يومان في كيغالي مع الرئيس … بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل

 


 

 

 


غربا باتجاه الشرق

mustafabatal@msn.com

 

(١)
قضيت اليومين الماضيين في العاصمة الرواندية كيغالي وكنت قد ذهبت إليها مرافقاً للسيد رئيس الجمهورية والوفد رفيع المستوى الذي مثل السودان في مؤتمر القمة الإفريقية الاستثنائية العاشرة التي كانت من أبرز وأهم إنجازاتها الاتفاق والتصديق على اتفاقية التجارة القارية والتباحث حول منطقة التجارة الحرة الإفريقية، وهي أحد أكثر المشروعات الإفريقية حيوية. وتمثل واقعياً الإطار الاستراتيجي للتحول الاقتصادي والاجتماعي المنتظر للقارة السمراء خلال الخمسين عاماً المقبلة.


وسيكون من ثمار هذه الاتفاقية إزالة كافة العوائق التجارية والاقتصادية بين بلدان القارة، حيث ستعتبر أكبر تجمع اقتصادي وتجاري في العالم، لو كتب الله لزعماء وقادة وشعوب إفريقيا الهداية والتوفيق وعزّزهم بقوة الإرادة والثقة بالنفس، وجمع بينهم يداً واحدة وقلباً واحدا.

(٢)
وفي الواقع فإن نظرة واحدة متأملة من أعلى فندق ماريوت الشامخ في قلب كيغالي إلى مناطق وأحياء وهضاب وسهول هذه العاصمة الفتية ترسل إلى قلبك برد اليقين أن ذلك الأمل الذي تنفخ في جذوته اتفاقية التجارة القارية الحرة ممكن التحقيق.

ومن كان يصدق أن التوتسي والهوتو بعد كل ذلك التاريخ المروّع من الحرب الأهلية والمجازر والتطهير العرقي الذي شهدته رواندا عام ١٩٩٤، والذي وصفته الصحافة الأوروبية والأمريكية آنذاك بأنه أسرع إبادة جماعية في التاريخ الحديث، من كان يصدق أن القبيلتين ستلتقيان مرة أخرى وتتضامنان على محجة التسامح ونبذ البغضاء وتضميد الجراح والمكابرة على واحدة من أكبر مآسي الإنسانية، ثم النهوض بعد ذلك لبناء أكثر الدول الإفريقية في يومنا هذا قوة ومنعة وإعادة تشييد العاصمة كيغالي وتنميتها حتى كرمتها الأمم المتحدة وأطلقت عليها لقب "أجمل عاصمة إفريقية".


(٣)
جاءت مرافقتي للرئيس ووفده بصفتي مستشاراً إعلامياً للحكومة في لندن، وفي كافة العواصم الأخرى أيضاً. فأنا مستشار متجول تحت الطلب. أشير في لندن وفي كيغالي وفي بكين وفي كازاخستان وفي طنجة وفي كادوقلي وفي أي مكان آخر تحت الشمس. تستشيرني الحكومة فأنضم إلى وفودها مُشيراً، فتجد عندي ما يسرها. وما خاب من استشارني.

أقول هذا في مورد الرد على الأحباب الذين تكثًّروا عليّ برسائلهم المتسائلة عن سبب عودتي من لندن إلى الخرطوم وتطاول بقائي فيها. وآخر هؤلاء ابن عمي الدكتور هشام عوض عبد المجيد الذي نصحني بسرعة العودة إلى مقر عملي في لندن منعاً للقيل والقال. وقد أخلص ابن العم هذا في النصيحة فكتب يقول لي: "إن وجودك في الخرطوم بدون سبب ظاهر للعيان يثير الشكوك ويجعلك في وضع يشبه تلك التي تركت بيت زوجها وجاءت للإقامة في بيت والدها"!

(٤)
قفلت عائداً من كيغالي على متن الطائرة الرئاسية الفخيمة مساء أمس الأربعاء. ثم أنني ظللت بعد عودتي أسائل نفسي عما إذا كنت بالفعل قد رافقت السيد الرئيس خلال الزيارة، أم أنني كنت مرافقاً للمهندس طارق حمزة الرئيس والمدير التنفيذي لشركة (سوداتل). وما أدراك ما طارق حمزة! إذ فاقت جملة الساعات التى قضيتها واقفاً معه ومجالساً له ومستمعاً إليه، فاقت بما لا يقاس الوقت الذي خصصته لمرافقة السيد الرئيس وحضور جلسات المؤتمر. ولا علم لي عن سبب وجود طارق ضمن الوفد إذ فات عليّ أن أسأله، ولكن المؤكد عندي أنه كان ينهض بمهمة ما لأنني رأيت نفراً من الأفارقة والأوروبيين يأتون إليه بفندق ماريوت ويأخذونه إلى أمكنة لا أعلمها، وقد خصصوا له سيارة مرسيدس مهيبة تضارع السيارات المخصصة للرؤساء.

ومن الحق أن هذا الشاب الجذاب ينطوي على شخصية ثرية، شديدة الخصوبة، فهو مثقف متمكن في الأدب العربي والسودانيات وشعر الحقيبة، فضلاً عن الأشياء الأخرى غير الجذابة التي ينهض بها كإدارة شركات الاتصالات وخرمجة النشاط الرياضي في البلاد.

ولكنني سألت حبيبنا الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل سفيرنا في جنيف عن أسباب وجوده ضمن الوفد وأجابني. والاسباب لا تصلح للنشر لأنها من أسرار السفراء والمستشارين. غير ان آثار السنوات العشر التي قضاها الرجل وزيرا للخارجية بدت لي واضحة خلال تجوالي في قاعات المؤتمر إذ كنت أرى وزراء الخارجيات والسفراء وممثلي الدول ينكبون عليه سلاماً وعناقاً بمجرد رؤيته ويتذاكرون معه الذكريات.

غير انني لم اكن راضياً عن أداء حبيبنا حاتم السر وزير التجارة خلال المؤتمر، اذ انني طلبت منه وألححت عليه، وأشرت عليه بصفتي مستشارا للحكومة، بضرورة السعي لتوطيد علاقات السودان التجارية مع دولة موريتانيا الفتية من خلال وزيرة تجارتها الناها بنت مكناس، نجمة المؤتمر، ولكنه تخاذل ولم يبدي حماساً كافيا. وكنت قد صافحت الوزيرة الناها وعرفتها بنفسي، فهشت لي وبشٌت. وحاولت ان اعرفها على الحبيب ضياء الدين بلال الذي كان يقف بجواري، ولكنها لم تأبه له. ولا اعرف حتى الان سبب عزوف وزير تجارتنا عن توطيد صلاته بوزيرة تجارة موريتانيا وتفضيله قضاء معظم وقته في الحديث مع وزراء دول شرق ووسط وجنوب افريقيا.

(٥)
كانت هذه هي المرة الثانية التي أجلس فيها إلى السيد الرئيس مطولاً بعد عودتي إلى السودان من المهجر الأمريكي، فقد جلست إليه للمرة الأولى عند أول تعييني في موقعي الجديد قبل عدة أشهر، وأسمعته ما عندي وأسمعني ما عنده. وسرّني غاية السرور تطابق رؤانا حول القضايا الكلية التي تواجه السودان.

وكنت قد خرجت من اللقاء الأول فوجدت أهل الإعلام بكاميراتهم عند الباب، فقلت لهم إنني استمعت من الرئيس إلى حديث "اتسم بالحكمة والحنكة"، فلم يعجب ذلك صديقاتي الفضليات الأميرات أم سلمة ومريم وزينب الصادق المهدي، اللائي أتشرف بأن يجمعني معهن "قروب الجمل الما شايف عوجة رقبتو" في تطبيق الواتساب، وعبّرن لي عن ضيقهن مما صدر عني من حديث. وقد بذلت من الجهد ما حسبته يكفي لإرضائهن، وطلبت منهن أن يحمدن الله على أية حال، إذ إنني كدت أن أقول يومذاك عن السيد الرئيس ما قاله أحد كبار العلماء المصريين أمام أجهزة الإعلام فور خروجه من لقاء الملك الحسن الثاني في الرباط عام ١٩٨١، إذ قال عن لقائه بالملك: "رأيت في وجهه قبساً من نورٍ رباني"!

(٦)
أسعدني كثيراً أن رؤاي وتصوراتي بشأن القضايا التي تواجه الوطن تطابقت تماماً مع رؤى السيد الرئيس وتصوراته للمرة الثانية يوم أمس، حتى أنه كرر أثناء حديثه ثلاث أو ربما أربع مرات عبارات من شاكلة: "نعم، كلام البطل سليم" و"اتفق مع رأيك يا البطل"، حتى خيّل لي أنني رأيت علائم الضيق وملامح الغيرة في وجه الحبيب ضياء الدين بلال الذي شاركني جلسة الحوار مع الرئيس، ولكن لم يقل الرئيس ولا مرة واحدة أنه يتفق معه!

- نواصل –

 

آراء