الزار بين التهميش الاجتماعي ورفض الاستعمار (1)
د. محمد عبد الله الحسين
26 November, 2024
26 November, 2024
ينطلق هذا المقال من دراسة بعنوان (الأرواح والرقيق في وسط السودان: الريح الأحمر في سنار)، أجرتها الباحثة (سوزان م. كينيون). والدراسة هي إحدى الموضوعات التي وردت في كتاب بعنوان "الرق" الذي يضم مجموعات من المقالات التي ترجمها البروفسير بدرالدين حامد الهاشمي. وقد شرفني البروفسير الهاشمي مع آخرين لكتابة مقدمة الكتاب. أجرت سوزان كينيون في بحثها الذي أجرته في مدينة سنار في حوالي عام 1980 بين آثار الرق وبين الزار كممارسات اجتماعية معروفة.
تحدثت كينيون في دراستها الميدانية عن طقوس الزار وتلبس الأرواح. من بين ذكرت كينيون أن من يقوم بتنظيم طقوس الزار (في منطقة سنار تحديدا) هم أسر أو جماعات ترجع أصولها لجنوب السودان (السودان الجنوبي حاليا) لقبائل مثل الدينكا والنوير...إلخ. وقد ربطت الباحثة بالتالي بين ممارسة تلك الطقوس من قبل تلك الجماعات وبين تاريخ من الاسترقاق لأسلاف هؤلاء الأسر. وأن تلك الأسر تستعيد من خلال طقوس الزار ذكرى أسلافهم، وما كابدوه من عذابات ومعاناة خلال رحلة الاسترقاق، التي استبيحت فيها أرواحهم وحرياتهم. تعتبر تلك الطقوس وفق تفسير الباحثة بمثابة ارتباط واتصال روحي مع أسلافهم وهي كذليك تأكيد على أوضاعهم الهامشية في المجتمع. الجدير بالذكر أنه تمت مناقشة الكتاب في قاعة الشارقة في حوالي 2014. وقد شارك في مناقشة الكتاب لفيف من المهتمين بهذه الظاهرة ب إلقاء الضوء على عدة جوانب كانت قد وردت في الكاتب.
تعليقا على استنتاجات كينيون في بحثها الذي اطلعت عليه من الكتاب الذي أشرت إليه آنفاً فهناك عدة نقاط سأحاول التعليق عليها. من بين أهم تلك النقاط أن طقوس الزار في السودان ليست وقفاً على منطقة جغرافية معينة، أو قبيلة أو إثنية بعينها. ظلت طقوس الزار (وربما زالت) منتشرة في كثير من مناطق ومدن السودان، (وإن صارت أقل كثيرا من الفترة التي أُجري فيها البحث). وتأكيداً على ذلك فقد ذكرتٍ كثير من المصادر أن الزار موجود في العديد الدول في شرق أفريقيا وغربها كما هي موجودة في مصر وبعض دول الحجاز. تؤكد مصادر عدة أن الزار جاء إلى السودان، من الخارج لربما من الحجاز أو أثيوبيا. هناك رأي يقول بأن اسم الزار نفسه مشتق من الأمهرية (إثيوبية) كما ورد في كتاب (الزار والطمبرة) للدكتور أحمد الصافي ود. سميرة أمين وغيره من المصادر. وبالتالي فإن حصر الظاهرة في إثنية أو منطقة محددة كما ورد في تفسير كينيون، يعتبر مخالف للواقع. بناء عليه يمكن القول أن الربط بين طقوس الزار وحالة التهميش لدى طيف أوسع من الإثنيات المختلفة أو في مناطق مختلف هو الاستنتاج الأقرب للمنطق والواقع ولإمكانية استخلاص نتائج يمكن قبولها بكل ثقة.
عند مناقشة بحث كينيون تتبادر إلى الذهن عدة أسئلة من بينها: هل يمكن أن ينطبق التصوّر الذي قدمته كينيون عن الجماعات التي تنظم طقوس الزار في سنار على كل مناطق السودان؟ وهل يمكن اعتبار مدينة سنار مثالا يمكن تعميمه على كل مناطق السودان الأخرى؟ ثم أيضاً ما هو موقع أو دور المشاركين في تلك الطقوس من الذين تنظم تلك الحفلات لأجلهم من التفسير أعلاه؟
يمكن القول إن حصر ممارسة الطقوس الزار على الأسر المنحدرة من جنوب السودان فقط هو استنتاج لا ينطبق ولا يمكن تعميمه على كثير من مناطق السودان ولا على من يقومون من ناحية أخرى. كذلك ليس هناك رابط واقعي أو فعلي يربط بين ممارسة الزار وبين معارضة الاستعمار على الأقل في وقت إجراء البحث في مدينة سنار، (وفي معظم مناطق السودان). من ناحية أخرى فإن ربط طقوس الزار بالتهميش الاجتماعي أو السياسي (أو الجندري كما ذكرت بعض المصادر) قد يكون أكثر شمولا وواقعية.
من بين تلك الأبحاث التي أشرت إليها، بحث بعنوان:( المتلازمات الإثنية كاحتجاج مستتر على الاستعمار: ثلاثة أمثلة إثنوغرافية). وهو بحث كانت قد أجرته إليزابيث هيغيمان، المتخصصة في علم النفس. تذكر هيغيمان ثلاثة نماذج مختلفة لبحثها عن الزار وبعده الإثني كممارسة في ثلاثة مناطق مختلفة من بينها جنوب السودان. تربط هيغيمان في هذا البحث بين طقوس الزار، وبين تلبس الأرواح كوسيلة خفية لمقاومة الهيمنة الاستعمارية والصدمات النفسية والفواجع في بورتريكو. في اعتقادي أن تفسير هيغيمان لممارسة الزار هو الذي قاد كينيون للتماهي معه في الربط بين ممارسات الزار وبين معارضة الاستعمار. وكذلك في فكرة تلبس الأرواح كنوع من التداعي النفسي المرتبط بذكريات سابقة من الاسترقاق وبحالة من التهميش الراهن.
في الختام أشير إلى أن الموضوع بامتداداته المتشعبة والممتعة قادني للاطلاع على بعض الكتابات حول نفس الموضوع وإن اختلفت زاوية التناول واختلف بالتالي التفسير. يعتبر بحث إليزابيث هيغيمان من بين الكتابات التي تثير الانتباه عند البحث في ظاهرة الزار. تأتي بأهمية بحث هيغيمان لأنه يتجاوز تناول الموضوع من جانبه الاجتماعي و/ أو الأنثروبولوجي، ليضم إليها الجانب النفسي والجانب المرتبط بالأسرة والجندر.
د. محمد عبد الله الحسين
Mohabd505@gmail.com
تحدثت كينيون في دراستها الميدانية عن طقوس الزار وتلبس الأرواح. من بين ذكرت كينيون أن من يقوم بتنظيم طقوس الزار (في منطقة سنار تحديدا) هم أسر أو جماعات ترجع أصولها لجنوب السودان (السودان الجنوبي حاليا) لقبائل مثل الدينكا والنوير...إلخ. وقد ربطت الباحثة بالتالي بين ممارسة تلك الطقوس من قبل تلك الجماعات وبين تاريخ من الاسترقاق لأسلاف هؤلاء الأسر. وأن تلك الأسر تستعيد من خلال طقوس الزار ذكرى أسلافهم، وما كابدوه من عذابات ومعاناة خلال رحلة الاسترقاق، التي استبيحت فيها أرواحهم وحرياتهم. تعتبر تلك الطقوس وفق تفسير الباحثة بمثابة ارتباط واتصال روحي مع أسلافهم وهي كذليك تأكيد على أوضاعهم الهامشية في المجتمع. الجدير بالذكر أنه تمت مناقشة الكتاب في قاعة الشارقة في حوالي 2014. وقد شارك في مناقشة الكتاب لفيف من المهتمين بهذه الظاهرة ب إلقاء الضوء على عدة جوانب كانت قد وردت في الكاتب.
تعليقا على استنتاجات كينيون في بحثها الذي اطلعت عليه من الكتاب الذي أشرت إليه آنفاً فهناك عدة نقاط سأحاول التعليق عليها. من بين أهم تلك النقاط أن طقوس الزار في السودان ليست وقفاً على منطقة جغرافية معينة، أو قبيلة أو إثنية بعينها. ظلت طقوس الزار (وربما زالت) منتشرة في كثير من مناطق ومدن السودان، (وإن صارت أقل كثيرا من الفترة التي أُجري فيها البحث). وتأكيداً على ذلك فقد ذكرتٍ كثير من المصادر أن الزار موجود في العديد الدول في شرق أفريقيا وغربها كما هي موجودة في مصر وبعض دول الحجاز. تؤكد مصادر عدة أن الزار جاء إلى السودان، من الخارج لربما من الحجاز أو أثيوبيا. هناك رأي يقول بأن اسم الزار نفسه مشتق من الأمهرية (إثيوبية) كما ورد في كتاب (الزار والطمبرة) للدكتور أحمد الصافي ود. سميرة أمين وغيره من المصادر. وبالتالي فإن حصر الظاهرة في إثنية أو منطقة محددة كما ورد في تفسير كينيون، يعتبر مخالف للواقع. بناء عليه يمكن القول أن الربط بين طقوس الزار وحالة التهميش لدى طيف أوسع من الإثنيات المختلفة أو في مناطق مختلف هو الاستنتاج الأقرب للمنطق والواقع ولإمكانية استخلاص نتائج يمكن قبولها بكل ثقة.
عند مناقشة بحث كينيون تتبادر إلى الذهن عدة أسئلة من بينها: هل يمكن أن ينطبق التصوّر الذي قدمته كينيون عن الجماعات التي تنظم طقوس الزار في سنار على كل مناطق السودان؟ وهل يمكن اعتبار مدينة سنار مثالا يمكن تعميمه على كل مناطق السودان الأخرى؟ ثم أيضاً ما هو موقع أو دور المشاركين في تلك الطقوس من الذين تنظم تلك الحفلات لأجلهم من التفسير أعلاه؟
يمكن القول إن حصر ممارسة الطقوس الزار على الأسر المنحدرة من جنوب السودان فقط هو استنتاج لا ينطبق ولا يمكن تعميمه على كثير من مناطق السودان ولا على من يقومون من ناحية أخرى. كذلك ليس هناك رابط واقعي أو فعلي يربط بين ممارسة الزار وبين معارضة الاستعمار على الأقل في وقت إجراء البحث في مدينة سنار، (وفي معظم مناطق السودان). من ناحية أخرى فإن ربط طقوس الزار بالتهميش الاجتماعي أو السياسي (أو الجندري كما ذكرت بعض المصادر) قد يكون أكثر شمولا وواقعية.
من بين تلك الأبحاث التي أشرت إليها، بحث بعنوان:( المتلازمات الإثنية كاحتجاج مستتر على الاستعمار: ثلاثة أمثلة إثنوغرافية). وهو بحث كانت قد أجرته إليزابيث هيغيمان، المتخصصة في علم النفس. تذكر هيغيمان ثلاثة نماذج مختلفة لبحثها عن الزار وبعده الإثني كممارسة في ثلاثة مناطق مختلفة من بينها جنوب السودان. تربط هيغيمان في هذا البحث بين طقوس الزار، وبين تلبس الأرواح كوسيلة خفية لمقاومة الهيمنة الاستعمارية والصدمات النفسية والفواجع في بورتريكو. في اعتقادي أن تفسير هيغيمان لممارسة الزار هو الذي قاد كينيون للتماهي معه في الربط بين ممارسات الزار وبين معارضة الاستعمار. وكذلك في فكرة تلبس الأرواح كنوع من التداعي النفسي المرتبط بذكريات سابقة من الاسترقاق وبحالة من التهميش الراهن.
في الختام أشير إلى أن الموضوع بامتداداته المتشعبة والممتعة قادني للاطلاع على بعض الكتابات حول نفس الموضوع وإن اختلفت زاوية التناول واختلف بالتالي التفسير. يعتبر بحث إليزابيث هيغيمان من بين الكتابات التي تثير الانتباه عند البحث في ظاهرة الزار. تأتي بأهمية بحث هيغيمان لأنه يتجاوز تناول الموضوع من جانبه الاجتماعي و/ أو الأنثروبولوجي، ليضم إليها الجانب النفسي والجانب المرتبط بالأسرة والجندر.
د. محمد عبد الله الحسين
Mohabd505@gmail.com