الحزب الشيوعي والفترة الانتقالية

 


 

رشا عوض
2 June, 2024

 

رشا عوض

في إطار المزايدة الثورية يحاول الحزب الشيوعي غسل يديه تماما من المشاركة في الفترة الانتقالية المؤسَّسة على الوثيقة الدستورية والشراكة مع العسكر، وادعاء أن موقف الحزب هو تعريف ما حدث في ١١ أبريل كانقلاب عسكري تجب مقاومته ورفض أي اتفاق سياسي بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الذي تشكل بعد الانقلاب!
حسنا يا زملاء، لو فعلا هذا هو موقفكم الرسمي (١١ أبريل انقلاب عسكري والوثيقة الدستورية باطلة، وشراكة العسكر خيانة وبيع دم) فإن النهاية المنطقية لهذا الموقف هي الآتي:
أن ينسحب الحزب انسحابا مسببا من قوى الحرية والتغيير منذ أن انخرطت في المفاوضات مع المجلس العسكري في أبريل 2019. وأن لا يشارك في الحكومة الانتقالية بأي وزير ولا يشارك في اللجان التي رشحت للمناصب السيادية والوزارية ووظائف الخدمة المدنية في ظل أوضاع مرجعيتها الحاكمة هي الوثيقة الدستورية التي أسست لشراكة الدم حسب زعمهم.
هل فعل الحزب الشيوعي ذلك اتساقا مع ادعاءاته الثورية العريضة؟ أبدا! الحزب الشيوعي فعل الآتي:
وضع رِجله اليمنى في “انقلاب 11 أبريل والوثيقة الدستورية بحكم عضويته في قوى الحرية والتغيير التي استمرت لعام ونصف بعد “انقلاب 11 أبريل” فالحزب انسحب من الحرية والتغيير في نوفمبر 2020 ولم ينسحب غداة انقلاب 11 أبريل 2019 بقيادة عوض ابنعوف أو غداة انقلاب 13 أبريل بقيادة عبد الفتاح البرهان ، وبحكم مشاركته الموثقة في وفد التفاوض مع المجلس العسكري، وبحكم مشاركته في اللجان التي رشحت للمناصب الوزارية والسيادية ووظائف الخدمة المدنية، ووضع رِجله اليسرى في شارع المزايدات الثورية وادعاءات الطهرانية، ووضع يده اليمنى في مطابخ الحكومة الانتقالية “للسُواطة” والتخريب وحصد مواقع في السلطة وفي الخدمة المدنية والمشاركة في ممارسات شللية فرضت اسوأ الشخصيات على المشهد الانتقالي من حيث الكفاءة والفاعلية(وقد بدأ بعض الشهود في تدوين شهاداتهم بالتفصيل وتسجيل الاسماء الشيوعية التي كانت جزء اصيلا في تشكيل المشهد الانتقالي) ، وفي ذات الوقت تخصصت يده اليسرى في صياغة البيانات النارية التي تهاجم الوثيقة الدستورية وتخون وتجرم قوى الانتقال تحت محفوظات الهبوط الناعم والرأسمالية الطفيلية! يعني باختصار يده اليمنى “للسُواطة” في مطابخ الحكومة الانتقالية ووثيقتها الدستورية بهدف تخريبها ،ويده اليسرى للسُواطة في مطابخ لجان المقاومة والميثاق الثوري لافساد لجان المقاومة بالمزايدات والتطرف والتحريض على العنف وتسميم مناخ الانتقال فكانت النتيجة تقسيم لجان المقاومة بسبب “معركة ذات المواثيق” وشل قدراتها على الفعل الذي لها فيه القدح المعلى وهو تنظيم حراك الشارع بصورة مؤثرة وقوية والحفاظ على التفاف اكبر كتلة شعبية حول الاهداف الرئيسية للثورة. .
هذا باختصار هو الدور المزدوج الذي لعبه الحزب الشيوعي في الفترة الانتقالية والسؤال: لصالح من يفعل الحزب الشيوعي ذلك؟
هذا العبث لا يمكن ان يكون مصدره ” عقل الحزب الشيوعي! لا بمرجعيته الماركسية ولا بتجربته الوطنية التي مهما كان الاختلاف معها فهي لم تشهد مثل هذا العمى التام عن رؤية الخصم الاستراتيجي والانغماس الكلي في صراعات عنيفة مع الخصم الثانوي” بصورة تصب في مصلحة الخصم الاستراتيجي وفي تقويته!

هذا العبث لا يمكن تفسيره الا بان هناك فيروسا ضرب وحدة التحكم والسيطرة في سيستم التشغيل!

وليس الحزب الشيوعي وحده هو المنكوب بهذا الفيروس!

فيروس الاختراقات الامنية الكيزانية ضرب كل الاحزاب والتحالفات والمؤسسات الوطنية وهذا احد اسباب ضعف الاداء السياسي، وهذا ما يفسر فقدان بعض الاحزاب والشخصيات للبوصلة في كثير من المواقف والاصطفافات ، فكانت النتيجة تبني خطابات ومواقف تخدم في المحصلة النهائية خدمة معسكر الاستبداد وقوامه الكيزان والعسكر وتقويته على حساب معسكر التحول المدني الديمقراطي، ويأتي هذا الفعل متخفيا وراء لافتات ثورية براقة ولكنها مزيفة ومصنوعة بايدي اعدء التغيير.
الامل يظل معقودا على ان خلايا المقاومة والمناعة الوطنية ما زالت حية وحتما ستنتصر في خاتمة المطاف وتحرر كل “مُختَطَف” فردا او مؤسسة وتعيده الى حضن اهله الحقيقيين!
ما اود التأكيد عليه هنا هو ان الوعي بكارثة الاختراقات الامنية الكيزانية لكل الكيانات السياسية والاجتماعية بهدف تمزيقها وافسادها واستغلالها لا يعني اعفاء كياناتنا السياسية المختلفة من النقد والمساءلة حول اخطائها الاستراتيجية والتكتيكية، او حول عيوبها واختلالاتها الذاتية او حتى عن حالة القابلية للاختراق(وشخصيا فعلت ذلك كثيرا منذ مقالتي بصحيفة السوداني عام 2007 بعنوان أين مشروع نقد المعارضة السودانية مرورا بسلسلة مقالات عن اداء الاحزاب وصولا الى كتاب ديمقراطيات بلا ديمقراطيين المنشور ضمن سلسلة الفكر الديمقراطي ، وقد حمَل الكتاب حزبي الامة والوطن الاتحادي كامل المسؤولية عن فشل التجربة الديمقراطية بعد ثورة اكتوبر) ، فالهدف من التوعية بالاختراقات الامنية ودورها في التخريب ليس اهداء وسادة وثيرة للاسترخاء المريح في خانة الضحية، او الزعم بأن الفاعل الوحيد في الساحة السياسية هو ” كوز على كل شيء قدير” كما يزعم بعض “المثقفين النافعين” في سياق اجتهادهم في ” محو الاثر التخريبي للكيزان ” ، وانما الهدف هو الانتباه لعامل مهم ومؤثر في تخريب السياسة السودانية لا تكتمل قراءة المشهد دون الوعي به، وهنا اتساءل عن السبب في بروز نزعة استنكارية شديدة اللهجة ضد تعرية دور الكيزان في حرب الخامس عشر من ابريل وفي تسميم السياسة السودانية على مدى ثلاثين عاما ،والاخطر من ذلك محاولة تسويق فكرة انزواء الكيزان واضمحلالهم وغيابهم بعد الثورة وعجزهم عن التأثير في مغالطة مكشوفة وغريبة لمعطيات الواقع الشاخصة امامنا ، وهي ان الكيزان بعد الاطاحة بالبشير انخرطوا بقوة في الثورة المضادة والتخريب والافساد للفترة الانتقالية مستغلين سيطرتهم على مفاصل الاجهزة الامنية والعسكرية وآلتهم الاعلامية وامكانياتهم الاقتصادية المتراكمة على مدى ثلاثين عاما، فضلا عن اختراقاتهم للأحزاب وحتى لقوى الثورة وكانت هذه الحرب هي ضربتهم الاخيرة التي خططوا لان تكون القاضية! فلماذا يجتهد البعض في التعمية على هذه الحقائق بل ويمارس ارهابا معنويا ضد من يكشفونها تحت عناوين الكيزانوفوبيا ولوثة الكيزان! ويغبش الوعي بان الكيزان تبخروا تماما بعد الثورة وما عاد لهم اثر في حين ان اذرعهم الاخطبوطية ظلت تخنق الانتقال وتعمل على إفشاله وتثابر على العودة الى السلطة بالقوة.
الحزب الشيوعي صاحب تجربة مؤثرة في التطور السياسي السوداني، ورفد الساحة الوطنية برجال ونساء وطنيين اصحاب إسهامات نوعية في الفكر السياسي والعمل النقابي والنضال الشريف والتضحية، وصقلت تجربته العميقة رموزا في الادب والفن والابداع، ولذلك من المحزن جدا ما يحدث للحزب الآن من اغتراب عن تاريخه وروح تجربته.

مشكلة الحزب الشيوعي ليست في خروجه من “الحرية والتغيير” أو اعتذاره عن المشاركة في مؤتمر تقدم ، فلا “الحرية والتغيير” ولا “تقدم” هي سدرة المنتهى في العمل المدني الديمقراطي، ولكن المشكلة في روح تعامله مع هذه الكيانات واتخاذها عدوا استراتيجيا ومعاونة الخصم الاستراتيجي ممثلا في الكيزان والعسكر على رجمها بالحجارة.

 

آراء