الثورة السودانية ومشروعية تقرير المصير

 


 

على كمنجة
11 January, 2023

 

بعد خمسة أشهرٍ من ثورة أكتوبر 1964، انعقد مؤتمر المائدة المستديرة. في يوم 16 مارس عام 1965 واستمر لمدة أربعة عشر يوماً حتى يوم 29 من الشهر نفسه.
خلال جلسات المؤتمر قدم الزعماء الثلاثة ، السيد أقري جادين والسيد غوردون مورتات و السياسي المخضرم وليم دينق ، مرافعة سياسية رصينة حول الحلول الممكنة لإنهاء الحرب التي كان مسرحها جنوب السودان ، واثناء جلسات المؤتمر انتقد الزعماء قادة الأحزاب الشمالية لعدم إيفائهم بالوعود التي قطعوها في السابق، بخصوص تطبيق النظام الفيدرالي بالنسبة لإقليم جنوب السودان ، حسب ما تمّ الاتفاق عليه عشية الإستقلال في شهر ديسمبر عام 1955 .
كان أهم ما ذكره ويليام دينق خلال جلسات المؤتمر ، ان نظام الحكم الذي تم تطبيقه عقب الاستقلال ، عجز عن تمكين المجموعات الاثنية و الدينية والثقافية المتعددة في السودان من التعايش في دولة واحدة. وطالب وليم دينق الأحزاب الشمالية بتصحيح خطأها ،عندما تجاهلت مطلب الفيدرالية الذي طالب به الجنوبيين انذاك.
وكما هو معلوم ، رفض قادة الأحزاب الشمالية الذين حضروا المؤتمر مقترح الفيدرالية ، وتعالى عندها الزعيق المشهور (نو فيدريشن فور ون نييشن - لا فيدرالية لأمّةٍ واحده !!)
ادعت الأحزاب الشمالية إنها متمسكة بوحدة السودان ارضا وشعبا، واعتبرت ان المطالبة بالفيدرالية تعتبر خطوة أولى نحو الانفصال ، وهو ادعاء غريب بلا شك ، فضلا عن إنه يعكس مدى ضحالة وفقر هذه الاحزاب في فهمها للفيدرالية ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ، كيف تنظر هذه الاحزاب لمسألة بناء الوحدة والهوية الوطنية ؟.
في كتابة القييم ( صراع السلطة والثروة في السودان) كتب الباحث والمؤرخ تيم نبلوك توثيق في غاية الأهمية عن حركة التطور السياسي والإقتصادي والإجتماعي في السودان خلال الفترة منذ الاستقلال 1956 وحتى الانتفاضة 1985 ، وكخلفية تاريخية سرد نبلوك الطريقة التي ادت الى صياغة تركيبة القوى الاجتماعية في السودان خلال فترة الحكم الثنائي ، من خلال عمليات التراكم لرؤس الأموال وإعادة استثمارها التي نشطت فيها حصريا المجموعات ( العربية الاسلامية ) في وسط السودان مستفيدة من امتيازات حيازة الاراضي الزراعية ، وتمويل المشاريع ، والتسهيلات التجارية التي منحتها لها سلطات الحكم الثنائي ، ، فضلاً عن سياسة تركيز التنمية بشكل اكبر في وسط السودان ( المناطق النيلية – شمال وجنوب الخرطوم ) ، وهو ما سيمثل حجر الاساس لشرح الديناميات السياسية للحركة الوطنية كما تطورت عقب الاستقلال .
ويذكر نبلوك ان عدم المساواة كان احد اهم المظاهر التي لازمت تركيبة الاقتصاد السوداني في فترة الحكم الثنائي ، وهو ما ادى الى التفاوت في التقدم الاقتصادي والاجتماعي بين اقاليم السودان المختلفة ، وبالتالي بين شعوبه واثنياته المتنوعة ، كما ايضا ادى الى تقوية وتدعيم الموقع الاقتصادي والسياسي للمجموعات (العربية الاسلامية) في وسط السودان مقابل تهميش جميع السكان من ذوي الاصول غير العربية.
خلال السنوات القليلة التي سبقت إعلان الاستقلال ، برز الصراع حول تغير التركيبة الاقتصادية والاجتماعية المورثة التي اشرنا لها اعلاه ، وبحسب الوقائع التاريخية التي أوردها بعض الكتاب والمؤرخين الذين وثقوا لتلك المرحلة ، فأن المجادلات التي دارت عشية استقلال البلاد تركزت بشكل أساسي حول أهداف النظام السياسي الذي كان قيد التأسيس ابان الاستقلال ، وهي المجادلات التي ولاسباب عديدة لم تتوج لتصبح مشروع وطني قابل للتطبيق ، تحديدا فيما يتعلق بعدالة الفرص الاقتصادية في إستقلال موارد البلاد بما يحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة لجميع شعوب السودان ، وسياسات بناء الهوية الوطنية التي تعبرعن تنوع السودان ،
انفض مؤتمر المائدة المستديرة من دون التوصل إلى حلول عملية تخاطب لب القضية ، حيث رفضت الأحزاب الشمالية مطلب الفيدرالية ، والتي كما قال وليم دينق ، انه وبدون الفيدرالية لن تتمكن الشعوب السودانية المتنوعة من التعايش السلمي مع بعضها البعض ، وبالتالي لن تتمكن من بناء مستقبل مشرك قائم على المشاركة العادلة في السلطة السياسية والتنمية المتوازنة بين اقاليم السودان . وهو ما حدث بعد ذلك ، فقد استمرت النزاعات والحروب تدور حول تغيير التركيبة الإقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة الموروثة، ومن اجل تأسيس معادلة جديدة .
نشرت جريدة الجريدة السودانية بتاريخ 24 ديسمبر 2022 ، مقابلة صحفية مع القائد عبد العزيز أدم الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ، ذكر فيه الاتي "ان حق تقرير المصير هو حق إنساني وقانوني نصت عليه المعاهدات الدولية وكذلك تم إقراره في وثائق الحركة الشعبية لتحرير السُودان - شمال في المؤتمر العام الإستثنائي في عام 2017. لذلك طرحه وفدنا التفاوضي كشرط من شروط الوحدة الطوعية. ونحن نرَى أنه من حق الشعوب السُّودانية تقرير مصيرها ومُستقبلها السياسي والإداري "
" نحن في الحركة الشعبية لم ولن نتخلَّى عن مشروع السُّودان الجديد لأنه الوحيد الذي يستطيع توحيد الشعوب السُّودانية في وطن يسع الجميع. ولكن نحن واقعيون كما أن هنالك تعقيدات وأن تركيبة المُجتمع السُّوداني مشوَّهة، قائمة في جذرها على إنقسام الوجدان الوطني والضمير السِّياسي. نحن نعرف أن السودان الجديد لا يمكن أن يحقِّقه حزب واحد أو حركة واحدة وإنما يحتاج لإجماع كل القوى السياسية على توفير شروط السلام الدائم والوحدة العادلة وذلك يتمثَّل في دستور يفصل الدِّين وكل الهويات العرقية والثقافية والجهوية عن الدولة ، لكن التجربة العملية أثبتت أن القوى السياسية والإجتماعية الشمالية مُتمسِّكة بثوابت السُّودان القديم والدلائل على ذلك كثيرة." انتهى الاقتباس
المتابع لخطاب الحركة الشعبية - شمال خلال الأربع سنوات الماضية ، اي بعد سقوط نظام البشير ، وعقب سيطرة جيل الثورة والتغيير على مقاليد الحراك السياسي في السودان ، يلاحظ تكرار قيادة الحركة لسؤالين رئيسين ، لماذا ظلت الحرب مستمرة في السودان منذ الاستقلال ؟ و كيف يمكننا إن ننهي الحرب مرة واحدة والى الأبد ؟ ويلخص السؤالين مشكلة السودان في اهم جوانبها التي لا تزال غائبة عن اذهان الكثير من الفاعلين السياسيين في هذا البلد المنكوب ، وهو استمرار تعصب حراس السودان القديم للحفاظ على التركيبة الاجتماعية المشوهه لدولة 56 ، والتي شرحنا اسباب تشوهها اعلاه ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، التكلفة الباهظة التي دفعها ولا يزال يدفعها السودانيين في مناطق الحرب ، في دارفور وجبال النوبة و جنوب النيل الازرق ، وقبلها جنوب السودان ، من قتل ودمار ونزوح مستمر ولجو واقتراب عن ارضهم ووطنهم لسنوات طويلة بل لعقود.
وكما ينادي الكثيرين بأن حل التناقض الماثل يتمثل في تغيير تركيبة الدولة الموروثة ، لكننا في ذات الوقت يجب ان نفهم ان ذلك لم يعد الخيار الوحيد بعد اكثر من 60 عام منذ الاستقلال حدث فيها ما حدث ، وجرت خلالها مياه كثيرة من تحت الجسر ، فمن حق الشعوب التي تدفع فاتورة الحرب ( بشكل يومي ) ان تمارس حق تقرير مصيرها في ان كانت تريد المواصلة في طريق تغير تركيبة دولة 56 ( وهو طريق محفوف بإلتباسات عديدة )، ام الانفصال وتأسيس دولتها الخاصة .
إن انحياز الدولة الموروثة لمكون واحد من مكونات التنوع التاريخي والمعاصر الذي يزخر به السودان عطل صيرورة بناء الهوية الوطنية التي تلتقي عندها جميع الثقافات ، واحدث شرخا عميقا في الوجدان الوطني ، وفي النسيج الاجتماعي ، وتسبب في تأجيج الصراع الثقافي بين القيم والتقاليد المتنوعة ، بدلا من تدبر الخلافات لتتعايش المجتمعات مع بعضها البعض .
بعد سقوط نظام البشير ، بدأت الحكومة الانتقالية المفاوضات مع وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال ، في العاصمة جوبا ، طرحت الحركة الشعبية نفس القضايا التاريخية المتعلقة بتناقضات دولة 56 ، وضرورة حل هذه التناقضات جذرياً ، حتى نضمن استدامة السلام ، لكن كما هو معروف انفضت المفاوضات دون التوصل الى شئ ، مع اصرار النخبة المركزية على تكرار الزعيق التاريخي " نو فيدريشن فور ون نيشن " بالرغم من انه اصبح (مكشوفاً للجميع ) انه زعيق لا يمت بصلة للمعنى الحقيقي لمفهوم الوحدة الوطنية .
وبذلك ، مثلما مارس السودانيين الجنوبيين حقهم في تقرير المصير في العام 2011 ، ايضاً آن الآوان ان يكون لأي شعب من مكونات السودان الحالي ( شمال السودان ) الحق في ممارسة حق تقرير مصيره ، في ان كان يريد الاستمرار تحت ظل الدولة القائمة أو الانفصال .
لأنه ببساطة ، لا يمكنك أن تجبر نصف مليون شخص من شعب جبال النوبة ، و وملايين آخرين من شعوب المساليت والفور و الزغاوة و البرتي والادوك والفونج والانقسنا وأخرين في دارفور والنيل الازرق على البقاء في معسكرات اللاجئين والنازحين إلى الأبد ، يُحرم اطفالهم من الالتحاق بالتعليم النظامي ، وكبار السن والإباء والأمهات من العيش بكرامة وتلقى الرعاية الصحية المناسبة والوقاية من ابسط الامراض ، وتُجهض طموحات الشباب في تحقيق مستقبل واعد لوطنهم ومجتمعاتهم .
10 يناير 2023
جوبا

sofpasudan@gmail.com

 

آراء