الحرية مفهوم مهمّ وعدم فهمه يقود للفوضى، وكلّ حريّة نسبية، أي لا توجد حريّة مُطلقة أبداً ليفعل كلّ أحد ما يشاء، وإلا لما كان هناك قانون لأنّ القانون هو نص يحرّم فعلاً، أي يمنعه من الحدوث، وإذا حدث يُعاقب صاحبه. وهناك حكمة أيضاً تهدينا متي نستخدم الحرية الممنوحة لنا ومتي نضنّ بها على أنفسنا. فالحرية حق ولكن احترام الآخرين واجب، والواجب يسبق الحق لأنّ أداء الواجب احترام للآخر.
هب أنّك أنّ أباك قتل جاركم ظلماً ويحقّ لك أن تذهب للعزاء، بل ويحقّ لك أيضاً أن تدافع عن أبيك، فهل ستفعل ذلك؟ إنّ احترام مشاعر الجيران في هذه الحالة أهم من استخدام حقّك، ولربما يؤدي استخدامك لحق الحريّة في تسبيب ضرر آخر للجيران، حتى ولو كان نفسياً بل ولربما يؤدي إلى عراك أو إزهاق لحياة أخري. فقتل الجار ضرر والتبجّح بتبرير الظلم ضرار.
فلذلك فالعدل فهو مفهوم مُطلق يحقّ لكلّ شخص، ويجب على كلّ شخص، حتى وإن كان مجرماً، وتطبيقه بإنصاف على أرض الواقع من المستحيلات لأنّ تقدير الضرر الحقيقي وتعويضه أمر مستحيل.
فمثلاً إذا حاكم الشعب السوداني المشير عمر البشير وحكم عليه بالإعدام ونفّذ فيه الحكم هل ذلك سيكون تعويضاً كافياً للملايين الذين تدمّرت حياتهم نتاج سياساته الحمقاء وظلمه؟
والقانون يعاقب من تجاوز حدود الحرية وأيضاً يعاقب من قصّر في تحقيق العدالة. بمعني أنّ الإنسان إذا تعدّي على حدود غيره يعاقب لأنّه ظالم، ولكن الحاكم إذا لم يعاقب بعدالة تجاه المجرم أو الضحية فهو ظالم. ولذلك للحرية حدود معروفة بينما العدالة لا تقف عند حدود حتى يتمّ تحقيقها.
وهذا يوضّح العلاقة بين مفهومي الحرية والعدالة فهما متكاملان ووجهان لعملة واحدة، ولكن وجه العملة أهم من قفاها. فالوجه هو رمز مطلق للسيادة، ولذلك سيادة القانون مطلقة وتنطبق على الحاكم والمحكوم، وتُقدّم على الحرية، ولكن قيمة العملة مُحدّدة ونراها مكتوبة على الوجه الآخر، أي أنّها تابعة وليست متبوعة. هذه بديهيات يعرفها الجميع ولكنّها تغيب عن وعي قادتنا الأغبياء ذوي الإحساس المتبلّد، ومثال غفلتهم قرار قيام مجلس شورى حزب المؤتمر الشعبي أثناء الحراك الثوري وما زالت الجراح لم تندمل، وهو السبب الرئيس للمصيبة التي ابتلي بها السودان وقد ظلّ شريكاً لحزب المؤتمر الوطني حتى سقوطه، والآن يتبجّح بممارسة حريته التي كفلها له الدستور والقانون. فأين كان حزبهم والشباب يموتون من أجل ممارسة حقّهم الدستوري؟ الواجب على قادة المؤتمر الشعبي أن يحترموا مشاعر الناس، وأن يستقيلوا من مناصبهم، وأن يعتذروا لشعوب السودان جرّاء ما سببوه لهم من أذى عظيم، وأن ينزووا بعيداً عن الأضواء ليراجعوا أنفسهم لعلّ الله يهديهم للرشد. وإن أرادوا استمراراً لحزبهم فليسلموه للشباب وليغيروا من نظرتهم للإسلام وفهمه تحريراً له من الأيديلوجية العمياء البغيضة.
وفي هذا الحدث أيضاً درس بليغ لقادة الثورة لينتبهوا للفراغ الدستوري الذي خلّفه سقوط النظام السابق، والذي يهيئ الشارع للفوضوية، فليملؤوه بما يفيد في أسرع وقت ممكن ليقوا شعوبهم انفراط عقدهم وانتشار الفوضى انتشار النار في الهشيم.