليدا أعمى في الملبس، واتخاذ التدريس بحسبانه وظيفة مكتبية، والكراسي والمناضِد (في الفصول). وكان يرى أن ما كان يسمى بـ "تعليم الأهالي" يجب أن يكون أقل أكاديمية، وأكثر ملائمة للبيئة المحلية السودانية. وكان يؤمن أن التعليم الأولي في السودان يجب أن يجعل التلاميذ "مزارعين أفضل" وأن "يمنحهم شعورا بالكرامة في أوساط قبائلهم". وشكل إنشاء معهد التربية ببخت الرضا (على النيل الأبيض، على بعد 200 جنوب الخرطوم) في عام 1934م نقطة فارقة في تاريخ التعليم في السودان. فقد نما ذلك المعهد في أقل من عشرين عاما إلى مركز كبير لتدريب المعلمين، ووضع المناهج وبرامج تعليم الكبار، وطباعة ونشر الكتب المدرسية، وتفتيش المدارس. وكانت الإصلاحات التي تمت في التعليم الأولي (التي شملت المناهج وطرق التدريس، وتصميم مناهج جديدة، وإنتاج المواد التعليمية) هي من أهم إنجازات "بخت الرضا".
التوسع التعليمي، والتوحيد، والتَأْمِيم، 1947 – 1957م
أجريت في العقد الأخير لعهد الحكم الاستعماري تغييرات واسعة في النظام التعليمي بالسودان شملت توسع وتوحيد وتَأْمِيم التعليم. وبنهاية عام 1957م كانت غالب المدارس قد غدت تحت سلطة وزارة المعارف في السودان المستقل حديثا.

أ/ التوسع التعليمي
ازداد عدد المدارس في مراحلها الثلاث بشمال وجنوب السودان بصورة مضطردة عقب الحرب العالمية الثانية. وكان مرد تلك الزيادة عوامل سياسية عديدة، أهمها تنامي الطلب المجتمعي على زيادة المدارس مع زيادة الوعي في أوساط الشماليين المتعلمين، ومناداة الصحافة السودانية والعربية المستمرة منذ الثلاثينيات للتوسع في التعليم. وكان من أكثر المطالبين بتغيير مناهج كلية غردون لتغدو مثل مناهج المدارس الثانوية البريطانية هو السياسي الاستقلالي محمد أحمد المحجوب، الذي نشر مقالا في 1/11/ 1934م بمجلة "الفجر" بعنوان "في التعليم". وبعد شهور على ظهور ذلك المقال نشرت ذات المجلة افتتاحية عنوانها "علمونا"، بدا فيها واضحا ربط السودانيين الشماليين بين مطالبهم بالتوسع في التعليم وبين مطالبهم ودعاويهم السياسية. ونشرت من تلك الافتتاحية نسختان في 16/6/ 1935م، باللغتين العربية والإنجليزية، مما يدل على أن كاتبها كان يريد توجيه مقالته للقراء من السودانيين والمسؤولين البريطانيين في آن معا. (أوردت الكاتبة مقتطفات كثيرة مما ورد في تلك الافتتاحية. المترجم).
وفي يوم 16/4/ 1937م نشرت مجلة "الفجر" مقالا لمحمد عامر بشير فوراوي بعنوان "في التعليم: بِضْعَةُ اقتراحات عملية" دعا فيه لزيادة أعداد طلاب كلية غردون، وابتعاث طلاب سودانيين إلى الجامعات المصرية، واعتراف بريطانيا بالشهادات السودانية فوق مرحلة الثانوي. وظهرت في يوم 22/7/1939م افتتاحية صحيفة "النيل" (لسان حال "المهدية الجديدة") منادية بفتح مزيد من المدارس الثانوية، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب الذين لم يقبلوا بكلية غردون. وفي ذات الفترة بعث مؤتمر الخريجين مذكرة عن التعليم للسكرتير الإداري (جيمس قيلان، 1934 – 1939م) ذكره فيها بتخلف السودان في مجال التعليم مقارنة بالدول المجاورة، ومطالبا إياه بعمل إصلاحات في التعليم بكل مراحله.

ب/ التوحيد
توصلت بريطانيا ومصر إلى معاهدة في عام 1936م كان من نتائجها حث حكومة السودان على تطوير النظام التعليمي حتى يمكن زيادة السودانيين المؤهلين لتولي وظائف إدارية (مهمة) في بلادهم. وفي ذات الوقت سمحت تلك الاتفاقية بإعادة تعيين موظفي الخدمة المدنية المصريين في السودان في حالة عدم توفر الموظفين السودانيين المؤهلين. وكان المصريون في الجيش والخدمة المدنية قد أبعدوا من السودان عقب مقتل السير لي استاك الحاكم العام البريطاني بالقاهرة عام 1924م. وكانت السلطات البريطانية تتوجس دوما من وجود المصريين في السودان خشية "تلويثهم" للسودانيين بأفكار وطنية، ويعدون وجودهم فيه "مهددا سياسيا".
تأثر النظام التعليمي السوداني أيضا بالتقرير الذي أصدرته لجنة دي لا ووار (De La Warr) عام 1937م. وكان قد طلب من تلك اللجنة أن تبحث في أمر التعليم العالي في المستعمرات البريطانية بشرق أفريقيا. ولكن رغم ذلك طلب منها أيضا زيارة السودان لتقييم المناهج والمقررات والأساتذة والتنظيم في كلية غردون التذكارية، وفي معهد تدريب المعلمين ببخت الرضا، والمدارس الأولية والوسطى أيضا. وجاء تقرير تلك اللجنة مليئا بالانتقاد الشديد للنظام التعليمي السوداني، وناصحا الحكومة السودانية باستثمار المزيد من الأموال في التعليم، وفتح مزيد من المدارس، وتزويد مكتبات المدارس بالمزيد من الكتب والمستلزمات الأخرى.
وكان من محفزات التعليم الأخرى هو الاستبدال التدريجي لنظام "الإدارة الأهلية" بمؤسسات "الحكومات المحلية"، التي كانت تتطلب أعدادا متزايدة من المتعلمين السودانيين. وقامت الحكومة السودانية، ابتداءً من عام 1937م، بإصدار مراسيم للحكم المحلي عن طريق البلديات، ومجالس المدن والمناطق الريفية. وكان من تلك المراسيم تغيير السياسات القبلية إلى مفهوم "التمثيل الإقليمي" المبني على الجدارة وليس السلطة الموروثة. وشكل إنشاء "المجلس الاستشاري لشمال السودان" عام 1944م جزء ً من ذلك التحول السياسي نحو مؤسسات أكثر ديمقراطية واشتمالا وتمثل كل السكان.
وبدأ توحيد النظامين التعليمين في شمال السودان وجنوبه بُعَيْدَ إصدار قرار حكومة السودان بتوحيد إدارة جزئي البلاد عام 1947م. وكانت طبقة الانتلجنسيا في شمال السودان تطالب بذلك التوحيد منذ الثلاثينيات، وكانت أبرز تلك المطالبات مذكرة مؤتمر الخريجين التي سبقت الإشارة إليها، التي ورد فيها ما يفيد بأن التخلف والجهل والسَّغبة والحالة البدائية المزرية التي تكابدها قبائل الجنوب هو حصاد تعليم المبشرين. وطالبت المذكرة بزيادة عدد المدارس في الجنوب (مثلما هو حادث في الشمال)، واستخدام اللغة العربية كلغة مشتركة في مدارس الجنوب، وفتح حدود الجنوب للتجار والمزارعين والمدرسيين الشماليين.
وانعقد بالخرطوم في عام 1946 - 1947م مؤتمر "الإدارة في السودان"، الذي نوقشت فيه قضية توسيع مشاركة السودانيين في حكم بلادهم، وتوحيد التعليم في شطري البلاد. ووقع عبء توحيد التعليم من ناحية عملية على عاتق أول وزير سوداني للمعارف (عبد الرحمن علي طه)، الذي تولى ذلك المنصب بين عامي 1948 – 1953م. وطاف طه على كل أجزاء الجنوب في رحلة استغرقت ستة أسابيع في صيف 1949م، ثم خلص إلى وضع خطة خمسية كانت ستفضي لتوحيد النظامين والمنهجين الشمالي والجنوبي، واستخدام العربية كلغة تدريس في كل المدارس.

ج/ التَأْمِيم
كان من نتائج توحيد نظامي التعليم في جنوب وشمال السودان تأميم مدارس المبشرين وكل المدارس الخاصة. ووضعت وزارة المعارف في عام 1955م (بقيادة ميرغني حمزة) يدها على كليتي تدريب المعلمين في منديري (بالاستوائية)، وبيرسي (ببحر الغزال)، اللتان كانتا تحت إشراف البعثات التبشيرية. وصرح علي عبد الرحمن (وزير المعارف بين عامي 1955 و1956م) بأن المنهج التعليمي الحكومي سيفرض بالتدريج على كل المدارس التبشيرية. وجاء وزير معارف آخر بين عامي 1956 و1962م (زيادة عثمان أرباب) فقاد عملية أفضت إلى تأميم كل المدارس التبشيرية والأهلية في أقل من ستة أشهر، بعد مشاورة كل الأحزاب (بحسب خطاب ألقاه ذلك الوزير أمام البرلمان في يوم 18 يونيو 1957م بعد جولة له في الجنوب). واجتمع أرباب بممثلي المدارس التبشيرية في 13 فبراير 1957م وأبلغهم بقرار الحكومة القاضي بأن تؤول كل مدارس القرى، والمدارس الأولية، وكليات تدريب المعلمين في الجنوب إلى الحكومة ابتداءً من الأول من أبريل 1957م. واستثنى قرار الحكومة مدارس البنات الأولية مؤقتا لعدم توفر العدد الكافي من المدرسات السودانيات. ووافقت بعثات الكنائس البروتستانتية فورا على قرار الحكومة، بينما عارضته بعثات الكنائس الكاثوليكية، وابتدرت حوارا مع الوزير نتجت عنه بعض التنازلات من الحكومة (شملت حق البعثة التبشيرية في وضع المنهج والكتب الدراسية للتعليم الديني الخاص بها، وتعيين غالب المدرسين المسؤولين عن تدريس مادة الدين المسيحي، وإنشاء مدارس خاصة بها بعد ثلاث سنوات). وبحسب ما ذكرته بعثات الكنائس الكاثوليكية لاحقا فإنه لم تتحقق فعليا أي من تلك التنازلات ، وفي بعض الحالات لم يتم الالتزام ببعضها طويلا.
وألقى زيادة خطابا أمام البرلمان في 18/6/ 1957م وعد فيه بتعيين عدد من الجنوبيين في وظائف بإدارة التعليم. ويجدر بالذكر أن لجان السودنة في عام 1954م كانت قد عينت ستة جنوبيين فقط في وظائف التعليم من جملة 800 وظيفة.

****
اختتمت الكاتبة مقالها بمناقشة عامة لما كتب في المقالات والكتب والتقارير الحكومية وغيرها عن تاريخ التعليم في العهد الاستعماري. وأشارت لقلة ما نشر في هذا الموضوع بأقلام مؤرخي البلاد العربية والافريقية، ربما لهامشية السودان بسبب موقعه بين الشعوب الناطقة بالعربية والشعوب الناطقة بغيرها، وربما بسبب غرابة نظام حكمه الثنائي (من قبل دولة تتحدث العربية، وأخرى الإنجليزية).

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء