الحردلو صائد الجمال (13): بالغات النصاب؛ أنصاري ما زكّاهن..!

 


 

 

للحردلو مشاعر إنسانية خاصة تخالف ما هو معهود في البطانة وأودية السودان من عادة الصيد السائدة في عصره..فهو لا يشارك أبداً في صيد الظباء..ولم يأكل لحمهن مطلقاً..! مما يؤكد صدق عاطفته ومحبته لهذه المخلوقات الجميلة التي يضعها في مصاف معشوقاته من النساء..!
من عوج الوكت ما بتركن وانساهن
فوق حيا فوق محل دايماً بجرّو غناهن
ناس (ابن الذريح) ضربو المثل بي جناهن
من كل السوام (سيدي الحسن) يبراهن..!
ابن الذريح هو الشاعر العذري قيس ابن ذريح المشهور بقيس لبنى..وعبيد عبد الرحمن يقول في أغنية (فتنة) التي غناها إبراهيم الكاشف ومطلعها (فتنت بيه..عشقتو ليه..؟ كان مالي أنا مالي بيه).؟!
فُتنت بالوجه الصبيح
هويتو بالمعنى الصريح
حبيتو حُب (ابن الذريح)
قول للعزول فيق واستريح
آويتو في قلبي الجريح
مادام بريدو بخاف عليّ...!
**
و"عادل بابكر" ينقل أحاسيس الحردلو تجاه ولهه بالظباء وصدق محبته لهن مع (عوج الوكت) وسوء انحراف أحوال الزمن وبشفاعة "سيدي الحسن" :
It's not me who would forget them no matter what,
Rain or drought,
I never stop composing verse of praise for them
In tribute of their beauty,
son of (Zarih) and other folks made legendary verse
From all vermin I implore..
Saint “Sidi al-Hassan” to keep them harmless
**
وبعيداً عن هذه القيمة الجمالية عند الحردلو فإن مسدار الصيد هو بمثابة (خريطة تفاعلية) لطبيعة سهل البطانة (لاند سكيب) وتغيير الفصول فيه..! والمسدار يبدو وكأنه قاموس شامل لمصطلحات وأسماء النبات المحلية والأعشاب والأشجار والشجيرات والحشائش البريّة والتلال والجبال والوهاد والصخور وواقتران الأودية ومجاري المياه والهوابط والنوازل وطبيعة الأرض والطين والرمال (الفرناغة) و(البرجوبة) والأهوية والعواصف والأتربة والمطر والبروق..إلخ على نهج الشعراء العظام..!
ومسدار الحردلو هذا ينعش الأفكار بمختلف التفسيرات ..فكثيرون قد يطالعون المسدار باعتباره سردية لوصف رحلة حقيقية لصيد الغزالان والحيوانات البرّية..ولكن هذا التوصيف يناقض دليلاً تاريخياً قوياً وهو أن الحردلو من هواة الحياة البرّية والمدافعين عنها..ولم يتورط مُطلقاً في صيد الحيوانات (game hunting)..وأشعاره تعطي إشارات عديدة وكثيفة توضّح كيف أنه من المولهين بحماية الغزلان ولا يقبل بمجرد ترويعهن..دع عنك اصطيادهن...!
**
استاذ الأدب (د. إبراهيم الحردلو) حفيد الشاعر الحردلو يستبعد تفسير أن يكون هذا المسدار مجرد أشعار عن "رحلة صيد" ويرى ان الحردلو يستخدم الصيد استخداماً مجازياً كرمز لجمال المرأة..ولكن "عادل بابكر" يرتفع بهذا التفسير إلى تأكيد أن المسدار في مُجمله هو رحلة في نشدان الجمال كما يبدو في الطبيعة..وأن الاستحضار المتكرّر للتناظر بين الظباء والنساء هو ما يسعي إليه الشاعر بوعي أو بغيره، ليكمل الصورة الكبرى للطبيعة وهي في حالة حركة وتفاعل نحو الجمال الأسمى..!!
**
يتواصل العرض السينمائي لسرب الظباء والتماثل بين مشاعر الحردلو وانفعالاته وبين حركة الظباء في الأرض..ثم تأتي مقارنة نفور الظاء بنفور المعشوقات من النساء..! وإلا كيف يقول إن القُرب (الليم) من مثل هذه الظباء الحسان عسير محال (beyond reach) على الشاعر وعلى أمثاله..؟!
في عاقِب نهار سوّنلهن مُرحال
وعينيهن خلقَهن زُرّق بلا كَحال
من ريح (الحويل) بقيَن دحين في حال
وديل ليْمهِن علي الناس الـ متلنا مُحال
Though it was latter part of the day
They started to prepare for departure
I can’t fill my eyes of their natural beauty
Their dark eye, untouched by kohl
After a brief feed on “haweel”,
they now felt energetic and fit
أيضاً على ذات الانبهار وتصغير النفس واستصعاب الوصال أمام هذا الجمال الباهر:
شاف بَرقاً بقل فوق الجبل رفراف
يعني قائد السرب:
وهن وحل الدرار يا الليله منّو خُفاف
كم عند المضيق مرقن هناك بي "سناف"
ديل قِسيَن على القوي والـ مِتلنا ضعاف
Over the mountain he saw lightning flicker
Althiugh pregnant, their steps were not heavy yet
Through a narrow strait at Snaaf they came out
Beyond reach of the most powerful, let alone the likes of us
قائد السرب هذا (فحل الظباء) يستكشف الأرض امامهن بحثاً عن المرعى الخصيب ومساقط المياه..يغيب ويعود اليهن:
خلاهن علي رد الفروخ بايتات
وفي المكفى الورا أم ميمون لقى ختيتات
متماسك سَدوهن وبي الحدب شاتات
جاهِن وعافطنّو.. وجنّو منحتات..!
لا بد من النظر إلى فعل (المعافطة) هذا بين الظبا وفحلهن..وما فيه من لقاء مفعم بالحميمية والحيوية بعد فراق قصير؛ والمعافطة هي أصوات وهنهنات تخرج من الأنف والفم من المداعبة وما يشبه القبلات..!
وقد أتت الظباء (منحتات) إلى فحلهن وهو تشبيه لتسابقهن وتساقطهن عليه في شوق مثل انحتات أوراق الشجر..!
On seeing him back,
they merrily ran down to him
like falling leaves
**
يكتمل خصب الطبيعة بحالة الولادة وما بعد الولادة (Postpartum) عند الظباء والحردلو يتحدث عنهن وكأنهن نساء:
إنحلن جناهن في ضرا نالات
لامن رضعنّو وجفْ من السبيات
كم فوقن دقوناً ولّفن قافات
قالن دوبا ليهن والزمان الفات
In shade of tall reeds they finally gave birth,
Breastfed, and wiped hanging fluids off their newborns
How many solemn, bearded men composed erotic verse,
Longing for them, and recalling good old days
**
في مربوع آخر يواصل التغنّي بجمل الظباء واكتمال السرب..ورغم ما في المربوع من تعريض بنظام المهدية الذي فرض زكاة الأنعام؛ إلا انه يظهر الالتزام والمهادنة من جانب آخر بأنه (أخذ إذن) للتغني بجمالهن من عامل المهدية "ود البصير":
المعز البجازنن ديمه فوق في خلاهن
بالغات النصاب أنصاري ما زكّاهن
من "ود البصير" جايب إذن بي غناهن
شوفن يا الزبير في لساني ديل محلاهن
Living on grass to silence thirst and hunger
Though over forty in number,
no Ansari ever took away any of them
To sing for them I have permission from mayor Wad al Baseer
Behold Zubair,
how sweet my tongue turns when I sing their praise
**
يتناول "عادل بابكر" أسلوب الحردلو في الشعر ويقول إن النمط السائد لديه هو المربع أو (المربوع) الذي يتشكل من أربعة مصارع؛ وشعره في المُجمل يتشكّل أما من مربوع أو تجميع للمربوعات في قصيدة أو مسدار؛ ويتكوّن مسدار الصيد من 40 مربوعاً أو 160 مصراعاً في تتبعه للغزلان في سهول وأودية البطانة..ويرتبط غزله بالنساء باحتفائه بجمال الطبيعة..والأمثلة في ذلك لا يحصرها العد..وغزله في جمال النساء لا يبلغ ذروته إلا عند موازاته بأحد مفردات الطبيعة وبخاصة الظباء وأغصان النبات الريّانة اللدنة المتأرجحة..كما سبقت الإشارة..
ومن مربوعاته التي يصوّر فيها مرائي الطبيعة والغزلان ما يمكن أن يكون وصفاً مراوغاً ينفتح على تفسيرات مختلفة مثل هذا المربوع:
الليله المعيز ما ظني أنا ملاقيهن
ناطحات البطين أدن "قليله" قِفيهن
سمعن طنة الشادي وكِتِر صنفيهن
وعند الاصفرار جَفلن بشوف لصفيهن
فالطيب صالح الروائي الشهير قرأ نهاية مأساوية لهذا المربوع؛ سرب الظباء يتوجّه إلى دغل ملتحم الأشجار فيصيبه الذعر من (وجوجة الطيور) التي انزعجت لإحساسها بخطر قادم..عندها تجمّد السرب من الرعب..وقبل غروب الشمس..وقع الهجوم المتوقّع وتحول المكان إلى ميدان معركة.. ووقعت الظباء في الشراك وامتزجت ألوانهن الصفراء بالغبار المتصاعد الذي يتلامع في الأفق..!
(هذا تأويل بعيد)..!
ومع اختلاف التفسيرات فإن حديث الطيب صالح كان يحمل الكثير من الإعجاب بالحردلو..ويقول إن هذا التصوير البديع فيه من الأسر ما يضارع أعمال الرسامين الايطاليين العظام في عصر النهضة..موكب مسالم يسير في الغابة ثم فجأة إشارة تحذير ثم رعب ثم موقف تراجيدي يعم كل المشهد ..ويتداعي له كل العالم..!
يرى عادل بابكر تأسيساً على تفسير الطيب صالح إن السيناريو يبدو كالتالي:
- ربما لا أرى هذه الظباء مرة أخرى
- لقد توجّهت نحو "البطين" وأعطت ظهرها لـ"قليله"
- ثم تفاجأت بصوت التحذير من الطيور المنزعجة فجفلت مذعورة
- عند الغروب انهارت الظباء مع الشمس الغاربة
وبدأ أديم أجسادهن الأصفر يلمع في الأفق..!
وفي تفسير مغاير للمربوع هناك صورة مختلفة كل الاختلاف عما تخيّله الطيب صالح من رواية تفطر القلب لرحيل السرب...هنا يتغيّر السيناريو السابق بصورة كاملة ليصبح كالتالي:
- ربما لا أرى السرب مرة ألأخرى
- فقد توجه إلى "البطين"
- وأعطى قفاه لـ "قليله"
- لقد أخذت السرب رهبة من أصوات الطيور
- وتوقف هناك من غير حراك
- وامتزجت ألألوان المدهشة لظباء السرب..مع أضواء الأصيل وأشعة الشمس الغاربة المنسكبة في الأفق..!!
(هذا هو التفسير الأقرب: حالة هادئة وحالمة يحن فيها الحردلو للظباء ويرى إنهن بعدن عن مناله في ذلك اليوم..فقد توجهن إلى مكان بعيد..ووقفن يتسمّعن لصوت منادٍ مجهول أو إلى صوت الطيور..ثم أسرعن بالركض فبانت لمعة ألوانهن الزاهية مع انعكاس شمس الأصيل)..!
**
..ومن المعلوم إن الظباء شديدة الانتباه وبالغة الحذر لأي حركة أو صوت من حولها..وعبد الرحمن الريح يفسّر لنا (هذه الحكاية كوووولها) في شطرة واحدة من أغنيته (جافوني الأحباب من غير ذنب وأسباب): يقول:
أصلو الغزال في طبعو
..من كل شيء هوّاب...!!

مرتضى الغالي

murtadamore@yahoo.com

 

آراء