الدكتور أحمد المعتصم الشيخ والقول بالاستمرارية في تاريخ السودان

 


 

 

Khaldoon90@hotmail.com

انتقل الى جوار ربه الكريم في خواتيم شهر يناير المنصرم من هذا العام الحالي 2022م ، الاخ والصديق وزميل المهنة السفير الدكتور احمد المعتصم الشيخ 1947 -2022م ، رحمه الله تعالى رحمة واسعة وانزل على قبره شآبيب الرحمة والرضوان ، وجعل الفردوس الاعلى من الجنة متقلبه ومثواه.
وقد شق نعي فقيدنا العزيز علينا جميعاً، وعلي أنا خاصةً بالطبع ، وعلى كافة اخوته واصدقائه وزملائه ، فبكوه بالدمع السخين ، وأبنوه ، وعددوا مآثره فأحسنوا وأجادوا. وتميزت من بين كلمات الرثاء والتأبين - على سبيل المثال - كلمة الأكاديمي والباحث و المؤرخ الضليع البروفيسور أحمد ابراهيم ابو شوك ، لانها قد اولت عنايةً ملحوظة للتركة الفكرية والعلمية للدكتور احمد المعتصم ، ووفرت ثبتاً ببليوغرافياً شاملاً بالمصنفات التي خلفها الفقيد.
كان اول عهدي بالمعرفة الحقيقية والاتصال المباشر لي مع الدكتور احمد المعتصم الشيخ ، عندما قدم علينا بسفارة السودان بالعاصمة التشادية " انجمينا " ، منقولا اليها من بعثة السودان الدبلوماسية بجنيف ، اما في خواتيم عام 1989 او في بداية عام 1990م. جاء ومعه زوجته السيدة الفاضلة الاخت سوسن عوض شريف وابنتاه سولارا وكان عمرها نحو عامين او تزيد قليلا ، وسندس التي كانت رضيعةً في شهرها الثالث او الرابع محمولة في مهد ، ولم يكن ابنه الوحيد أيمن قد ولد بعد. والحمد لله فقد كبر اولاده الثلاثة وشبوا عن الطوف ، وأكملوا دراستهم الجامعية وتخرجوا ، وتزوجت البنتان في حياة ابيهما ولله الحمد.
توثقت صلتي بالاخ احمد المعتصم اذن في انجمينا ، حيث تزاملنا لنحو ثلاثة اعوام بالسفارة السودانية هناك ، ووجد كل منا ضالته في الآخر، وخصوصا بسبب الميل والشغف والاهتمام عند كلينا ، خصوصا فيما يتعلق بالاطلاع والبحث في مجالات تاريخ السودان ، وثقافته ، وفولكلوره وإناسته ، وهلمّ جرا . وطالما جرت بيننا المناقشات والمساجلات المفيدة والممتعة كلما سنحت لنا الفرصة ، كما كنا كثيرا ما يشاور بعضنا الاخر حول مشاريعه البحثية ذات الصلة ، ونتبادل مسودات المقالات او الابحاث التي كنا بصدد نشرها بغرض مراجعتها وابداء الاراء حولها.
نشأ احمد المعتصم في بيئة اجتماعية واسرية ، خلفت لديه احساسا قويا بالتاريخ والثقافة والجذور عموما من منطلق ذاتي الى حدٍ كبير ، بالإضافة الى محض التطلع المعرفي العام أيضاً، ذلك بانه يعود الى عشيرة " العبابسة " ، وهم كيان عشائري يعود بجذوره البعيدة الى العباسيين عن طريق خلفاء بني العباس مباشرة ، وليس على النحو الذي يعتقد فيه - مثلاً - افراد ما يسمى بالمجموعة الجعلية العباسية، الاتصال سلالياً بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
يقطن العبابسة بصفة اساسية مع الرباطاب في منطقتهم المعروفة بشمال السودان ، حيث ظلوا يمثلون فئةً من " الفُقرا " اي الفقهاء ومعلمي القرءان الكريم هناك ، كما يقال ان لهم جيوباً في مناطق اخرى بالسودان مثل قرية " ود العباس " بالقرب من سنار وغيرها.
هذا ، ومن أبرز مظاهر حرص العبابسة على التأكيد على انحدار اسلافهم من اصلاب سلاطين بني العباس كفاحاً ، عنايتهم الفائقة والملحوظة بالتمسك باطلاق اسماء اعلام العباسيين ذكورا واناثا على مواليدهم. تلك لعمري اسماء مثل: المامون والمعتصم والمنصور والامين وعباس وحتى السفّاح نفسه بالنسبة للذكور ، وزبيدة وبوران والخيزران الخ بالنسبة للاناث.
وبالطبع لم يكن احمد المعتصم نفسه بدعا من ذلك ، لان والده اسمه المعتصم ، واخوه هو السفير عباس المعتصم ، وابنته الصغرى هي " سندس " وهو الآخر اسم عباسي صميم.
أما كريمته الكبرى المسماة " سولارا " ، فيجسد اسمها هذا بصورة واضحة ، شغف احمد المعتصم وولعه الكبير بالتاريخ عموما ، وتاريخ السودان على وجه الخصوص. ذلك بأنه أسماها - كما شرح لي ذلك هو بنفسه -على " بنت عين الشمس " ، تلك الجدة الأسطورية لسلسلة سلاطين الفونج ، والتي كان الانتماء السلالي اليها هو وحده الذي يمنح الشرعية لمن يطمح للارتقاء الى عرش السلطنة السنارية، وخصوصا خلال فترة سيادة عشيرة الأونساب. ولكن الاشتقاق اللغوي للاسم سولارا كما هو واضح ، يحيل الى اللغات الاوروبية القديمة وخصوصا اللاتينية التي اخدت منها سائر اللغات الاوروبية المعاصر الصفة solar اي شمسي او متعلق بالشمس. والشيء بالشيء يذكر ، فإن الشاعر الكبير محمد الفيتوري له بنت اسمها " سولارا " أيضا ، وحسبك به من مبدع ومثقف سودانوي وافريقاني كبير.
جلب أحمد المعتصم معه في متاعه من جنيف ، حقيبة سفرية متوسطة الحجم بنية اللون ، مصنوعة من الجلد ، ما زلت اذكر شكلها وهيئتها الى اليوم. وقد كان احمد المعتصم حريصا غاية الحرص على تلك الحقيبة التي يبدو انه كان يصطحبها معه في جميع تنقلاته بين العواصم المختلفة والخرطوم.
كانت تلك الحقيبة مملوءة بكمية معتبرة من الوثائق والمخطوطات النفيسة التي تمكن من الحصول عليها من مقتنيات أقاربه العبابسة القاطنين بنواحي " نَدِي " وغيرها من قرى وبلدات منطقة الرباطاب. وقد تكرم علي الاخ احمد منذ ذلك التاريخ ان اطلعني على بعض من تلك النفائس مثل مخطوطة " النبر " ، وهو كتاب في تراجم الاولياء والعلماء بالسودان ، يعود تاليفه الى تاريخ سابق لتاريخ كتاب الطبقات لمحمد النور ولد ضيف الله 1727 - 1810م نفسه. وأحسب أن الدكتور احمد المعتصم قد أودع صورا من مقتنياته النفيسة تلك من الوثايق الى دار الوثايق القومية ، فاحتفظت بها باسمه.
أما بالنسبة للنهج الذي كان يتبعه الدكتور أحمد المعتصم في مقاربة تطور الحقب التاريخية في سودان وادي النيل ، خصوصاً في عهديه الوسيط والمتأخر ، فقد لاحظنا عليه أنه يشبه نوعاً ما ، ذلك النهج الذي ظهر خلال العقود الأخيرة ممثلاً خصوصاً في أعمال باحثين وأكاديمين غربيين مثل الامريكي جى اسبولدنق والايرلندي شون أوفاهي اللذين يميلان الى الاعتقاد في استمرارية الكيانات والمؤسسات الاجتماعية والتاريخية ، والانماط والممارسات الثقافية السودانية منذ اقدم الحقب والعصور ، وعدم الاعتراف بدخول عناصر بشرية بكميات كبيرة وموثرة الى السودان د وبصفة خاصة الحديث عن هجرات قبائل عربية وامتزاجها مع السكان المحليين، وأي دورٍ حاسمٍ لهم في نشر الخصائص والسمات العربية والاسلامية على شمال السودان ، وتلك هي ما تجسد في المقابل قناعات واستنتاجات المدرسة " الكلاسيكية " التي يمثلها - على سبيل التمثيل - من المورخين الاجانب السير هارولد مكمايكل ومن الوطنين البروفيسور يوسف فضل حسن.
فمقاربة احمد المعتصم مشابهة اذن لمقاربة لمدرسة اوفاهي واسبولدنق ، وربما متأثرة بها قولاً واحدا.
ولعل من آيات هذا التأثر والإعجاب ، أن عمد احمد المعتصم وتحمس حماسة ظاهرة لترجمة كتاب جي اسبولدنق The Heroic Age of Sinnar تحت العنوان: عصر البطولة في سنار ترجمة رائعة سارت بدقتها وسدادها الركبان.
وقد تجلت خصائص ومظاهر مدرسة " الاستمرارية " في تاريخ السودان على نحو جلي في هذا الكتاب. فقد رد فيه اسبولدنق على سبيل المثال، مزاعم الفونج في رواياتهم الشعبية بانهم من اصل عربي اموي ، فر اسلافهم من وجه العباسيين الى الحبشة اولا ، وانتهى بهم المطاف الى اعالي النيل الازرق ، فاختلطوا بالسكان المحليين هناك ، حتى صعد نجمهم واقاموا سلطنتهم في اولو اولاً ، ثم سنار في اوائل القرن السادس عشر الميلادي. فبحسب اسبولدنق ، ان الفونج مجرد امتداد للطبقة السودانية الحاكمة منذ فجر التاريخ النوبي ابتداء بكرمة فنبتة فمروي فممالك النوبة المسيحية، انتهاء بمملكة علوة وعاصمتها سوبا. ومن مظاهر تلك الاستمرارية الجديرة بالتوقف عندها - اذا ثبتت صحتها -زعم اسبولدنق ان الاسم " بياكي " وهو اسم احدى النساء الشهيرات في بلاط السلطنة الزرقاء ، معناه " النجمة " باللغة المروية !!.
وقد ورد في ذلك الكتاب ايضا ان السلطان عمارة دنقس نفسه كان وثنياً في اول عهد اعتلائه العرش في حوالي عام 1504م ، ثم إنه أسلم فيما بعد طمعاً في التجارة مع مصر كما قال ، وهو زعم قديم كان قد أورده الاسكتلندي جيمس بروس في كتابه: أسفار من اجل اكتشاف منابع النيل عن وقائع زيارته لسنار في عام 1772م. ولا يخفى بالطبع تهافت هذا الزعم ، لان مسيحية الحبشة مثلاً ، لم تمنعها البتة من المتاجرة مع جيرانها من المسلمين المحيطين بها من جميع الجهات في أي يوم من الايام ، ومع ذلك لم يضطر ملوكها الى تغيير ديانتهم. والواقع ان اسبولدنق لم يزد على ان تبنى راي بروس ذاك ، لكي يعضد به مذهبه.
وأعجبُ من ذلك زعم اصحاب هذه المدرسة المحدثة التي تاثر بها احمد المعتصم كما أسلفنا ، ان اللهجات العربية باذخة الثراء والتنوع والاصالة التي تنتشر في شتى ربوع السودان الحالي ، لم تنتشر بسبب قدوم مجموعات عربية باعداد معتبرة الى السودان ، هي التي كان لها الدور الاكبر في توطين هذه اللغة بلهجاتها المختلفة وانتشارها ، وانما بفضل نشاط مجموعة من المعلمين او " الفقرا " المسلمين الذين علموا هذه الجموع الغفيرة من المتحدثين بالعربية في السودان تلك اللهجات بالكتاتيب والخلاوي ، مثلما علموهم القرءان واحكام الدين الاسلامي الخ. والسؤال الذي يثور بداهةً: لماذا استعرب سكان وسط السودان تماما لغويا ، ولم يستعرب سكان اطراف السودان الشمالية والشرقية والغربية رغم اسلامهم الذي كانوا فيه هم الاسبق تاريخيا بعدة قرون ؟؟ .. ولماذا لم يدرسهم اولئك المعربون المفترضون اللغة العربية الى جانب القرءان واحكام الدين الاسلامي ، كما فعلوا بحسب هذه الفرضية مع سكان وسط السودان ؟؟.
تلك هي نوع الاسئلة ، وضروب النقاش والجدل العلمي الخصب الذي كان يحتدم بيني وبين فقيدنا العزيز الاخ الكريم الدكتور احمد المعتصم الشيخ في جو من المودة والاخاء الحق ، وطرافة السخرية اللاذعة ، ومساخة الرباطاب المحببة ، فرحمة الله وغفرانه عليه في الخالدين.

 

آراء