الجنس والعبودية والسوق: ظهور البغاء في شمال السودان (1750 – 1950م). عرض: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



الجنس والعبودية والسوق: ظهور البغاء في شمال السودان (1750 – 1950م)

Sex, Bondage & the Market: the emergence of Prostitution in Northern Sudan (1750 – 1950)

J. Spaulding & S. Beswickج  اسبولدينق  و س  بيسويك

عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

هذا عرض وتلخيص لقليل مما ورد في مقال نشره جاي اسبولدينق  واستفني بيسويك عن تاريخ البغاء في شمال السودان بين عامي 1750 – 1950م في العدد الخامس من الدورية الأكاديمية الأميريكية "مجلة تاريخ الممارسة الجنسية (الجنسانية) Journal of the History of Sexuality " والصادر في عام 1995م عن دار نشر جامعة تكساس. ويعمل بروفيسور جاي اسبوليندق الأمريكي الجنسية الآن أستاذا  للتاريخ في جامعة  كين بولاية نيو جيرسي، وله عدد كبير من المقالات والكتب عن السودان (خاصة الدولة السنارية). وتعمل الدكتورة استافني بيسويك أستاذة مشاركة في علم التاريخ بجامعة بول بولاية انديانا الأميريكية، ولها عدد من المقالات والكتب عن أوضاع المرأة وعن الرق في جنوب السودان.
ويدور المقال حول دور اقتصاديات السوق وعلاقات رأس المال في تاريخ البغاء في مختلف المجتمعات السودانية منذ عام 1750م (أي في عهد الدولة السنارية "السلطنة الزرقاء") وحتى منتصف القرن العشرين، وعلاقة ذلك بالتأثير الأجنبي وبالاسترقاق لبعض الأثنيات. ففي مجال التأثير الأجنبي يذكر المؤلفان مثلا  نفي محمد على باشا لبعض الراقصات المصريات للسودان، ومرافقتهن للجيش المصري / التركي في غزوه للسودان، ومن ثم استقرارهن بالبلاد وتقديمهن لخدماتهن لعلية القوم من المواطنين والأجانب. وأعتمد المؤلفان في هذه النقطة على عدة مصادر ذكرت أن هؤلاء الراقصات قد طردن  عام 1822م من حامية الجيش الغازي في دنقلا العرضي بواسطة القائد التركي (الذي أشيع أنه شاذ جنسيا)! كذلك أورد المؤلفان عددا من المراجع التي تحدثت عن تاريخ مدينة الخرطوم في عهد التركية (السابقة) وعن مناطق سكنية معزولة/ غيتو ghettos  كانت توجد بها بيوت للبغاء يديرها رجال ونساء من  شمال وغرب السودان، وكانت النساء في الغالب من المسترقات، بيد أنه كانت هنالك أيضا نساء سودانيات غير مسترقات (حرائر) مارسن تلك المهنة تحت ضغوط الظروف الاقتصادية الصعبة في سنوات الحكم المصري – التركي الأولى. وذكر أيضا أن ذلك الحكم الغازي سمح وصرح لجنوده في قليل من الحالات  باغتصاب وخطف من يرغبون من النساء في القرى الواقعة على النيل، وإجبارهن على ممارسة البغاء والتكسب من وراء  ذلك، وعدم إرجاعهن لأهلهن  إلا بعد دفع فدية مقدرة. ولا يخفى صعوبة عيش أولئك النسوة بصورة عادية مرة أخرى في وسط مجتمعهن القديم بعد ما عانينه في غضون الفترة التي خطفن فيها، وقد يغدو البغاء هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لهن للعيش. وأورد المؤلفان ما ذكر في  كتاب  حرره بول سانتي وريتشارد هيل عن "الأوربيون في السودان"  من أمثلة لبعض أولئك النساء، منهن واحدة اسمها عائشة كانت تسكن بمدينة  تقع على شاطيء النيل الغربي، فأسترقها الجيش المصري – التركي الغازي وبعث بها – مع ابنتها آمنة - لمصر حيث أجبرت على ممارسة البغاء حينا من الدهر إلى أن أعتقت فآبت مع ابنتها لمدينتها القديمة حيث افتتحت البنت بيتا للبغاء يرتاده "علية القوم". وخلص مؤلفا المقال الذي نستعرضه إلى أن أمر البغاء في تلك الفترة عند أولئك النساء وغيرهن أمر معقد   تتداخل فيه عوامل العنف والاسترقاق والتهجير والفرص المتخيلة (المفترضة) في الحياة.
وما أن انتصف ذلك القرن  حتى صارت غالب المدن، بل وحتى القرى التي تمر بها الطرق السفرية تقبل (مع بعض الحذر والتستر) بوجود بيوت للبغاء تديرها نساء، وتقدم خدماتها من طعام وشراب وغير ذلك للمسافرين العابرين. وعرفت المدن الكبيرة أحياء معلومة (red -light districts) بها بيوت بغاء تعمل فيها  نساء حرائر ومسترقات.
كانت عشرون عاما من الحكم المصري التركي الإستعماري كافية لإيجاد نوع مميز أو طبقة من النساء في كثير من مدن السودان كن يحيين خارج البناء المجتمعي للعائلة، ويعشن على ما يكسبنه من مال نظير تقديم خدمات جنسية لطالبيها. وكانت بعض هؤلاء النسوة من المسترقات (قانونا) وكان بعضهن الآخر (من الناحية القانونية على الأقل) غير مسترقات. غير أن هؤلاء النسوة كن يشكلن في نظر الدولة معضلة وخطرا متعاظما للنظام الإجتماعي القائم ، وذلك لأن دخول البلاد لعهد "اقتصاد السوق Market economy" كان قد "حرر" هؤلاء النسوة من صور الاعتماد التقليدي المعتادة على الرجال. ولجأت الحكومة في مواجهة ذلك الخطر المتمدد إلى اتخاذ إجراءات عديدة منيت جميعها بالفشل الذريع. وكان من أمثلة تلك الإجراءات ما أصدره أحمد باشا الشاملي (لعله هو أحمد باشا جركس (أبو ودان) مؤسس مدينة كسلا، وحاكم السودان بين عامي 1838 – 1843م) بعد أن لاحظ  أن الأسواق مليئة بالنساء اللواتي يؤثرن البغاء على الزواج والبقاء تحت قيود الزواج، أصدر أمرا بضرورة تزويج كل امرأة غير متزوجة، وأصدر أيضا أمرا بتقليل المهور ومصاريف الزواج الأخرى، وبعث بعماله لمراقبة تنفيذ الأمرين. وبعد مرور بعض الشهور أصدر حاكم الخرطوم، بحسب ما أورده بروفسيور ريتشارد هيل في كتابه Frontiers of Islam أمرا اضافيا يحرم الختان الفرعوني، وأبطل التقليد المعتاد والذي كانت تطالب بموجبه الزوجة (المختونة فرعونيا) بعلها بمبلغ مالي نظير "إعادة فتح" الندبة التي تسد مهبلها بعد الولادة.
انتزع المهدويون الحكم من الأتراك في عام 1881م وحكموا معظم مناطق السودان لمدة سبعة عشر عاما، وحافظوا في غضون تلك السنوات على ذات النظرة والسياسة التي كان يتبعها سلفهم.  ومارس الخليفة عبد الله بعد عام 1885م أكبر عملية لتجميع وإعادة توزيع الزوجات، مما يذكر بما كان يفعله سلاطين الفونج في سنار، وواصل أيضا في اتباع  السياسة التي وضعها أسلافه من الحكام الترك (والفونج أيضا)  بفرض الزواج جبريا على النساء.  بيد أن ما  كان يميز ما فعله الخليفة في هذا الصدد هو ذلك الإضطراب والخلخلة العنيفة التي أحدثها في المجتمع العادي باسم الإسلام وخدمة مثله وتعاليمه،  فقد جند آلاف الشباب لحروبه الداخلية والخارجية، وجلب كثيرا من سكان الأرياف لعاصمته أمدرمان حتى تضخم عدد سكانها فقارب بحسب بعض التقديرات 250 -  400 ألف نسمة كان ثلاثة أرباعهم من النساء. وكان من نتائج ذلك الإختلال في أعداد الذكور والإناث، والالتزام بتنفيذ أمر تزويج الفتيات أن فشا تعدد الزوجات بصورة متسلسلة خاصة بين جنود الخليفة. وكان هنالك أيضا بعض الخاسرين جراء تلك الإجراءات، منهم تجار الرقيق والذين كانوا يستخدمون المسترقات في  البغاء وصنع وبيع المريسة، فقد كسدت تجارتهم وأضطروا لإطلاق سراحهن ليكسبن عيشهن بأي طريقة يعرفنها، شريطة دفع جعل معلوم لهم (لعله من المستبعد تماما أن تكون صناعة الخمور البلدية وبيعها علنا من الأمور التي يتساهل فيها الخليفة ورجاله، لذا فإن النقطة الأخيرة المذكورة قد لا تكون دقيقة تماما).
ونتيجة لسياسات الخليفة (المعلومة) أصابت البلاد مجاعة عظيمة (مجاعة سنة 1306 هجرية الموافقة لعامي 1888 – 1889م)، وكانت نساء المدن أكثر الناس تضررا  في تلك المجاعة. وكان من جراء تلك الكارثة أن هجرت كثير من النساء في أمدرمان (وغيرها من المدن) الرجال و"تحررن" من قيود سادتهن (والذين انشغلوا بأنفسهم)، وسحن في الأرض بحثا عن لقمة العيش والتي وجدنها في البغاء. ضرب المؤلفان هنا مثلا بامرأة اسمها حسينة جلبت لأمدرمان كخادم مسترقة، وزوجت قسرا لأحد الأوربيين في أم درمان وكان اسمه شارلس نيوفيلد. وعندما حبس الخليفة عبد الله زوجها  في السجن لم تجد حسينة ما تعول به نفسها فامتهنت السرقة، وسمع بذلك زوجها فطلقها وتركها تجابه مصيرها بنفسها. وبعد مرور عدد من السنوات استرد نيوفيلد حريته فغادر أم درمان في طريقه لمصر، وشاءت الأقدار أن يمر بمدينة بربر  فإذا به يصادف مطلقته حسينة تعمل بغيا في تلك المدينة. يزعم المؤلفان أنه في بداية القرن العشرين كانت هنالك العديد من النساء مثل حسينة في كل مكان بالسودان، اضطررن اِضطرارا لاتخاذ البغاء حرفة من أجل البقاء على قيد الحياة.
خصص المؤلفان بابا منفصلا لمناقشة أمر البغاء في السودان في غضون سنوات الاستعمار الثاني (1898 – 1956م)، وناقشا في استفاضة الآثار والتغييرات التي تركها نظام الحكم الجديد فيما يخص أمور النظام الاجتماعي والثقافة والقيم والزواج وبقية المؤسسات الاجتماعية الأخرى. وكان من إفرازات تلك التغيرات ارتفاع تكاليف الزواج (المدبر في الغالب من قبل الأم أو الأب أو العائلة مجتمعة) عند أبناء العائلات "المحترمة". وهنا برزت عند هؤلاء الحاجة لإشباع رغباتهم الجنسية خارج إطار الزوجية،  في إطار ما أسماه المؤلفان "القيم العربية – الإسلامية البرجوازية المهيمنة" والتي سجل السويدي تور نوردناشتام في كتابه "الأخلاق السودانية" الصادر في عام 1968م  أنها  "تفرض قيودا صارمة على السلوك والنشاط الجنسي للأنثى، وتعرف شرف العائلة بمدى عفة نسائها وبعدهن عن اقتراف المعاصي". بيد أن المجتمع السوداني يدرك (ويتغاضى عن) أن الشباب من الذكور يغشى دور البغاء، وقد لا تنقطع زياراته تلك بعد الزواج أو عند كبر السن.
نشأ كذلك طلب محدود (ولكنه مرن resilient  ) للجنس التجاري مجهول الهوية anonymous commercial sex من الرجال الذين لديهم ميول شاذة (سواء مثلية الجنس أو للجنسين) والذين لم يعودوا يجدون ذات القبول النسبي  الذي كان موجودا في المجتمع في غضون سنوات الحكم المصري – التركي.  كذلك كان هنالك طلب (صغير الحجم والتأثير) عند الجنود  السودانيين والمصريين والموظفين الأجانب على الخدمات التي توفرها بيوت البغاء.
ونشأت كذلك مع مرور أعوام القرن العشرين الأولى طبقة سودانية وسطى، وبدأت المرأة السودانية تتحرر / تتخلى بالتدريج عن دورها التقليدي في الانتاج الزراعي، وبدأت تلك الطبقة المتوسطة تؤمن بأن المرأة "المحترمة" ينبغي أن لا تعمل خارج أسوار بيتها، وبدأت الروابط القوية التي كانت تشد أفراد العائلة الممتدة في التراخي تحت تأثير التحديث، وانحصرت العائلة في "ذوي القربى" الأقربين، وبدأت النساء في فقدان الحماية التقليدية والرعاية التي كانت تقدم لجداتهن نظير انتمائهن – ولمدى الحياة- لتلك العائلة الممتدة. ولم يعد الزواج لأمرأة القرن العشرين أمرا حتميا ومضمونا، فثلث الزيجات تنتهي عادة بالطلاق (وهو سهل نسبيا للرجل المسلم)، خاصة إن كان للزوجة ضرات أخريات. وهنالك ما هو أسوأ من الطلاق، ألا وهو الهجر، والذي حاق بكثير من النساء السودانيات واللواتي هجرهن أزواجهم من المصريين والأتراك مع بداية الحكم الثنائي. وكان هنالك أيضا  التحرر التدريجي للمسترقات السودانيات في السنوات بين 1900 – 1940م، ودخول الرجال إلى "سوق العمل الإستعماري" والذي أدخل النساء في طور من "الإهمال الاجتماعي   "social limbo خاصة وأن النساء اللواتي حررن من العبودية والنساء اللواتي هجرنهن أزواجهم لم يكن قد تلقين أي نوع من التعليم. لم يكن هنالك أمام أولئك النسوة من مفر غير الاتجاه نحو مهنة البغاء للبقاء على قيد الحياة.
كان الاستعمار حذرا جدا  عند تعامله مع "مؤسسة البغاء"، وذلك لخشيته من إثارة مشاعر الغضب أو الاحتجاج عند من يحكمهم من المسلمين، وكان ينظر للبغاء من منظور طبي  محض بالنسبة لجنوده  وموظيفه، وخوفا من تفشي الأمراض المنقولة جنسيا بينهم كان هؤلاء ينصحون بالامتناع التام عن ممارسة الجنس، وكان يصدر للمومسات  اللواتي يقدمن خدمات جنسية لجنوده وموظفيه تصاريح خاصة ويطلب منهن الخضوع لكشف طبي منتظم. بيد أن كل هذا كان على الورق ولم يعر أحدا لتنفيذه بالا.
أصدرت الحكومة في عام 1905م مرسوما ضد "التشرد" يشمل من ضمن ما يشمل تحريم ارتداء ملابس الجنس الآخر، وتجريم البغاء والتكسب منه. وأنشأ كذلك معسكرات تدريب  يرسل إليها العطالى (ومنهم البغايا) لمساعدتهم/ لمساعدتهن  في إيجاد مهن ووظائف يتعيشون منها. بيد أن التكلفة العالية لتلك المعسكرات أجبرت الحكومة بعد وقت قصير على التخلى عن ذلك البرنامج.
توضح احصائيات الشرطة في الخرطوم بحري أنه  بين  عامي 1923 – 1925م تم اعتقال 2714 شخصا بتهمة الدعارة، وكان معظمهم (تحديدا 2159) من الرجال المتهمين بممارسة الشذوذ الجنسي. وكذلك نظمت الحكومة أعمال دور البغاء وبيئتها بطريق غير مباشر  بتنظيم بيع وشراء المشروبات الكحولية. ولعل هذه الإجراءات تشير  إلى أن الحكومة كانت تتقبل البغاء كأمر واقع لابد من التعايش معه، خاصة بعد أن انتشرت دوره في المدن والقرى.
وبعد الحرب العالمية الثانية أخذت مؤسسات البغاء تتخذ لها مناح ومعان ثقافية جديدة. فبعد انتشار الأندية الثقافية والفئوية والتي كانت تتنوع بحسب الأعراق والمهن والمكانة الاجتماعية غدت بيوت البغاء (والأنادي) هي المؤسسة البديلة  لتلك الأندية للساخطين والفضوليين ومن لف لفهم، إذ ليس فيها تفرقة أو قيود عرقية أو ثقافية أو مهنية. وكانت هنالك أيضا  صالة للموسيقي (كابريه)  اسمها "صالون غوردون للموسيقى" تشابه بعض كابريهات القاهرة البائسة، ولم تكن سمعتها فوق الشبهات، إذ كانت تستقدم راقصات (بيض) من بلدان مختلفة من شرق وجنوب أوربا  مرة كل شهرين، وكان الأثرياء من المواطنين والأجانب يتسابقون على "استضافة" و"مرافقة" واحدة أو أكثر من هؤلاء الراقصات في خلال فترة إقامتها في الخرطوم  نظير أجر يتفق عليه مع إدارة الصالة. ولعل تلك الصالة كانت المكان الوحيد المتوفر بالسودان  في  تلك السنوات لرجل أسود للالتقاء بامرأة بيضاء نظير أجر.
تناول المؤلفان أيضا تاريخ وتطور الأنادي وبيوت البغاء في مديرية النيل الأزرق عقب سنوات الركود العظيم الاقتصادي الذي ضرب العالم في الثلاثينات، وكيف أن تلك الأنادي والبيوت (والتي كان البريطانيون يطلقون عليها تندرا اسم Cat Houses)  ترقت مع السنوات وصار يرتادها موظفو مشروع الجزيرة من السودانيين، ومن الأجانب أيضا الذين كانوا يعانون من الوحدة والعزلة ويتوقون لـ" تواصل بشري". كانت تلك البيوت لبعضهم  أيضا مكانا لتناول الطعام وشرب الجعة  وتبادل الأخبار والغيبة والتعرف على أشخاص جدد (سودانيين وأجانب) في إطار إجتماعي طليق ليس به حواجز، وللأنس بمختلف ضروبه، أي أنها كانت كما عبر عن ذلك موظف بريطاني "نادي متكامل"!
أتاحت أجواء تلك البيوت الحرية في التعامل مع البريطاني بندية وثقة، فقد حدث ذات مرة أن تقدمت إحدى العاهرات بشكوى ضد أحد زبائنها من الموظفين البريطانيين وأتهمته بسرقة شيئ من ممتلكاتها، وفي المحكمة أدين الموظف بما أتهم به وفصل من عمله وأبعد خارج السودان. وهنالك  أيضا قصة الموظف البريطاني والذي أتخذ له صديقة (دائمة) من السودانيات العاملات في المهنة التي نحن بصددها، ولكنه هجرها فجأة وبعد ثلاثة سنوات من الصحبة بعد قدوم زوجته من بريطانيا. تقدمت المرأة السودانية بشكوى ضد صديقها السابق مطالبة إياه بتعويض مادي، وكان أن حكمت المحكمة لصالحها وأمرته بدفع ما طلبت من تعويض (بمعدل ثلاثة جنيهات في كل شهر). يجب ملاحظة أنه لا يتصور أبدا أن تقدم امرأة سودانية "محترمة" على التقدم بمثل ما ورد في مثل تلك الحالات القضائية.
كذلك فتح الإتصال بين بيوت البغاء والبريطانيين مجالات مهن جديدة  للنساء لم تكن مطروقة من قبل. فمع توسع المؤسسات العلاجية في السودان في سنوات الاستعمار الأخيرة إزداد الطلب على خدمات الممرضات، وكان غالب السودانيين يستهجنون عمل المرأة ممرضة لتعارضه – بحسب قولهم – مع الإسلام، والذي يمنع اختلاط الجنسين. وجد البريطانيون في النساء اللواتي كن يمتهن تلك المهنة في السابق رغبة وقدرة على العمل كممرضات مجيدات (أعتمد المؤلفان في هذا الجزء على ما أورده دكتور أحمد بيومي في كتابه "تاريخ الخدمات الصحية في السودان"  والصادر بنيروبي في عام 1979م، وكتاب الاكسندر كروكوشانك عن "المغامرات الطبية في جنوب السودان" والصادر عام 1962م).
أختتم المؤلفان مقالهما بذكر ظروف الحرب في بداية الخمسينيات بين الأثيوبيين والأرتريين، والتي نتج عنها دخول عدد كبير من اللاجئين من نساء البلدين إلى شرق السودان، وعن امتهان هؤلاء النسوة مهنة البغاء كوسيلة لكسب العيش. وظفرت هؤلاء النسوة بنسبة مقدرة من "سوق العمل" في هذا المجال. وكانت لكثير من النساء اللواتي أضطررن للعمل في هذه المهنة أحاسيس وطنية عميقة مضادة للمستعمر، حتى أنهن قد رفضن يوم استقلال السودان واليوم الذي يليه (1 و2 يناير 1956م) تقديم أي نوع من الخدمات لزبائنهن من الرجال البيض!      




alibadreldin@hotmail.com

 

آراء