التَّعرِيد ما بين الكِيزَان والقحاطة والدَّيَّاشَة والجَنجَوِيد

 


 

 

فيصل بسمة

بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

لقد كثر تداول و إستخدام المفردات (عَرَّد) و (التَّعرِيد) من قبل النشطآء و المشاركين في منتديات السودانيين في الوسآئط الإجتماعية بما يفيد هروب الضالعين في الشأن السوداني من: جماعات الأخوان المتأسلمين (الكيزان) و قوى الحرية و التغيير (قَحت) أو (قحط) كما يحلو للبعض و مشتقاتهما: (قَحَاتَة) و (قَحَاطَة) على التوالي و الجيش (الدَّيَّاشَة) و الأجهزة الأمنية المختلفة و مليشيات الجَنجَوِيد (الدعم السريع) ، و تعيب الناس على جميع الضالعين ، و بدرجات متفاوتة ، فرارهم من ساحات النزاع السياسي و العسكري و نكوصهم عن الوفآء بالإلتزامات تجاه جماهير الشعوب السودانية المتطلعة إلى دولة القانون و العدالة و المؤسسات...
و الشاهد هو أن الهدف من إختيار المفردة (عَرَّد) تحديداً ليس التشهير و الطعن في نزاهة و وطنية و مقدرات الخصوم السياسيين: العسكريين و المدنيين الفارين و حسب بل أنها تتعمد إصباغ صفات سالبة و معيبة عليهم مثل: التولي يوم الزحف و الجبن و التخاذل...
هذا التداول و الإستخدام المكثف حتم التعرف على معاني الفعل (عَرَّدَ) ، و قد جآء في معجم المعاني الجامع أن الفعل عَرَّدَ يفيد الخروج و الهروب و الفرار و كذلك الحياد عن الطريق ، و في بلاد السودان يقال:
فلان عَرَّد...
بمعنى أنه فر بطريقة عشوآئية ، و غالباً ما تستخدم في حالة فرار الحمير من مرابطها و أصحابها فيقال:
الحمار عَرَّد...
و تقديمُ الفاعلِ على الفعلِ أمرٌ شآئعٌ في بلاد السودان ، و تقال العبارة إذا ما إنطلق حمارٌ هارباً من معقله/مربطه أو إنفلت من صاحبه ، و غالباً ما يكون وصف تعرِيدَة الحمار أكثر دقةً و تفصيلاً فيقال:
الحمار هَنَّق و نَطَّط و فَنجَط و رَفَّس و بعد داك قام عَرَّد...
هذا الوصف الدقيق يجعل القاريء و المتلقي في وضعية المشاهد الذي عاصر وقوع الحدث و يتيح له تخيل تفاصيل دقيقة لا تكتمل (تَعرِيدَة) الحمار بدونها مثل الهلع و الخوف و الهرج و المرج الذي يصيب الناس جرآء (عَردَة) الحمار و فَنجَطَتِهِ و ما ينتج عن التَّعرِيدَة و ما تفرزه من فرار الناس من أمام الحمار (المِعَرِّد) و كذلك الإصابات و الأضرار و الأذى جرآء الفَنجَطَة و الرفس و التدافع أضف إلى ذلك تداخلات صاحب الحمار المِعَرِّد و الحضور و المارة و محاولاتهم إحتوآء الحمار المِعَرِّد و إيقافه:
حُوشُوا الحمار...
أمسكوه من اللجام...
بينما ينصح آخرون:
أضربوا الحمار في رأسه...
أو
خَلُّوهُو يَنَطِط و يَفَنجِط و يَعَرِّد ذي ما دَاير... يعني حَ يطير و يمشي وِين؟!!!... ما في النهاية ح يقيف ذيو ذي أي حمار و يعود لسيدو و قيدو... و هو سموهو حمار ليه؟... مش عشان هو حمار!!!... و لا حاجة تانية؟!!!...
و في سياقات أخرى قد يستخدم الفعل عَرَّد أو مشتقاته و تصريفاته لتفيد الإحجام و النكل و النكوص و عدم الإيفآء بقضآء الحاجة ، أو ليعني الطلوع/الخروج و النمو و الإشتداد و الإنتصاب كما في حالة الشجر و الأسنان ، أو ليدل على النفاذ و الإختراق حين الرمي بعيداً كما في حالة تسديد السهام و النبال و حصب الحجارة و الحصى ، أو ليشير إلى الميلان و الغروب كما في حالة النجوم...
إسقاط ما جآء ذكره أعلاه من إستخدامات و معاني و مشتقات و تصريفات المفردة عَرَّدَ على ما يدور في الساحة السياسية و العسكرية السودانية يفيد بأن ظاهرة التَّعرِيد أو (العَردَنَة) كانت حاضرة بكثافة إبان و خلال الأحداث التي صاحبت و تلت الثورة السودانية التي إندلعت في ديسمبر ٢٠١٨ ميلادية...
و الشاهد هو أنه في باديء الأمر و عندما رأت قيادات و منتسبي جماعة الأخوان المتأسلمين (الكيزان) إنتفاضة الشعوب السودانية و جسارة الثوار و قوتهم و تصميمهم على إسقاط نظام الجماعة (الإنقاذ) و إحداث التغيير:
أي كوز...
ندوسو دوس...
ما بنخاف... ما بنخاف...
و أنهم عندما رأوْا ذلك و لمسوا نجاح الثوار في هز أركان النظام الإنقاذي القمعي الباطش و تمكنهم من خلع الطاغية البشير أصابهم الهلع الشديد و الخوف العظيم و انشقت الأرض و ابتلعتهم و اختفوا حتى قالت الناس أن:
الكيزان عَرَّدُوا...
و المقصود هنا بالتحديد هو تَعرِيد القيادات الكيزانية الفاسدة و (النافذة) في الحركة الإسلامية و حزب المؤتمر الوطني الحاكم من الذين تسنموا السلطة الإنقاذية عقوداً من الزمان و هروبهم الجماعي إلى خارج البلاد ، و الذين صحبوا معهم في عَردَتِهم عوآئلهم و توابعهم من المتحالفين و المتحاورين و الأرزقية و فروا جميعهم بجلودهم إلى المنافي القريبة و البعيدة حاملين معهم كل ما غنموه و سلبوه و نهبوه و غَلُّوه من أموال و خيرات بلاد السودان...
و أثنآء تفاعلات الثورة و خلال فترات إعتصام الثوار في ميدان القيادة العامة للجيش و إبان الفترة الإنتقالية أخذت/عابت الناس على أعضآء اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (المجلس العسكري الإنتقالي) عَرَّدَتهم عند الحَارة (مشتقة من حَر و ينطق حرف الرآء مرققاً) ، و كيف أنهم صَهيَنُوا عن واجب الدفاع عن الثوار و المواطنين و تقاعسوا عن الإيفآء بإلتزاماتهم تجاه: حماية الثوار المعتصمين من عمليات البطش و القتل و مساندة الثورة السودانية و تفعيل عمليات تفكيك و إزالة نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩ ميلادية و محاكمة مدبري الإنقلاب الكيزاني و تسليم السلطة للمدنيين و كيف أنهم (كَنكَشُوا) في السلطة بأياديهم و عن طريق إستخدام العنف و الهراوات و السياط و قنابل الغاز المسيل للدموع و قتل الثوار بالكِلَاشِنَات و بنادق القنص و الدُّوشكَات و المُسَّيَّرَات و الحرق و الإغراق في النيل و معينات أخرى فتاكة و متنوعة...
و قد عاد تداول المفردة (عَرَّد) في الوسآئط الإجتماعية إلى الإنتشار مرة أخرى و ذلك من بعد إندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣ ميلادية بين الجيش و أجهزة الأمن و كتآئب الظل الكيزانية من جهة و حلفآءهم في مليشيات الجَنجَوِيد المتمردة من الجهة الأخرى فحينها قالت جماعات من الناس:
القَحَاتَة عَرَّدُوا...
أو
القَحَاطَة عَرَّدُوا...
و ذلك عندما رأى المشاهدون و المتابعون على شاشات التلڨزيونات و الأجهزة الإلكترونية الذكية بعض من قيادات في قوى الحرية و التغيير (قَحت) تتسابق مندفعة و هي (تخترق) و تتخطى صفوف جموع الفارين من جحيم القتال و (تنفذ) إلى أجواف الطآئرات و السفن الحربية التابعة لأساطيل الدول الغربية التي تداعت و تقاطرت لإجلآء رعاياها و آخرين من ذوي الجنسيات و الأغراض المزدوجة و ذلك من بعد إحتدام القتال و إزدياد أعداد القتلى و تصاعد وتيرة الخراب و الدمار...
و مع تطاول أمد الحرب و الأزمة السودانية و زيادة تعقيداتها في ظل التدخل الخارجي إزدادت إستخدامات و توظيفات المفردة (عَرَّدَ) في الساحات السياسية و العسكرية و أضيف لها معاني جديدة تفيد الفساد و السقوط الأخلاقي حتى أن قيادات قوى الحرية و التغيير (قحت) قد وصِمَت و اتُهِمَت من جهات عديدة بأنها قد (حادت) عن جادة الثورة و أنها قد (نكلت) و (نكصت) عن المباديء ، بل أنهم ذهبوا إلى أكثر من ذلك و اتهموها بالخيانة و الإرتزاق و العمالة و الإرتهان للأجنبي و سلسلة طويلة من الإدعآءات:
بكم... بكم...
قحاطة باعوا الدم...
و قد كثر إستخدام المفردة (عَرَّد) و عاد إلى التداول المكثف عندما لاحظ المراقبون و المهتمون بالشأن السوداني غياب قآئد مليشيات الجَنجَوِيد المتمردة ، المحب للظهور الجماهيري ، محمد حمدان دَقَلُو (حِمِيدِتِي) و كيف أنه قد إختفى تماماً و (انحجب) عن الساحة السياسية و ميادين القتال و (أحجم) عن الظهور على القنوات التلڨزيونية الأعرابية بعد إشتعال أوار الحرب و حينها قالت الناسُ:
حِمِيدِتِي عَرَّد...
بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك و قالوا:
حِمِيدِتِي إِتلَحَس...
و مات و شبع موت و صار في خبر كان ، و لكن و لما بُثَّتَ بعضٌ من الڨيديوهات التي تتضمن خطابات و أحاديث و رسآئل من حِمِيدِتِي موجهة إلى جنوده و جموع الشعوب السودانية قالوا أن حميدتي يقبع الآن في البرزخ و يرسل رسآئله من هناك و أنه قد إنقلب إلى بَعَّاتِي ، و البَعَّاتِي في التراث السوداني هو الزُّومبِي Zombie في أحاديث و لسان الفرنجة ، و البَعَّاتِي يعني عودة الميت إلى الحياة مرة أخرى و لكن في صورة مسخ!!!...
و أثنآء الحرب الدآئرة الآن في بلاد السودان تبادل الطرفان المتقاتلان: الكيزان في الجيش و أجهزة الأمن و العمليات و الشرطة و كتآئب الظل و مليشيات الجَنجَوِيد المتمردة إتهامات العَرد و التَّعرِيد بينهما بكثافة لتأكيد الفرار و إخلآء المواقع حتى ملت جماهير الشعوب السودانية من كثرة الإدعآءات و التصريحات المنبعثة من داخل غرف الطرفين الإلكترونية المتخصصة في نشر الأكاذيب و الإشاعات و الأخبار المفبركة...
و لم ينجو الجيش و قادته من الهجوم العنيف عليهم و على ضعف الأدآء و سوء إدارة الحرب و كيف أن الجيش قد أضحى واجهات و ساحات كيزانية صريحة تُعَرِّدُ فيها دون رقيب كتآئب الظل و البرآءون و أخوات نسيبة ، و شمل الهجوم إنتقاد تصريحات قادة الجيش الشينة و المشينة و التي عَرَّدَت بعيداً حتى فارقها العقل و التدبر و التفكير السليم و فارقت في تعريدتها جميع خطوط اللياقة و اللباقة و الدبلوماسية حين إستخدمت قيادة الجيش ألفاظ مصنفة في خانة (غير اللآئقة) مثل: الزَّعِط و عينك فوقو تركب فوقو و البَل و المَتِك و دَبِّل لِيه ، كما عابت على الجيش توليه عن قتال و مواجهة المليشيات المتمردة و (تَعرِيدَاته) المخجلة التي (تَشرُطُ العين) و إنسحاباته المعيبة و المتكررة من الحاميات و المدن و (نكوله) و (نكوصه) عن (الإيفآء) بإلتزاماته تجاه حماية الوطن و الأرض و المواطنين و العرض...
و لم يفت على الناس إستدعآء الماضي القريب حين جبن الجيش و (عَرَّدَ) و تقاعس عن منع/وقف الأذى و القتل عن الثوار المعتصمين أمام بوابات قيادته العامة و ذلك حين إعتدت عليهم مليشيات الجَنجَوِيد و كتآئب الظل و العناصر الكيزانية في الأجهزة الأمنية المختلفة و قَتَّلَتهم و رَوَّعَتهم و حَرَّقتَهم داخل الخيام و اغتصبت إناثهم و أذلت جموعهم ، و كيف أنه قد عاود (التَّعرِيد) حين لم يزد عنهم هجمات و إعتدآءات مليشيات الجَنجَوِيد بعد إندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣ ميلادية ، و كيف أنه وقف متفرجاً بينما أفراد المليشيات يمارسون القتل و إحداث الأذى و الإعاقات و يستبيحون الدور و يخربونها و يستولون/ينهبون المتاع و المقتنيات و الممتلكات و يغتصبون النسآء و يشردون المواطنين و يدفعونهم إلى الهروب و الفرار و النزوح و اللجوء...
و يرى كثيرون أن عَردَة الجيش و تقاعسه عن القيام بمهامه في حماية الثوار و المواطنين و المقار الحكومية و ممتلكات المواطنين و الأراضي السودانية هو عين (الميلان) عن الحق و عن القيام بالمهام الأساسية المنوط بها الجيش الوطني ، بينما يرى كثيرون أن عجز الجيش عن ممارسة دوره في حماية الأرض و صون العرض يعني سقوط و (غروب) شمس مؤسسة الجيش السوداني...
و عندما تعاظم أمر بطش مليشيات الجَنجَوِيد المتمردة المُعَرِّدَة و إزدياد إنسحابات الجيش من المقار و المعسكرات و الحاميات و الإرتكازات و المناطق الإستراتيجية/الحيوية و تفاقم الخسآئر صاح نشطآء:
فكوا لجام الحيش...
و خَلُّوا الجيش يَعَرِّد ذي ما داير بشرط إنو يَكَتِّل و يَبَل و يجغُم و يزعَط المليشيات المتمردة المِعَرِّدَة و يَدَبِّل ليها و هي تعاين فوق كل ذلك المَتِك و تركب فوقو!!!... فتعود طآئعة و ذليلة لقيدها و مربط سيدها و مؤسسها الكيزاني...
و هذه المقولات توحي و كأن الجيش (المِعَرِّد) المنسحب من المقار و المعسكرات و الحاميات و الإرتكازات و المناطق الإستراتيجية/الحيوية و المدن كان مارداً مقيداً و يريد الخروج و الفكاك من القمقم!!! ، و قد عاب كثيرون على النشطآء إستخدام المفردة (لجام) بحسبان أن اللجام آلة لكبح جماح الأنعام مثل الخيل و البغال و الجمال و الحمير!!!...
و في الناحية الأخرى و عندما تشابكت الأمور و تعقدت و انفرط الأمن و اختفت الدولة و ضاع الإستقرار و عمت الفوضى و زاد البلآء و معاناة الشعوب السودانية صاح عقلآء و حادبون:
حوشوا الجيش... و أمسكوه... و أمنعوه من (التَّعرِيد) و الإنهيار... لأنو الجيش و كمان المليشيات المتمردة لو (عَرَّدُوا) أكتر من كده تاني إلا يرجعهم الله سبحانه و تعالى بعجآئب قدرته إلى الصواب و الثكنات...
و يرجو كثيرون و يطمحوا/يأملوا أن لا تطول (عِريدَة/تَعرِيدة) الجيش السوداني ، و أن يتمكن الجيش من كبح جماح المليشيات المتمردة (المِعَرِّدَة) و مفنجطة في التراب السوداني و أهله ، و أن يعود إلى الجيش السوداني رشده و مهنيته و يتخلى عن ممارسة السياسة و الإقتصاد و لعب التلات ورقات و المَلُوص السياسي و الإقتصادي و يرمي البايظ الكيزاني و يخضع لعمليات الإصلاح و التأهيل حتى تعود و تتغنى له الشعوب السودانية من جديد:
الحارس مالنا و دمنا...
جيشنا... جيش الهنا...
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

فيصل بسمة
fbasama@gmail.com

 

آراء