السلطة والثقافة: قانون المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون، ما له وما عليه

 


 

 

نحاول في هذا المقال رصد ومقاربة مختصرة لمحطات هامة في علاقة السلطة السياسية بالشأن الثقافي، والتي يتجلى فيها ما هو مُعلن أو مُضمر من "تخطيط ثقافي" من قبل السياسي ونتاج هذا التخطيط كما هو متحقق عملياً في الساحة الثقافية. وما ننشده في هذا الرصد هو وضوح الموقف من علاقة السياسي بالثقافي، ووضوح الموقف من مقولة التخطيط الثقافي وصولاً إلى تجربة المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون وقانونه المجاز في 1976 وسلسلة التعديلات التي طالته في فترة الإنقاذ، لننظر فيما يمكن أن نجنيه من هذه التجربة، بعد فحص سلبياتها وإيجابياتها، كما تبينها بعض المقترحات الواردة في نهاية المقال.
1

كما هو معروف في سجل تاريخنا، صاحب عمليات التحديث التي جرت في النصف الأول من القرن الماضي تحت الحكم الإستعماري بروز وتطور "حداثات" فكرية وسياسية وسلوكية وفنية، إلخ، نتجت عن عمليات تثاقف بين ما هو قائم وما هو قادم، فيها الرفض والقبول والإضافة والحذف وفيها ما حفّز على حراك وألهم من حلول في مواجهة مشاكل الحياة والوطن. في هذا السياق إشتغل مفكري وكتّاب الطبقة الوسطى الصاعدة على قضايا الثقافة وضمنها مقولات الهوية والمعرفة ومشاكل التعليم. وأصبح مؤتمر الخريجين في العام 1938م جسماً تمثيلياً رئيسياً متوافق عليه ومعترف به من قبل سلطة المستعمر، كما أصبح كياناً إجتمعت فيه أطروحات ثقافية مختلفة ومواقف ورؤى سياسية متباينة. كذلك صار المؤتمر المختبر السياسيي الذي تخرج فيه صناع القرار السياسي وورثة السلطة من المستعمر. لذلك إكتسب وزناً جعل منه المنصة الأولى التي إستبان فيها الموقف السياسي من كثير من القضايا الوطنية ومنها ما له صلة بالثقافة. في العام 1939م، وضمن نشاط المؤتمر ومبادراته في المجال الثقافي، بعث بمذكرة إلى السلطات الإستعمارية يشرح فيها تصوره لإستراتيجية التعليم في السودان. وتتجلى خلاصة هذا التصور في ديباجة المذكرة وهذا نصها:

"في العديد من جوانب حياتنا لدينا الكثير المشترك مع الدول العربية في المشرق الإسلامي بسبب تقارب نسبنا. لذلك نرى أن التعليم في هذا البلد يجب أن يتخذ طابعاً إسلامياً شرقياً وليس وثنياً أفريقياً، أو في كلمة أخرى، يجب أن تحظى اللغة العربية والدين بأكبر قدر ممكن من العناية في كل مراحل التعليم." (محمد عمر بشير 1969 ص 152)
هذا نص مباشر في صراحته عميق في دلالاته: فهو أولاً يفصح عن أفق ضيق ووعي منخفض إذا ما قورن بكثير من الرؤى المستنيرة والمبثوثة في إسهام كتاب الثلاثينيات من أمثال عشري وعرفات، وفي آراء نقاد العشرينيات، طمبل والأمين، وفي الخطاب السياسي لقادة اللواء الأبيض، علي عبداللطيف وعبيد حاج الأمين. ثانياً، كشف عن تسيّد آيديولوجية محددة بين نخبة المؤتمر. ثالثاً، أضحى النص غرساً ما زلنا نجني ثماره، فقد أسس لهذا الإرتباط الوثيق بين السياسي والبت في الشأن الثقافي إستناداً على آيديولوجيته ووفقاً لمخططه ضمن إنتمائه الإجتماعي الطبقي، ونتج عن ذلك حجب المنظور العلمي للثقافة وغيابه في سياسات السلطة الوطنية مدنية كانت أو عسكرية. رابعاً، يكشف بوضوح عن رؤية وتخطيط استراتيجي مبطن لدى الشخصيات النافذة في قيادة المؤتمر، فقد تحولت هذه الأسطرالقليلة حول التعليم في العقود التالية إلى "منهج في التفكير" لدى أجيال متعاقبة من الحكام أسهمت في تبني قرارات مدمرة.

2

في ظل السلطة الوطنية وأولى حكوماتها خارج هيمنة المستعمر توالت الأقوال والأفعال التي تكرس هيمنة القرار السياسي على أمر الثقافة، ونكتفي هنا بإيراد تصريح يضج فظاظةً وغلظة لأحد قادتها. فهذا وزير الداخلية ورئيس حزب الشعب الديمقراطي ممثل طائفة الختمية فيما بعد، الشيخ علي عبد الرحمن، يعلنها صريحةً في البرلمان بأن "السودان دولة عربية، ومن لا يشعر بأنه عربي فعليه مغادرة البلاد." (لام أكول 1987) هذا التصريح الملقى على عواهنه في جلسة لبرلمان منتخب، والذي يقرر فيه السياسي مصير الثقافي، يشير إلى ضعف بنيوي ومعرفي ملازم للمؤسسة السياسية المرتكزة تاريخياً على بيتين طائفيين وما إقترن بهما من نخب، ويؤكد كذلك ما أشرنا إليه أعلاه من أن هناك منهج في التفكير سيظل ملازماً لهذا الجيل من القادة السياسيين. لهذا ليس بمستغرب عدم الإنتباهة المبكرة للثقافة كموضوع أصبح مبحثاً علمياً متوزعاً بين العلوم الإجتماعية والإنسانية لا يمكن لأي ناشط سياسي تجاوز معطياته.

3

في تجاربنا وتجارب غيرنا مع الأنظمة العسكرية، يزعم الإنقلابي إخراج البلاد من أزمتها ثم يشرع، مطلق اليد، في تحقيق ما يمكنه من إنجازات تحقق له شرعية ومؤازرة بديلاً عن سند دستوري وشعبي مستعصي. ومن هذا المنحى جاء شعار الفريق عبود: "أحكموا علينا بأعمالنا" بعد تسلمه للسلطة في 1958. ويمكن القول بأن إلتفات النظام للمشكل الثقافي جاء ضمن محاولته معالجة الأزمة التي سبق وتفجرت في جنوب البلاد في تمرد توريت العسكري في 1955م وتزامنها مع مطلب الفدرالية من قبل القوى السياسية الجنوبية وإشارتهم للعامل الثقافي، ضمن عوامل أخرى، كمبرر لهذا المطلب. ويبدو كذلك أن العامل الثقافي عموماً أصبح في نظر النظام أداة يمكن إستخدامها أيضاً في "الحفاظ على الوحدة الوطنية" – القول المفضل للعسكر - ومجالاً لتحقيق إنجازات هامة، بل وضرورية، لكن أيضاً لها وقعها العاطفي وعائدها الدعائي. أحلّ النظام العسكري وزارة بإسم الإستعلامات والعمل محل وزارة الشؤون الإجتماعية والتي أنشئت في العام 1954 مع بداية فترة الحكم الذاتي، وأوكل للوزارة الجديدة إنجاز كل ما له علاقة بالثقافة. فمثلاً، في الفترة من 1959 إلى 1962 تم بناء مبنى الإذاعة الحالي كما بدأ الإرسال التلفزيوني لأول مرة، وجرى تشييد وإفتتاح المسرح القومي. ومشروع تأسيس المسرح القومي في أم درمان والتظاهرة الثقافية الغنائية التي تم التخطيط لها في وزارة الاستعلامات والعمل لتكون حدثاً قومياً ولتكون بداية لعملية "إنصهار ثقافي" تفيدنا هنا في إيضاح طبيعة المنشط الثقافي وحالة الإختلاف الدائمة بينه وبين الموقف السياسي. أنشئ المسرح القومي في عام 1961م وتم تكليف مكاتب الإعلام في عواصم المديريات بتشجيع قيام الفرق الغنائية والإشراف عليها ودعم الموجود منها على أن تأتي هذه الفرق إلى العاصمة وتشارك في افتتاح المسرح في العام التالي 1962م. أسهمت هذه التظاهرة، في الواقع، في إحداث نقلةهامة في مسار تلاقح فني متصل بين الأغنية الحديثة (أغنية الوسط) والتقاليد الموسيقية والغنائية لدى الثقافات السودانية الأخرى، وأتاحت الفرصة لفنانين من الأقاليم أصبح لهم دورهم المشهود في تطور الأغنية السودانية. لكن مما بدا من منهج وأسلوب إعداد هذه المهمة، وما أحاط بالمشهد السياسي والثقافي عموماً جراء الإنقلاب على الحياة الديموقراطية، يتضح أن هذا المهرجان الفني ونجاحاته لم يكن في الواقع هدفاً أصيلاً مدرجاً ضمن رؤية واضحة للنظام لترقية النشاط الثقافي في المجتمعات السودانية؛ لكنه كشف عن حركة التطور الغنائي والموسيقي وواقعها ضمن السيرورة التاريخية العامة لفعل المثاقفة الجاري بين مكونات المجتمع السوداني، وأكد على الطبيعة الجوهرية للثقافة في عدم إمكان ضبط مسار تطورها والتحكم في نتائجه أو حتى التنبؤ بمآلاته.
ومن وقتها وحتى وقتنا هذا أصبحت هذه الوزارة، مع تعدد مسمياتها وتنوع وتحول مرافقها، أداة فاعلة في بث وتسويق مخطط السلطة، وأصبح كل ما يتعلق بالثقافة من مؤسسات أو تشريعات أو مناشط يدار في أروقتها وضمن روح إعلامية دعائية غالبة.

4

لم يتغير الحال بعد ثورة أكتوبر بعودة سلطة ما قبل الإنقلاب بمكونها الطائفي. وكان أبرز معالم المشهد السياسي إنعقاد مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الإثني عشر في 1965/1966 لمناقشة وحل مشكلة الجنوب. ومن أسباب فشلهما بروز المشكل الثقافي والجهر صراحةً بالهوية العربية الإسلامية من قبل رؤوس السلطة الساسية، الصادق المهدي وإسماعيل الأزهري ورفيقهم حسن الترابي. كذلك ورثت السلطة المدنية منهجية وزارة الإعلام ومؤسساتها التي طورها الحكم العسكري، وتحول إسم الوزارة إلى وزارة الإعلام والشؤون الإجتماعية، وقصد بهذه "الشؤون"، بالطبع، كل ما له علاقة بالحقل الثقافي. ومن المهم أن الثقافة هنا، كمصطلح ومنشط، ما زالت في ذهن السلطة بلا معنى محدد يمكن رؤيته مجسداً في تشريع أو في مؤسسة ذات إعتبار؛ فهي غائبة كموضوع خاص له إستحقاقه من البذل الفكري ومذاكرة مرجعياته العلمية المتخصصة، الأمر الذي جعل قضية ما هي في جوهرها قضية ثقافية شائكة وكأنها موضوعاً سياسياً من حق السياسي بل ومن واجبه أن يفتي فيها برأي قاطع وملزم. فهذا رئيس حزب الأمة، الصادق المهدي، وأكثر من شغل منصب رئيس الوزراء في فترات الديموقراطية، يتناول، في تبسّط مفرط، مسألة الهوية الثقافية ويقرر مبدئية التوجه الإسلامي للسودان ومصير الثقافات السودانية الأخرى ترتيباً على هذا التوجه. حدد موقفه هذا في تلك الفترة من أزمات الستينيات بقوله: "فشل الإسلام في جنوب السودان سيكون فشلاً للرسالة العالمية للإسلام. للإسلام مهمة مقدسة في أفريقية والجنوب هو بداية تلك المهمة." (منصور خالد 1990 ص 218) وفي خطابه أمام الجمعية التأسيسيه في عام 1966م عبر عن رؤيته هذه لهوية البلاد قائلاً: "الوجه البارز لأمتنا هو وجه الإسلام، ولسانها الطاغي هو العربية، وهذه الأمة لا يتحدد كيانها ولا تصان هيبتها وكرامتها إلا تحت نهضة إسلامية". (أبيل ألير 1973 ص 24) كذلك في الثمانينيات، وفي تنظيره لآليات التحول الثقافي وسبل توجيهه، أشار إلى عدة عوامل أساسية ستؤدي، بحسب رأيه، إلى التعريب والأسلمة الكاملتين لجنوب السودان، وحدد هذه العوامل في الآتى: أولاً، إستيعاب القبائل كنتيجة للشراكة في الزراعة والرعي. ثانياً، تأثير المتصوفة المسلمين والقضاة والتجار المستقرين في الجنوب. ثالثاً، المشروعات الإقتصادية التي تنشأ في الشمال ويستفيد منها الجنوب. رابعاً، إستقرار مجموعات جنوبية كبيرة في الشمال. خامساً، إدراك الجنوبيين أن عدوهم المشترك كان الإمبريالية وحضارة الرجل الأبيض، وهو إدراك أقنع حتى الأمريكان السود بإعتناق الإسلام. (ووربوري 1990 ص 185)

5

في فترة الحكم العسكري المايوي مرت الوزارة بعدة مسميات. بعد الإنقلاب في 1969 أستبدل إسم وزارة الإعلام والشؤون الإجتماعية المعتمد في فترة الديموقراطية بمسمى وزارة الإرشاد القومي، ثم تعدل هذا إلى وزارة الإعلام، ثم إلى وزارة الثقافة والإعلام بقرار جمهوري في 1973، وإلى وزارة الإرشاد والإعلام القومي في 1982، وتعدل مرة أخرى إلى وزارة الثقافة والإعلام في 1983. ورافق هذه التعديلات خلق بعض المؤسسات مثل مصلحة الثقافة في 1972 وإضافة بعض المؤسسات إلى الوزارة وإبعاد بعضها، لكن في كل الأحوال ظلت المؤسسات ذات الصلة بالثقافة تحت سيطرة دائرة الإعلام وضمن الهيمنة الكلية للسياسي.
ما إستجد من أمر الثقافة في هذه الدكتاتورية العسكرية الثانية هو، وللمفارقة، إبتدار أول محاولة للتشريع الثقافي وتقنينها وخلق مؤسسة ذات صفة إعتبارية تجسد هذا التشريع، وهي المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون، والذي أتت فكرته في بداية السبعينيات وأجيز قانونه في العام 1976م. قبل ذلك، وكما أشرنا في الفقرات السابقة، لم تكن الثقافة، بمفهومها الواسع، تمثل شاغلاً مركزياً في فكر السياسي، فهي في أحسن الأحوال مخططاً هلامياً بلا نسق، مطروحاً في سياق صراع سياسي وخصومة آيديولوجية، أومنشطاً مستخدماً ضمن آلة الدولة الإعلامية الدعائية من قبل السلطة. وسياسياً جاءت هذه المبادرة في ركب المسار العام للنظام المايوي وإقتفاء قادته العسكريين للنموذج القومي العربي الناصري منذ البداية. لكن، على كل حال، محاولة نظام مايو خلق جسم إداري محدد معني بموضوع الثقافة والفنون ومسنود بقانون يبين هيكله التنظيمي وأهدافه وآليات تحقيق هذه الأهداف، كانت في الواقع أول تجربة من جانب السلطة السياسية منذ الإستقلال للتعاطي مع الشأن الثقافي. وهي تجربة، أو نموذج من التخطيط الإستراتيجي، يستوجب إستصحابه والنظر في إيجابياته وسلبياته. وكنا قد تعرضنا في مقالات سابقة لتجربة هذا المجلس، ونستردها هنا مع شئ من التفصيل للوقوف على أهم ملامحها خاصةً حول علاقة الثقافي بالسياسي وما نتج عملياً من محاولة تطبيق ما نص عليه قانون المجلس ودلالات ذلك.
في العام 1976م أجاز مجلس الشعب (برلمان النظام المايوي) قانون المجلس ووقع عليه رئيس الجمهورية. المادة الرابعة في الفصل الثاني من هذا القانون ترسم بصورة واضحة علاقة هذه المؤسسة الثقافية بالسلطة السياسية القائمة. يقول نص المادة: "يعمل المجلس على تطوير الآداب والفنون وتشجيعها ونشرها والاتجاه بها إتجاهاً قومياً في نطاق السياسات التي يحددها التنظيم السياسي". ويحدد القانون الهيكل التنظيمي للمجلس وآليات تحقيق أهدافه على النحو التالي:
أولاً: يعين رئيس الجمهورية أعضاء اللجنة العليا للمجلس والتي يرأسها وزير الثقافة والإعلام باعتبار أن المجلس يتبع إدارياً لهذه الوزارة. تضم اللجنة وزراء التعليم، الشباب، الشؤون الدينية والأوقاف، وزير شئون الجنوب، السكرتير الإعلامي للاتحاد الاشتراكي، عميد كلية الآداب في جامعة الخرطوم وجامعة أم درمان الإسلامية، مدير دار الوثائق، مدير إدارة الثقافة في وزارة الثقافة والإعلام. ومهمة هذه اللجنة رسم السياسة العامة للمجلس ونظمه الإدارية.
ثانياً: يرشح رئيس المجلس أميناً عاماً للمجلس والذي تتم الموافقة عليه بمرسوم جمهوري. يكون أمين المجلس مسئولاً أمام رئيس المجلس واللجنة العليا حول إدارة المجلس وتطبيق أهدافه. وبحسب (البند13 أ)، يتلقى أمين المجلس توجيهات عامة أو محددة من رئيس المجلس متعلقة بمناشط المجلس حسب ما تتطلبه المصلحة العامة في إطار السياسات التي يخططها التنظيم السياسي.
ثالثاً: يتكون المجلس من ثلاث دوائر متخصصة هي الفنون والآداب والثقافة، ولكل دائرة أمين مسئوليته إدارة وتنسيق العمل داخل الدائرة وتنسيق العمل بينها و بين أمين المجلس. كذلك لكل دائرة لجنة خاصة بها ويعين رئيسها بواسطة الوزير، رئيس المجلس. لجنة دائرة الفنون مثلاً تتكون من خمسة إلى عشرة أعضاء يختارهم رئيس المجلس والذي يعين أيضاً عضوين من الجنوب لديهما الرغبة في النشاط الفني في الجنوب. هناك ثمانية أعضاء ينتمون لهذه اللجنة بحكم وظائفهم، ومن ضمنهم عمداء كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، ومعهد الموسيقى والمسرح، ورئيس اتحاد التشكيليين، ورئيس اتحاد فن الغناء الشعبي. كذلك في كل دائرة من دوائر المجلس الثلاث هناك عدد من الأقسام المتخصصة معنية بالنوع الفني الذي يخصها، مثل الفن التشكيلي، الموسيقى، المسرح، السينما، إلخ كما في دائرة الفنون. لكل من هذه الأقسام المتخصصة لجنة فرعية وسكرتير مسئول عن الناحية الإدارية ومتابعة القرارات التي تتخذها هذه اللجنة. وتتكون هذه اللجان الفرعية من الأشخاص المختصين فقط في المجال الفني المعني، ويجري إختيارهم من العناصر الفاعلة والنشطة ويتم ذلك بالتشاور بين أمين المجلس والإتحادات والمنظمات في مجال الفن المعين. وللمجلس ميزانيته الخاصة لتغطية الفصول الثلاث من مرتبات وخدمات ومهام، وهي ميزانية خاصة بتسيير عمل المجلس، أصدرها رئيس المجلس بالتشاور مع وزير المالية والتخطيط والاقتصاد الوطني لحين إكتمال هياكل المجلس وتعيين أمينه العام.
تم تعيين الشاعر مبارك المغربي بقرار جمهوري كأول أمين عام للمجلس في نهاية عام 1979م وذلك بعد وقت وجيز من إنتخابه رئيساً لإتحاد الأدباء السودانيين المقرب من النظام المايوي والذي تم تكوينه في تلك الأيام (جرى إنتخاب رئيس الإتحاد في إجتماع لمجموعة من الشعراء في إحدى قاعات الإتحاد الإشتراكي). لم تُجدد للمغربي وظيفته لفشله، كما يبدو، في تحقيق الهدف المرجو من المجلس وأستبدل بشخصية أدبية مرموقة هو جمال محمد أحمد الدبلوماسي والأديب المعروف، إذ كان من رأي صناع القرار أن الأمين الجديد ربما يروق للمجتمع الثقافي والدوائر الفنية. لكن تم إستبداله قبل إكتمال فترة الثلاث سنوات المقررة لهذا المنصب بحسب قانون المجلس بشخصية من أتباع الحركة الإسلامية هو التشكيلي أحمد محمد شبرين. كان ذلك في عام 1983م في أعقاب التطورات السياسية والوفاق بين نميري والحركة الإسلامية وما تبع ذلك من ترتيبات أصبح المجلس فيها أحد المواقع التي آلت للحركة باعتباره أهم أذرع الدولة في الحراك الثقافي.
من البين أن المجلس مقصود فيه أن يكون تابعاً للمؤسسة السياسية ليخدم أهداف التنظيم السياسي القائم. وعلى الرغم من أن الهدف الأساسي من تأسيس المجلس كان محاولة إيجاد مواقع داخل المكون الثقافي إلا أن هذا الهدف لم يتحقق لعدة أسباب.
أولاً: لم تتمكن سلطة مايوالعسكرية، مثل سابقتها، من تأسيس علاقات متصالحة مع المجتمعات الثقافية والفنية، ويرجع ذلك، في حالة عسكر مايو، لطبيعة التوجه الآيديولوجي والبنية الاجتماعية الطبقية لهذه السلطة. إلى جانب ذلك، لم تكن دوائر النظام المايوي ترى في المجلس خياراً مثالياً لإنجاز مهام إختراق المجال الثقافي واحتوائه. ومن هنا كان تأسيس المجلس أقرب إلى التمرين السياسي منه إلى إلتزام جاد نحو ترقية الثقافة ومؤسساتها في المجتمعات السودانية، وكانت السلطة على الدوام راغبة في تحقيق المكسب السياسي من خلال نافذة المجلس أكثر من حرصها على تحقيق أهدافه. ونتيجة لذلك لم تتوفر أبداً أي من المطلوبات الأساسية لمثل هذه الأهداف، مثل الميزانية المناسبة والبنيات الإدارية والتنظيمية المدروسة.
ثانياً: جاء الإختبار الحقيقي لدور المجلس ونوايا السلطة السياسية عندما طلب رئيس المجلس بأن يقدم المجلس برنامجه وميزانيته بعد تعيين الأمين العام في 1979م. فبحسب المادة "21ب" و "21ف" كانت اللجان المتخصصة في كل دائرة هي التي صاغت أول برنامج حقيقي لتفعيل أهداف المجلس، وذلك من خلال رصد الاحتياجات الأساسية في كل حقل فني وتحديد الأسبقيات في تنفيذ هذه الإحتياجات على مستوى القطر، وقدموا نوع البرامج والميزانية التي كانوا على قناعة بضرورتها للنهوض بالفن في مجالاته الرئيسية. لكن بما أن هذه البرامج وميزانيتها لم تكن لتتطابق مع مفهوم السلطة السياسية لهذا المجلس والغرض منه فقد تجاهلها صناع القرار باعتبارها "غير واقعية" وأن مثل هذه البرامج سوف تكلف السلطة السياسية قدراً من المال دون أن يكون لها عائد سياسي سريع ومضمون. (كانت الميزانية المقترحة من دائرة الفنون وحدها تقارب الخمسمائة ألف جنيه، في حين أن ميزانية المجلس الكلية لتسيير أعماله حتى ذلك الوقت كانت مائة وخمسين ألف جنيه.)

6

في السنين الأولى للحكم العسكري الإسلاموي تم حل وزارة الثقافة والإعلام في 1992، وفي 1993أصبحت إحدى مكونات وزارة التخطيط الإجتماعي تحت إشراف علي عثمان محمد طه. وفي فترات لاحقة تغير الإسم إلى وزارة الرعاية والضمان الإجتماعي، ثم إلى وزارة الضمان والتنمية الإجتماعية، فوزارة العمل والتنمية الإجتماعية. وما جرى لهذه الوزارة على مدى ثلاث عقود من تفتيت وتصفية جرى لمجمل هيكل الدولة والطابع المؤسسي الموروث لمرافقها وإبتدعت التشريعات الخاصة بهذه المرافق لتصبح تحت تصرف السلطة ومشاريعها. وفي هذا المنحى وُظفت كل المؤسسات التابعة للوزارة في تنفيذ ما يسمى بالمشروع الحضاري و"الهندسة" الثقافية للمجتمعات السودانية، وإنتهى أمر هذه الوزارة ومرافقها إلى مجرد مسميات بلا مضمون. تجسد هذا الواقع في ما حل بالمجلس القومي لرعاية الآداب والفنون. عُدل قانونه ومسماه إلى الهيئة القومية للثقافة والفنون في العام 1991، وفي 1993 عُدل القانون مع تغيير الإسم إلى المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون. لكن في كل هذه التعديلات تم تشديد قبضة السياسي على الثقافي وتم الإفصاح تشريعاً عن دور المجلس بإعتباره مخططاً للثقافة وفق وجهة آيديولوجية محددة. فبحسب المادة 6-3 من الفصل الثاني "يخضع المجلس لإشراف الوزير"، والمادة 7-1 تُقرأ: "يُشكل المجلس بقرار من مجلس الوزراء برئاسة الوزير." أما إختصاصات المجلس وسلطاته فتقررها المادة 9-أ كالآتي: "التخطيط العام وصيانة إستراتيجية الإحياء والإشعاع في مجالي الثقافة والفنون وفق الرؤى والتوجهات العامة للبلاد على المستوى القومي." أما إختصاصات وسلطات الوزير نفسه فهي مطلقة في كل ما يتعلق بشؤون المجلس بحسب ما ورد في المادة 10. والمجالس الولائية بحسب المادة 18-1 تكون "تحت رئاسة الوزير المختص." وتقول المادة 18-2: "يتولى المجلس الولائي الإشراف والتخطيط للعمل الثقافي بالولاية في إطار موجهات التخطيط القومي." أما المادة 19-1 و19-2 على التوالي فتحددان بشكل قاطع طبيعة العلاقات الثقافية بالعالم الخارجي كما يلي: "لا يجوز للمؤسسات والكيانات الثقافية والفرق الفنية أو أي جهات أخرى أن تشترك في أي نشاط ثقافي أو فني خارج السودان إلا بموافقة المجلس." و"لا يجوز للمؤسسات والكيانات الثقافية والفرق الفنية أو أي جهات أخرى دعوة أي شخص أو هيئة أجنبية للقيام بعمل ثقافي داخل السودان إلا بموافقة المجلس."
وأخيراً إنتهى أمر المجلس ومبانيه إلى غرف متهالكة وأسقف آيلة للسقوط فوق رؤوس من تبقى من موظفيه، ولا يدري أحد أين ذهبت وثائقه وملفاته ومكتبته. وعموماً، هذه سلطة سياسية أصبح هدفها الرئيسي إختطاف وإستباحت مرافق الدولة وتوظيفها في عمليات نهب لموارد البلد غير مسبوقة في تاريخنا، وحتى تاريخ غيرنا من الشعوب. سلطة كهذه لا يجوز منطقياً أن يكون في أجندتها مساحة مهما صغرت لترقية الحياة الثقافية.

7

بعد ثورة ديسمبر وتكوين حكومة الفترة الإنتقالية وتعيين أمين جديد للمجلس لم يتغير الحال، وذلك بسبب إستمرارهذ الخلل البنيوي فكرياً ومؤسسياً في علاقة السلطة بالثقافة منذ إستقلال البلاد. ولم يجد أمين المجلس ما يفعله تجاه تجاهل السلطة أو إفتقادها لرؤية محددة أو عجزها عن إجراء التغيير المطلوب أو لضبابية العلاقة الموروثة مع وزارة الثقافة والإعلام بإعتبار تبعية المجلس للوزير، أو ربما لهذه الأسباب مجتمعة، فاستقال من منصبه. وهكذا، كما أشرنا في الفقرات السابقة، لم تكن الثقافة، بمفهومها الواسع، تمثل شاغلاً مركزياً في فكر السياسي، فهي في أحسن الأحوال مخططاً هلامياً بلا نسق، مطروحاً في سياق صراع سياسي وخصومة آيديولوجية، أومنشطاً مستخدماً ضمن آلة الدولة الإعلامية الدعائية من قبل السلطة.

مقترح

يتضح على ضوء المذكور أعلاه أن الشأن الثقافي ومؤسساته، بكل خطورته ودوره في نشأة وإستدامة الأزمة الوطنية، ما زال حتى الآن ومنذ أول حكومة وطنية تحت إشراف وسيطرة السلطة السياسية متمثلة في وزارة الثقافة والإعلام بمسمياتها المختلفة عبر تداول السلطة مدنية كانت أوعسكرية. وفيما يلي بعض المقترحات للنظر والمدارسة:

1) إنهاء هيمنة السلطة السياسية على إدارة الشأن الثقافي تشريعياً وتنفيذياً بإلغاء وزارة للثقافة. هذا من شأنه القضاء على حالة مستديمة وشاذه من التماهي بين السياسي والدولة، على الأقل في هذا الحقل الثقافي. وهناك الكثير من الدول إتبعت مثل هذا الإجراء من واقع إدراكها لطبيعة الثقافة، ومنها من لا يعاني أصلاً من أزمات في هذا المجال، وإعتمدت مجالس ذات أساس قومي لتولي الأمر. ولدينا في الحقل الثقافي من نادى بهذا الإلغاء فرزاً لهذه العلاقة المؤذية. (عبدالله علي ابراهيم، سودانايل 2019؛ وجدي كامل، فيسبوك 2020) .
2) إلغاء قانون المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون الصادر في 1999 وإجراء تعديلات جوهرية في قانون المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون الصادر في 1976 تبدأ بإعتماد إسم "المجلس القومي للثقافة" بإعتبار المعنى الأشمل لمفهوم ثقافة، والتأكيد على الأساس القومي للمجلس وواقع الوجود الثقافي السوداني المتنوع وكذلك تجاوز لفظة "رعاية" لما فيها من إلتباس.
3) أن يكون المجلس مؤسسة تستمد تشريعاتها من الدستور الذي يجيزه المجلس التشريعي للفترة الإنتقالية ويخضع لأي تعديل أو إضافة أو حذف يقره المؤتمر القومي الدستوري المقرر في نهاية الفترة.
4) أن يكون لكل إقليم مجلسه الثقافي الخاص به، ويتم تمثيله في الهيئات العليا للمجلس القومي.
5) أن يحدد قانون المجلس وينظم شكل وطبيعة العلاقة بينه وبين السلطات السياسية التنفيذية فيما يتعلق بالشأن الثقافي.
6) أن يؤكد قانون المجلس على هدفه الأساسي في إنشاء البنيات التحتية للنشاط الثقافي، ودعم وترقية كل ما يعزز هذا النشاط على مستوى القطر.
7) أن يؤكد قانون المجلس على حرية تطور وإزدهار الثقافات السودانية في تنوعها وتلاقحها دون تدخل.
8) أن يؤكد قانون المجلس على حرية النشاط الثقافي للأفراد والجماعات، وعلى حقوق الأفراد والجماعات في الوصول والمشاركة في كل ما تتيحه الدولة من مقومات الثقافة وأنشطتها.
9) يقرر قانون المجلس مسؤوليته مع الجهات المعنية في المحافظة على التراث الحضاري القومي بمختلف أنواعه، قديمه ومعاصره، وإصدار التشريعات الخاصة بذلك.
10) فيما يتعلق بالإعلام، ضرورة تأسيس هيئة مستقلة لأجهزة الإعلام الرئيسية وينظم قانونها شكل العلاقة بالسلطة التشريعية والتنفيذية بحيث تتخذ طابعاً ديموقراطياً في أدائها ويتم تحصينها من هيمنة وإستغلال السلطة السياسية التنفيذية، والإستفادة من تجارب بعض الدول الديموقراطية في هذا المجال.

مراجع واردة في المقال

Mohamed Omer Beshir 1969. Education development in the Sudan 1902-1955.
Lam Akol 1987. The present war and its solution.
Mansour Khalid 1990. The government they deserve.
Abel Alier 1973. The Southern Sudan question.
Gabriel Warbury 1990. National identity in the Sudan.
عبدالله علي ابراهيم، سودانايل 2019، "ولسنا بحاجة إلى وزارة للثقافة أيضاً"
وجدي كامل، فيسبوك 26/5/2020، "نذر مواجهة إعلامية"

abusabib51@gmail.com

 

آراء