الخرطوم بحري.. وحكاوي المراهقة المُتعَبة (4/4)

 


 

غسان عثمان
12 November, 2022

 

المرقى السابع: (التهتك .. وجهة نظر)
للمدن دورات للعيش، وحياتها مفتوحة على وعي سكانها، إذ لكل واحد منا مدينته التي يصنعها بمادة الخيال والتأمل، ولذا فإن المدينة التي استحضرها هنا تخصني جداً، والزمن الذي أستعيره زمني الكائن بين تجاويفي، والطريقة التي أفكر بها من غير الضروري أن تحقق سرداً تاريخياً، فأنا أمارس تجوالاً خاصاً في مدينتي الجوّانية، ووعي بها باطني في كثيره، واليوم حين أكتب عنها يتداخل الذاتي مع الموضوعي، المتخيل مع التاريخي، الرمزي مع الواقعي، ومع ذلك فإن مدينة الخرطوم بحري ارتبطت عندي بذكريات شتى بعضها سعيد والآخر غامض، وواقع الحال أن للذاكرة ألاعيبها وفيها مناطق حرجة تعمل حثيثاً لكبح الإفصاح، أما الكتابة كما أتفهم وظيفتها الاجتماعية هي طريقة لقول الحقيقة دون تقيّد بتمامها، وما الاتساع الذي تمنحه لك سوى وصفة توفر لك عناصر لبناء تغريبتك الخاصة، "تغريبة" ممتدة في تاريخ بعيد، وليس بالضرورة أن تُحييه بالدقة بل تمهد تعرجاته، ومناطقه الحساسة بمرونة الخيال، ومظان الدلالات الحرجة.
كنا والساعات تقارب كشح الفجر تسحب الظلمة برفق من أطرافها حتى تؤدي دورها في مكان آخر، على أطراف ميدان عقرب كان ما نتوقاه هو التوغل في وسط الميدان وقد احتلته شاحنات تستريح من سفر طويل، وسائقوها في استعداد كامل للنوم في أية لحظة، وقد استقر عندنا بأن للميدان هوية مزدوجة، صباحاً حيث يحتله المكانيكية يعملون بجد لو وفرت له المعينات لأصلحوا حال اقتصادنا المعاق، وفي المساء يسكنه غرباء حملتهم الدروب الحزينة بعد أن فارقوا الأهل والولد والصاحبة في تكرار لمأساة إنسان الدول الظالمة، إذ يعيش الرجال أقل مع أهلهم ويفرون لأجل توفير لقمة العيش لهم، ومن محاذيرنا عدم النزول إلى الجرف الصغير الذي يحيط بالميدان إذ خُصص ليلاً لقضاءهم الطبيعي، ومن طبائع الهجرات في طلب الرزق أن يتراخى الشعور بالأمان في النفس، وهذا أخطر ما في الاغتراب إذ ينمو هذا الخاطر بصورة سرية حتى يستفحل وحينها تصيب الإنسان قهرات لا يملك مقاومتها فيموت عاطفياً، وما الحياة دون عاطفة..
المهم كنا أكثر فضولاً بالدخول وسط تراتيل الشخير المشاتر بين عربات الـ ZY والتنصت أكثر لهذيان المنومين بفضل التعب، وأذكر كيف انفجرنا ضحكاً حين صاح أحدهم بصوت متشانج وكأنه يعافر ويلمز: دقيقة يا علويي (علوية) الشفقة شنو! أنا قررب.. فاستيقظ الرجل وفيه بقية من شبق، فانطلقنا هرباً من تبعات التطفل على أحلام الرجال المجانية.
حكى لي والدي عليه الرحمة أن أقصى أمانيهم كانت ليلة ساهرة على ضفاف النيل وبعد أن قرر الرئيس الراحل جعفر نميري إلغاء تراخيص العوامات على النهر بسبب وشاية أخلاقية وهي أن البعض يستغل النهر لأغراض غير قيمية، فقام بمحاصرة النهر وأعلن الحرب عليه، وكأن النهر اشتكى لسيادته..
المهم أنه استبقى لهم "كازينو" النيل الأزرق، ذلك عندما كان النيل يعرف نفسه بصورة أفضل من الآن، ويتملكني احساس متعاظم بأن حالة من إنكار تلبست نهر النيل، وأنه متى ما وجد الفرصة المواتية سيهرب ناجياً بأمواجه من رتابة قمعت موسيقاه بعد أن حُرم من رفقة السهر، وبات يكره حظه الذي أبقاه في ربقة حزانى لا يعرفون كيف يصنعون لياليهم، بعد أن كانوا يوماً يعرفون قيمة الحياة وأنها بلا أُنس ما هي إلا سجن يجفف مظاهر الجمال فيهم، ومن جماليات بحري "كازينو النيل الأزرق" وهو الذي كان يحتضن صخب طبقات بعينها، صخبهم البريء، وقد شهدنا طرفاً من لياليه، شهدناها ونحن عبور على كوبرى الحديد، وهي تسمية كوبري النيل الأزرق في الخرطوم بحري رغم وجود كوبري النيل الأبيض وهو من الحديد كذلك، لكن تصنيف أهل الخرطوم بحري له دلالاته الخاصة، ويبدو أن كلمة (كازينو) كانت تثير حفيظة البعض ممن بيدهم مراسيم العِفة لما تحمله من دلالات للتهتك (حسب وجهة نظر السلطة) ولذا أتذكر كيف تفاجئت باللافتة الضخمة التي كانت تُزيّن مدخل كوبري النيل الأزرق وقد أزيلت في ليل، ومن المؤكد أن ضمير الشخص الآمر بالإزالة قد نام هاني البال بعد إنجازه هذا الفتح العظيم بحماية الناس من مخاطر السهر وعواقب الأُنس، والغباء كله يتصل بطريقة التفكير في فهم الظواهر الاجتماعية، فقد استقر عند نخبة غردون ومنذ الاستقلال أن هذا الشعب غير مؤتمن على نفسه، ولو تُرك بحريته أفسد دينه ودنياه، وهذه من عبقريات الوعي المرتبك والمرهون للأيديولوجيا التي تظن القدرة على فهم العالم دون تتبعه، أقصد الظن بأن المجتمعات يمكن تغييرها بتلميع قشرتها، أو الاعتقاد الساذج أن إنسانها يؤذي ذاته والآخرين إن سُمح له بإدارة شأنه الشخصي، والحق يقال أن أسباب ذلك تعود إلى مظاهر أولية رافقت تكوين القوى السياسية، فمنذ لحظات الاستقطاب (الاختطاف) للطلاب ترسخ فيهم الجمود الفكري وأُعتقلت الحاسة النقدية، مما صيّرهم عناصر بدائية الوعي، وبذا فالعجب لا يصيبنا ونحن نرى هذا السلوك الصادر عن التكوين المعيب.
وعلى أطراف الختمية في مقابل السكة حديد تقع (حديقة عبود) وواضح أن تسميتها تعود إلى فترة الحكم العسكري الأول (١٩٥٨-١٩٦٤م)، هذه الحديقة (يُحبب تسميتها بجنينة عبود) ويبدو السبب كثرة أشجارها، وبحري مدينة مدمنة للظل، كانت هذه الحديقة المتنفس الحر لسكان بحري، تجدهم في الجُمُعَات من كل أسبوع يصنعون متعهم الخاصة، كنا حين ندخلها أفراد ينالنا من ريبة الحارس الكثير، والسبب يعود إلى استقرار شروط الزيارة – أُسر أو على الأقل "جوز"- لكن ما بال مراهقين يريدون الفسحة وهم خلو من رفقة؟ إلا إذا كانوا ينوون اختلاقها عبر الصيد من الداخل. وما أن نستقر في حضن الحديقة بين فَرشات متراصة و"ترامس" الشاي وحفاظات للمياه، إلا وتتعاظم عندنا حاسة الجاسوسية والتلصص، كان صلاح أكثرنا دقة في التنشين، فهو يشارطك بأنه سيحصل على رفقة (هذه) رغم الكثرة الكاثرة من الحكماء حولها، وبالفعل كان ينجح في ذلك، مما أثار حفيظتنا، ولم نكن لنعلم السر حتى الآن، ولكن استنتاجي يقول بأن صاحبنا كان يملك قدرة على لفت النظر نسبة لتمتعه بمظهر حسن، وشيء من (جضوم) كانت دليلاً على جودة تغذيته وبالتالي قدرته على إبداع الحكايات حول موقع أسرته الاجتماعي، وعبر ذلك كان يمكنه إقناع الضحية.
تتعلم المدن من انسانها كما يتعلم هو، فالعلاقة تأثير وتأثر، ولذلك ولمعرفة مصادر السلوك ينبغي البحث في طبيعة المكان، وطبيعة الخرطوم بحري دون أن يكون في الأمر أدنى شبهة تحيّز تختلف عن أم درمان (الخرطوم شأنٌ آخر) كون بحري مدينة مُركبة، ولأنه لا تخلو مدينة من صفة التركيب، لكن أم درمان تظل مدينة (طبيعية) أي أن تاريخها الاجتماعي اتسم بعمليات تركيب مستمر مما خلق فيها وحدة للروح، طبعاً أنا هنا استعير من عمنا هيجل (روح التاريخ)، ولذلك تستطيع أن تقع على تاريخ أم درماني وجداني على الأقل، أما الخرطوم بحري فهي مدينة ذات تراكيب لا زالت بحاجة إلى تحليل اجتماعي يكشف لحظاتها.
وأم درمان مدينة تشبعت بالحكاية السودانية، فقبل نشأتها كانت هذه الجغرافيا السودانية خاضعة للقبيلة وعالمها الضيق، وحدتها بالنسب والدم، وما إن جاء محمد أحمد (المهدي) حتى تنازلت هذه الجغرافيا عن مصيرها الدائري وارتضت بعد عمليات الإخضاع من قِبل خليفة المهدي أن يُؤَسِس بها تاريخ المدينة السودانية الجديدة، ولذلك فإن أم درمان تظل حقيقة اجتماعية.
هذا على العكس من الخرطوم بحري فقد توافد إليها ساكنة لا يحملون على ظهورهم حكاية الحلم وموته.. جاءوا مكللين بالبياض، ولا يملكون خياراً سوى صناعة مدينتهم بما يحملون من ذاكرة غير متعبة، ولأنها مدينة معفية من قلق التاريخ وعنفه، فقد استقر فيها مواطنون وأجانب لم يفقدوا شهداءهم في كرري ونساؤها محميات بالطبقة والمؤسسة، ولم يشهدوا نهاية الحلم المهدوي باستعمار العالم، ونشر الرايات الأربع على جهات الكرة الأرضية، والهتاف بالشهادة في "شان الله"، وأن المهدي خليفة رسول الله، ولم يرهق ذاكرة سكانها مذابح الخليفة وعنفه المضاد ضد مناوئيه، سكان بحري استقروا وهم خلو من أي علاقة بالسودان قبل ١٨٩٨م (لا يعني هذا أنها لم تكن مأهولة من قبل، بل كانت حلفاية الملوك، وشمبات..) وهذا سبب كافي لبناء مكانهم الجديد بغرس أليف، وقد ترسخ في سكان بحري وعي غير مُستعاد بالمكان، وبنيت أحياؤهم على أن يظلوا متمايزين (وهذا الملمح موجود) لكن الذي جرى أن أي مجتمع توحده لحظات التاريخ، وبحري قامت بعد الهزات العنيفة التي ضربت الإنسان السوداني (المهدية- مدافع كتشنر) ولذلك قامت على أسس من انسجام وتصالح بسبب براءة الذاكرة من العنف والدم، وانعكس ذلك بالضرورة على إنسانها، وحين يقول أحدهم: (ناس بحري) فهو حتماً يشير إلى مِزاج اجتماعي له مواصفات يحملها إنسان الخرطوم بحري، ومن مظاهر هذا المزاج شيء من لطف و(رواقة) تطبع مزاج البحراويين.
المرقى الثامن: (بحري إعلان الشيخوخة):
إن الدافع وراء أي كتابة هو التعرف على مستويات الوعي عندنا، الوعي بالمكان والآخر، ولأنني مؤمن بأن الكتابة سلوك علاجي فلذلك أُعمِل الحيلة في الهروب منها، ولساني على قول ابن المقفع (ما يأتيني لا يعجبني، وما يعجبني لا يأتيني) ولذلك تراني أشفق على الذين يرتبط عملهم بالكتابة اليومية.
وخواطري حول الخرطوم بحري تعود إلى دافع قديم في تتبع ما عشته، وماذا ترك فيني، وكذلك ما جمعته من مقولات تتعالى عند الكثير من سكان بحري كأن يقول أحدهم: "بحري دي زمان كانت نظيفة، والناس ظريفين، وجوز الحمام 4، مه زفرة حرى وكأنه ينعى نفسه لا المكان، والعبارة الأشهر: "حليل زمان". كان من الممكن ألا أهتم بخطاب الحسرة هذا، لكن النبرة لدى المتحسر استدعت عندي ضرورة تتبع وفحص سوسيولوجيا المدينة (المكان اجتماعيًا) وعلاقة ذلك بفهم سلوك الإنسان، وأنا من المؤمنين بضرورة توظيف التأمل طمعاً في فهم السودان وجغرافيته البشرية.
وعند عودتي فكرت في تاريخي الشخصي مع مدينة الخرطوم بحري، وقدرتُ أنني مثل المتحسر أملك متاعبي مع هذه المدينة، ولذا جاءت خواطري تربط بين الذاكرة المتعبة والمكان، فكتبت وقرأتم، فهوية المدن ليست ثابتة بل هي رهينة الديناميات (التحولات) وبحري عندي مدينة بطيئة الحركة الآن، وتعاني من قلق متزايد، والسبب هو تراجع الوعي الجمالي بالمكان والذي حله محله تكدس للقاذورات على طرق المدينة التي كانت تتباهى بأنها أنظف وأجمل مدن العاصمة، وحتماً حين يتراضى الوعي الجمعي على بقاء القبح أمام ناظرة الجميع فهذا مؤشر قوي للغاية على انكسار الذائقة الجمالية.
لكنني لست من أنصار الحنين المجاني وهو تصور طوباوي يعتقد بأن العالم قديم، والحقيقة العالم مستمر ويتغير، نذهب ويبقى، لكن المتأمل في بحري وشوارعها العريقة سيلمس أنها تزحف بقوة للانقضاض على ما تبقى فيها من جمال، والخرطوم بحري مدينة حزينة الآن، ولعلها من أحزن مدن التاريخ.. ومن الواضح أنها دخلت مرحلة الشيخوخة.
والآن فقط أشرقت الشمس ولم أزل بعد أجلس أمام مستشفى بحري في انتظار الزلابية وهي تتجمر أمام ناظري، وبعد كوب الشاي من عمك (جعفر) أشد الخطى للانتظام في الصحو الذي أنتاب المدينة وكأنني نمت ملء جفني، ولم أكن للتسكع أمين، ومن يقابلني بصباح الخير أردها إليه متقطعة بتثاؤب صريح وعينان جاحظتان وُسمت بهما منذ الميلاد.. يبدأ يوم جديد في البحث عن الذات، وما الكتابة إلا طريقة للتدرب على قول الحقيقة..

ghassanworld@gmail.com
////////////////////////

 

آراء