التفكير الناقد وبناء الانسان في السودان 

 


 

 

تزخر مصادر المعرفة المتعددة بكثير من الكتابات عن جودة التعليم، إذ أنه أهم وأقوى أدوات بناء الإنسان. ومن أشهر مقولات المناضل نيلسون مانديلا عن التعليم أنه هو "أَمْضى سلاح يمكن أن نستخدمه لتغيير العالم"، حيث أنه لا توجد أي دولة في عالمنا يمكن أن تنتج جيلا بناءً دون تعليم جيد، إذ ستفقد حينها الدولة نفسها جودتها.

وعند صياغة المناهج التعليمة يجب التركيز على أن التعلم هو عملية مستمرة مدى الحياة، مصداقا للقول المأثور: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، حتى تصبح القراءة والاطِّلاع عند الطلبة سلوكا معتادا لممارسة القراءة الحرة وتنمية روح الابتكار والتفكير الناقد الذي ينبغي أن يمارس في كل مراحل العمر المختلفة. ويحتاج التعليم (خاصة في البلدان النامية) دوما إلى الانفتاح على العالم المتقدم لمواكبة المستجدات العلمية والتقنية وغيرها ورفع مستوى جودة التعليم المقدم، بالإضافة إلى جميع ما يمثل رؤية متقدمة لتنمية القدرات البشرية وتعزيز القيم الوطنية في الشخصية في الحياة العملية لتحسين جودة الحياة. ومن خلال غرس تلك القيم يتم نشر التسامح والوسطية والشفافية والأمانة وحسن أداء العمل، وقبول الاستماع للرأي والرأي المخالف والحفاظ على البيئة غيرها من معايير السلوك الإنساني.  لذلك بات الحل الأمثل يتمثل في "بناء الإنسان" لتحقيق أهداف الرؤية الاستراتيجية لبناء الدولة الحديثة المتقدمة وهذا لا يتم إلا عبر تطوير التعليم، وتلك هي مهمة شاقة وطويلة.

وبرز حديثاً نسبيا مفهوم التفكير الناقد الذي تختلف تعريفاته عند علماء النفس والفلسفة وغيرهم. وهو- بحسب أحد التعريفات - يعني التصور العقلي الداخلي للأحداث والأشياء، وهو نوع من التفكير الذي يستخدم المهارات المعرفية والاستراتيجيات التي تزيد الفرص للوصول إلى نتائج ملائمة وفعالة عند مواجهة أكثر من مقترح. ومن خلاله يتم اختيار مقترح واحد أو أكثر من أجل حل المشكلات. وهذه هي أحد أهم المفاهيم الفلسفية القديمة الشائكة. وتكمن أهمية التفكير الناقد في كونه يعتمد على بناء طريقة سليمة في الحكم على الأشياء من خلال طرح الأسئلة للمساعدة على توضيح الصورة الكلية، ومن ثَمَّ عقد المقارنات بين الخيارات المتوفرة عن طريق دراسة كافة للحقائق التي تخص القضية، وتصنيفها لتحديد الاستنتاج الأنسب والأكثر صحة لحل المشكلة. كما يعمل على تحديد ما يبرر الحل الذي تم طرحه، أي تعيين سياق الأحداث الذي يؤدي الية الاختيار الصحيح، وإثبات الحيادية والعدل باتخاذ الإجراءات المناسبة للموقف بغض النظر عن التوجهات الخاصة للمفكر، أو أي نفوذ يميل لأحد الأطراف على الاخر.

ويعتبر التفكير الناقد أسلوباً للتفكير يمكن بسهولة اكتسابه والتدرب عليه. وكما أن للتفكير الناقد العديد من المميزات، بعضها يهتم بأنه تفكير مُتريِّث لا اندفاع فيه، ويصل إلى معتقداتٍ مقبولة عبر ترجيح قيمة الدليل الموجود، بمعنى أنه لا يرفض أي مقترح دون تفكير أو تحليل. كذلك للتفكير الناقد عدة معايير يتم الاحتكام بها على درجة كفاءة التفكير مثل الارتقاء بمستوى المعالجة السطحي للمشاكل لرؤية أكثر عمقاً، عبر التأكد من المعلومات ومصادرها، والوضوح في طرح المشكلة، مع إعطاء الموضوع المطروح الفترة الكافية للدراسة للمرور بمراحل حل المشكلة من تسلسل منطقي للأفكار والمقترحات.

ويعد نقص المعلومات الكافية أحد معيقات التفكير الناقد، والجهل بالموضوع، والخوف من الخروج عن التفكير المعتاد عليه الذي يقف حاجزاً يمنع القدرة على تقييم الأفكار والحلول لاعتبارات تتعلق بأن أسباب الفشل تعود لأسباب تنسب لآخرين، والخوف من الخروج عما هو مألوف، سواءً أكان مجتمعياً أو دينياً أو عرفياً، هذا فضلاً عن إعتبارات الانتمائية المجتمعية سواءً أكانت قبلية أو حزبية أو حتى أسرية، تلك التي تخلق تحيزاً في رؤية الموضوع مما ينتج عنه اتخاذ قرارات خاطئة.

ويتضمن التفكير الناقد نوعين من المهارات وهما: المهارات الوجدانية، والمهارات المعرفية. ويعد وصف المهارات المعرفية بأنها جوهر المهارات الوجدانية الانسانية، فالإنسان هو المسؤول عن إدارة المجتمع والتخطيط له، وتعد طريقة تفكيره ورؤيته للعالم وللآخر ‏من أهم عوامل الاستقرار والازدهار. ويساهم التفكير الناقد في التعامل مع التغيير السريع في مختلف المجالات بشكل مرن وفعال بناءً على المهارات الفكرية التي تشمل تحليل المعلومات ودمج مصادر المعرفة المتنوعة في حل المشكلات، كما يحسن من مهارات اللغة والخطابة وتحسين طريقة التفكير من خلال تعلم تحليل بنية النصوص بمنطقية وعمق، والذي بدوره ينعكس بإيجابية على قدرات الفهم الفردي والتعبير عن الذات. ويساعد التفكير الناقد على تعزيز الإبداع والابتكار في حل المشاكل من خلال القدرة على طرح أفكار جديدة متعلقة بقضية البحث واختيار الحلول الأنسب، وتعديلها إن لزم الأمر للوصول إلى المنفعة القصوى. كما يُعدّ التفكير الناقد وسيلةً لتطوير وصقل الذات، من خلال توفير أدوات تساهم في تأمل القيم والأفكار، والقرارات الشخصية والاستفادة منها مستقبلاً. كما يُعدُّ التفكير النقدي أساساً للعلم والديمقراطية، حيث يعتمد العلم على التحليل والتجريب لتأكيد النظريات وإثباتها أو نفيها، ويساهم التفكير الناقد بتفعيل الديمقراطية من خلال التأكيد على الحكم السليم بدون تحيز أو تحامل.

وتواجه تطبيق مناهج التفكير الناقد صعوبات عديدة منها حسن اختيار المعلم وتأهيله، وتصميم المناهج التي تخاطب العقل وتغير من طريقة التفكير. كذلك ينبغي أن يتمحور دور المعلم في إرساء قواعد للتفكير الناقد عبر بيئة الدراسة، وأن تكون بيئةً مناسبة لتنمية التفكير الناقد والإبداع بمراعاة عدد من المحاور التي تجعل المتلقي هو محور العملية التعليمية، ورسم جو محفز على التفكير الناقد، مع عدم احتكار المعلم للعملية التعليمية معظم الوقت ، بمعنى ضرورة الابتعاد عن أسلوب التلقين المباشر.

من أهم أدوات بيئة التفكير الناقد إعداد إدارة حجرة الدراسة بأسلوب ديمقراطي، والابتعاد عن ردود الفعل التعنيفة للطالب، والدعم الإيجابي المتبادل والتغذية العكسية الحافزة على التفكير. مع أهمية ابتعاد المعلم عن استخدام معوقات التفكير الناقد المتمثلة في الدكتاتورية، والسلبية في ردة فعله عند فشل المتلقي، واستخدام لغة الحوار بدلاً عن الزجر، والمحبة عوضا عن الأجواء المشحونة بالخوف من ردة فعل المعلم تجاه الأخطاء.

ويجب الربط بين البيئة التعليمية والبيت والمجتمع من حوله عبر توعية الاسرة بأهمية تنمية مهارات النقاش والتفكير الناقد عبر الاهتمام بأسئلة الاطفال وعدم صدهم وإبداء الاهتمام بما يطرحونه من تساؤلات، والعمل على مناقشتها بتفكير متطور للوصل لنتائج مقنعة. كذلك ينبغي تحفيز المجتمع المدني وتدريب مكوناته المختلفة للوعي بأهمية التفكير الناقد في إرساء مجتمعات منفتحة لإرساء مفاهيم المدنية من قبول الرأي الآخر والنقاش المثمر لتطبيق الديموقراطية. فإن من أسباب انعدام جودة الحياة هو عدم المعرفة بأهمية التفكير الناقد كأسلوب لممارسة تنمية القدرات البشرية وبرنامج تعزيز الشخصية الوطنية، وزرع قيم التسامح والوسطية والشفافية والأمانة وحسن أداء العمل إلى غير ذلك من الأهداف الكثيرة التي يتضمنها أي برنامج من برامج الاستراتيجية التنموية في البلدان المختلفة.

ومن المعلوم أنه لا يمكن معرفة قيمة الأشياء دون تعلمها بالطريقة الصحيحة. فالالتزام مثلاً بالسلوك ‏الأخلاقي القويم في العمل وتجاه الآخرين والمجتمع والدولة، هو الذي يعطي الصورة الحضارية للمجتمع، لأن الإنسان هو صانع التقدم، وصائِن وطنه ومجتمعه، وهو من يطوّر واقعه، ويرسم مستقبله ويواجه مشكلاته، ويحلها عبر الوسائل والأدوات العلمية والمعرفية التي يملكها. ومن ناحية أخرى يمكن أن يغدو الإنسان عامل هدم لقيم المجتمع، وسبباً لانتشار الفساد فيه، وعدم الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين والمجتمع، في حال إذا لم يُعَدُّ الإعداد السليم. وكل هذا يعني أن بناء الإنسان هو بالفعل بناء الوطن في كل شيء.

وقد يلاحظ الكثيرون أن طريقة التفكير العام في السودان (خاصة حول المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية) تفتقد للكثير من مفاهيم التفكير الناقد. كما تقل فيه المناهج التعليمة والوسائل والمعينات التي تقوم بتطوير بعض السمات الشخصية الحميدة كنبذ الأحكام المسبقة أو المبنية على الافتراضات، وصَرْف التعصب والجمود وتأثيرات الثقافات الضارة، والتطرف والتعصب الفكري. لذلك نجد أن كثيرا من الصراعات على المستوي السياسي والاجتماعي هي نتاج عدم استطاعة الكثير من المتعلمين على ممارسة الحريات السياسية والاجتماعية بوعي لعدم مقدرتهم على الانفتاح وتقبل على الآخرين المختلفين عنهم في مذهبهم أو فكرهم.

إن الانشغال بقضيا بناء الانسان وتدريب الكوادر القيادية العاملة الحالية بمفاهيم التفكير الناقد عبر برامج إستراتيجية متخصصة سوف يساعد في عملية الدمج والمؤامة لتحقيق نتائج ملموسة، بوسائل تساعد في التعامل مع المعلومات المتدفقة لاتخاذ القرارات الأصح لإنجاح العمليات، وكيفية مراقبة التفكير وضبطه بحيث يصبح أشد دقة وأكثر صحة. كذلك ينبغي إتقان قدرة واسعة على أدوات تقنية المعلومات في زمن اتسعت فيه المعلومات وانتشرت وسائل الإعلان للحصول على أفضل محتوى معرفي، مع تنمية القدرات على ضبط المحتوى الخطابي والتفكير المسبق فيه.

نختم القول بأن السودان – مثله مثل الكثير من البلدان النامية - يحتاج إلى إعادة بناء أجيال جديدة بتنمية وتعليم التفكير الناقد في التعليم، حيث يُعد الإنسان هو العنصر الأساسي في التقدم والازدهار الحضاري، وأن تنميته والاهتمام به (خاصة من فئة الموهوبين) هو رأس مال الثروة البشرية لأي مجتمع، وتنميتها واستثمارها بما يعود عليه وعلى مجتمعهم بالمنفعة، عبر تلقيها مادة التفكير الناقد القائم على دفع العقل لطرح تساؤلات وتحليل الأفكار والاستدلالات والمقارنة والتنبؤ وطرح الحلول. وعادةً ما يصيغ الخبراء هذه المادة بطريقة بسيطة وكلمات سهلة الفهم وتركز على المضمون الذي ينمو مع الطالب خلال تدرجه في المراحل الدراسية المختلفة. كذلك ينبغي أن يزداد الاهتمام بتنمية مهارة النقاش المعرفي والذي يخلق جيلا متوازنا اجتماعياً يحترم وجهات النظر السلمية المختلفة. كذلك يعد استخدام التقنية أسرع وسيلة لتنمية مهارة التفكير الناقد من أجل الحصول على المعلومات التقنية باستخدام محتوياتها بصورة إيجابية، حيث يلاحظ الكثيرون أن الجيل الحالي بدأ يستشعر بحالة من الانعزال المعرفي في عالم تطرح فيه عوالم التقنية كماً كبيراً من المعرفة، بينما هم لا يملكون أدوات استخدامها بسبب نقص جودة التعلم المطروح لهم.



nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء