الخرطوم من الطبقة الوسطي …إلى قبضة المسلحين !!

 


 

 

musahak@hotmail.com

الخرطوم من الطبقة الوسطي ...إلى قبضة المسلحين !!
لست بصدد نعي هذه المدينة ، وفي ذات المنحي قد لا أبتعد كثيرا عن إليوت في (الارض الخراب) حيث تبدو المدينة في قمة بشاعتها حين تنهار الحضارة(المدنية ) وتتحول القيم الي أنقاض ، وفي ذات الوقت أراني أقف أمام طائر الفينيق الخرافي الذي يعود الي الحياة من ركام رماده.
ولكن هي مجرد وقفة تأمل امام أطلال مدينة حيث تبدو أعظم ملامحها هي مرحلة (الطبقة الوسطي ) في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم .
وذلك التعريف ليس وفق التعريفات الإحصائية للبنك الدولي والتي تري في الطبقة الوسطي مجرد نسب مئوية
بين ذلك الفراغ الاستيطاني العازل بين طبقات ثرية وأخري فقيرة .
وسأقترح في حالتي الاقتراب أكثر من عالم الاجتماع الألماني ماكس فايبر والذي يعرفها بتلك الطبقة التي
تأتي إقتصاديا وإجتماعيا بين الطبقة العاملة والطبقة الغنية.
في تلك اللحظة الموحية بإرتجاج الفكرة ، دعونا نسافر عبر الزمن الماضي وفعله إلي مدينة الشاعر
محمد المكي ابراهيم في (قطار الغرب)
هذي ليست إحدي مدن السودان
من أين لها هذي الألوان
من أين لها هذا الطول التياه
لا شك قطار الغرب الشائخ تاه
وسآلنا قيل لنا الخرطوم
هذي عاصمة القطر علي ضفاف النيل تقوم
وحياة الناس سباق تحت السوط
عربات ،أضواء و عمارات

هذا يبدو كحياة الناس
خير من نوم في الأرياف يحاكي الموت
ما أتعسها هذي الأرياف
ما أتعس رأسا لا تعنيه تباريح الأقدام
وبعيدا عن الجدل الفقهي السياسي النقدي دعونا نقف علي المرئي من الصورة دون تجريد . ودون تلك الدهشة الريفية التي قد تشعل فتيل الصراع .
فقد كانت الخرطوم تماما تحت بيارق مدرسة الغابة والصحراء وقتها ،ذلك النزاع السلمي بين الأدب والسياسة والفكر والبحث عن هوية مبعثرة بين الغاب ورمال الصحاري وتعثر الاندماج .
كانت الخرطوم قادرة علي أن تحلم بفعل طبقتها الوسطى المستنيرة ، رغم أنها أحيانا نجدها غارقة في إنقسامها الفكري بين مدارس سياسية عابرة للبحار أو حتي تلك الهجين أو أخري تستدعي
الماضي في تجلياته السحيقة .
كان الأفندية قادرين علي تلميع أحذيتهم يوميا في مقاهي المدينة ،وقادرين علي شراء الصحف والمجلات و الكتب الأجنبية والمترجمة، وقادرين علي دفع قيمة تذاكر السينما أكثر من مرة في الأسبوع ،وأبناءهم قادرون علي الذهاب الي المدارس الحكومية التي تدفع لها الحكومات بسخاء .
وتستقبلهم المشافي في أريحية لا تضاهي . ويسافرون للاستجمام في العطلات .
وفوق كل ذلك كانت تلك الطبقة قادرة علي تشكيل ذاتها السياسي والاجتماعي والنقابي وكل النشاط المتمدين كان ممكنا ،وإن لم يكن واقعا فقد كان العمل علي استيلاده من رحم الغيب ليس مستحيلا .
كانت لتلك الطبقة ديناميكية عالية تتجلي في الفعل الثقافي والاجتماعي بكل أبعاده.
يبدو من العسير جدا تحديد تاريخ أو نقطة زمنية محددة لسقوط هذه الطبقة،ويقول الكثيرون أن الذي حدث كان تآكلا ثم تلاشي ، والمنحازون يقولون أن سقوطها كان أمرا حتميا بفعل الانفتاح وسياسة السوق ،أو أنها أفتقدت قدرة الطبقة الوسطي الكورية الجنوبية في البقاء ولكنها إكتسبت صفات الطبقة الوسطي البرازيلية في الفناء .
كانت الخرطوم وفق فعل تلك الطبقة تعرف ماذا تقرأ وكيف تختار وحتي لمن تستمع.
فقد زارها علي سبيل المثال نزار قباني شاعرا ، وغسان كنفانى روائي وصحفي فلسطيني، ونايف حواتمه سياسياو مقاوما.
وأستطاعت بسحرها الفني أن تجتذب صباح اللبنانية ، وأم كلثوم ، ومريم ماكيبا الجنوب أفريقية، وحليمة الصومالية ، ولا تعقد حواجب الدهشة ،فقد أستقبل رواد سينما كوليزيوم بالخرطوم في السبعينيات ثيودوراكس مؤلف الموسيقي التصويرية لفيلم "Z” في حفل الافتتاح لذلك الفيلم .
كانت تلك الطبقة قادرة علي السهر حتي الساعات الأولي من الفجر ثم تستغل المواصلات العامةالي
أمكنة العمل دون تأخير في الصباح الباكر .
وكانت تحظي بمشاريع اسكان (كالصحافة) أو (الثورة) (المهدية) أو (الشعبية بحري) ولم تترك الحلم وراءها رغم شراسة
المعارك السياسية احيانا .
وكما يقولون فقد (أناخ عليها الذي أناخ علي لبد ) إذ استيقظت تلك المدينة علي عصر تلاشت فيه
إقتصاديا وإجتماعيا وسياسيا تلك الطبقة وذلك لعوامل عدة ليس هنا مجال لحصرها.
وبدأ عصر الطفيليون وسماسرة السوق السياسي والاجتماعي وفقدان البوصلة، واختفي كل شئ تقريبا
وحتي حلم الغابة والصحراء إستيقظ علي واقع كارثي ، حين خاضت الخرطوم معارك الهوية في طبيعة
أحياءها السكنية ،الإفرنجي مقابل العربي ،والرياض مقابل أنجولا، والمنشية مقابل زقلونا ،وغيرها من تلك التعريفات الثقافية الحادة التي تشي بعمق الصراع الاجتماعي والاقتصادى و الذي قاد أخيرا الي تلك الثنائية المنقسمة يمثلها السودان وجنوب السودان في تلك الخارطة العامرة بالخيبات.
في خلال تلك الحقب كان يجري ترييف الخرطوم بعوامل إقتصادية ناجزة كما هو مشاهد الان إجتماعيا
وسلوكيا .
وهي المدينة و القرية في آن ولم تعد تلك التي عناها قطار شاعرنا محمد المكي ابراهيم ، بل غدت الان مدينة من أبرز ملامحها المليشيات والمسلحون والقناصة الذين يزيدون عن واقعها المأفون من اعلا أبراجها العمرانية لحساب لوردات الحروب وساسة الساعة الخامسة والعشرون .
الخرطوم الان هي أعلا مدن العالم استهلاكا للغازات المسيلة للدموع وأقلها استهلاكا للخبز والكتاب .
وباتت الأقرب لمستوطنة للمرابين والوسطاء ومسهلي الصفقات السرية وتجار السلاح والمليشيات متعددة الأنماط والأزياء .
غير أن هناك فجر قادم لا محالة وبانت ملامحه الشفيفة في عزيمة نسائها وشبابها وشيوخها وأطفالها في صناعة مدينة حضرية بقامة تضحياتهم وحلمهم بعاصمة علي ضفاف النيل تقوم .

 

آراء