السودان أسير أسيري الأبوية المستحدثة

 


 

طاهر عمر
5 November, 2023

 

أهتم علماء الاجتماع بمسألة ظاهرة المجتمع البشري و إنعكس إهتمامهم على تطور الفكر بشكل ملفت للنظر. نجد إهتمامهم في حقول رؤية تقاطعت فيها الفلسفة و علم الاجتماع و الاقتصاد و الأنثروبولوجيا. في وقتنا الراهن نجد أن علماء الاجتماع و المؤرخيين غير التقليديين قد تجاوزوا الوضعية و وثوقيات ماركس و دوركهايم و أوجست كونت و سان سايمون و إنفتحتوا على عقلانية ماكس فيبر و ما تفرع من أفكاره في مجرى القرن الأخير من تطور الفكر في المجتمعات الحديثة بفضل جهوده المنشورة بعد وفاته و قد مر على ظهورها قرن بالتمام و الكمال.
أفكار ماكس فيبر لا تخرج من محاولاته الدقيقة التي تشبه عمل الأركولوجي في بحثه عن آثار في مجرى التاريخ الطبيعي للإنسانية و لهذا نجد إنتصاره و تكريسه لفكرة تقاوم محاولات كثير من المفكريين الذين ما زالوا يتحدثون عن تتويج التاريخ كما يتوهم هيغل و ماركس الى لحظة ظهور عمل جبار لفوكوياما حيث أصبحت نهاية التاريخ و قد توجت بالتاريخ الذي لا يتوج أي التاريخي الطبيعي للإنسانية و لا يمثله غير تاريخ الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي و هو مفتوح على اللا نهاية تسوقه معادلة الحرية و العدالة و هي تؤكد مسيرة الانسانية التاريخية.
عوامل كثيرة تقف كجبّار الصدف حائل بين أن تبدأ المجتمعات التقليدية كحال المجتمع العربي الاسلامي التقليدي و السودان في تخومه بداية صحيحة لكي تفهم معنى التاريخي الطبيعي للإنسانية أي التاريخ الذي لا يتوج بنهاية بل يسير في صيرورة مسيرة مأساوية و تراجيدية منفتحة على اللا نهاية. تلعب عوامل كثيرة في تأخر البدايات الصحيحة و تلعب فيها عوامل عدة من بينها نقص هائل في المنهج الذي تقارب به النخب في السودان ما يعطل مسيرة الفكر في السودان إذا أرادت أن تواجه التحدي و تريد التغلب عليه.
إهمال الفكر الذي يهتم بتاريخ الخوف و تاريخ الذهنيات كنتاج لفكر قدمته مدرسة الحوليات الفرنسية ينتج لنا مؤرخ تقليدي سوداني ما زال منحبس في بحوث تهتم بصحيح الدين كجناح لفكر إهتم بالهويات المضطربة و الهويات الخائفة و قد إنفتحت على الهويات القاتلة كما رأينا سيطرة الخطاب الديني المتجسد وسط أتباع الأحزاب السودانية الطائفية و حزب الكيزان و قد أدى لسيطرة الحركة الاسلامية على المشهد السياسي لثلاثة عقود كالحة و على مرأى و مشهد من المؤرخ التقليدي السوداني دون أن يحس بحرج بسبب منهجه الناقص هو ما سمح للخطاب الديني أن يزدهر في السودان.
و يمكنك أن تقول أن المنهج الناقص للمؤرخ التقليدي السوداني قد سمح له بحقل رؤية إنحبست في الوثيقة المقدسة كما رأينا إهتمام محمد ابراهيم أبو سليم بوثائق المهدية و قد كرّمه حزب الامة لأن عمل محمد ابراهيم ابو سليم يعطي لحزب الأمة شرعية الحق في الإستمرارية رغم تأهبه للخروج من التاريخ بسبب خطابه الديني المنغلق.
الأبوية المستحدثة التي تحدث عنها هشام شرابي تجعل المثقف السوداني التقليدي و المؤرخ التقليدي يظن و هو خاطئ بأن التحول الديمقراطي يمكن أن تلعب دوره أحزاب دينية كحال أحزاب السودان و أتباع المرشد و الامام و الختم متناسين أن الخطاب الديني قد أصبح أكبر حاضنة لسلطة الاب و ميراث التسلط في زمن أيقن الفلاسفة أن سحر العالم قد زال أي لم يعد للدين أي دور لجلب سلام العالم إلا في عقل مؤرخ تقليدي مثل محمد ابراهيم ابو سليم و علي صالح كرار في حديثه عنه صحيح الدين في بحوثه عن الطرق الصوفية و كذلك في عقل أتباع المرشد و الامام و الختم و ظنهم بأن خنوعهم للمرشد و الامام و الختم تنتج عنه ديمقراطية و هيهات.
و من صور الأبوية المستحدثة نجدها متجسدة في كتابات عبد الوهاب الأفندي في وهمه المتجذر حول إسلامية المعرفة و محاولاته اليائسة في أن يكون لسان حضارة إسلامية أصبحت بلا لسان في زمن الحداثة و عقل الأنوار كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي أوليفيه روا. أمثال عبد الوهاب الأفندي و أتباع الامام و الختم ضحايا كساد فكري و في نفس الوقت حاملي فيروس الخمول و الكسل الذهني الذي تحدث عنه هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب و الغرب حيث يظن المفكر التقليدي أن الخطاب الديني يمكن أن يكون جزء مساعد و عامل في عملية التحول الديمقراطي في وقت تعني مسألة التحول الديمقراطي أن تصبح الديمقراطية بديلا للفكر الديني و هذا فكر لا يفهمه إلا من وصل لمستوى فكر و فهم هشام شرابي أو فكر طه حسين عميد الادب العربي في كتابه مستقبل الثقافة في مصر.
طرح طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر فكر و فيه يقول ينبغي أن تتجه النخب في مصر لعقلها الأغريقي الروماني لأن مصر جزء من ثقافة البحر الأبيض المتوسط و لا أمل لخروجها من الكساد الفكري إلا في عودتها الى عقل الاغريق و الرومان الذي ورثته أوروبا و أصبحت في مقدمة الشعوب التي إختصرت تاريخ البشرية و هذا هو البعد الفكري الذي لم تدركه النخب التقليدية أمثال أتباع المرشد و الختم الامام في السودان و هو أن فكرهم يظن أن الخطاب الديني يمكنه المواكبة و هذا هو مكمن الإختلاف بينهم و فكر طه حسين و هشام شرابي الذي ينتقد أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب و فكرهم المتأهب للخروج من التاريخ لأن الفكر الحديث لا يجاور و لا يصادق و لا يساكن فكر وحل الخطاب الديني و قد عبر عن ذلك محمد أركون المعجب بفكر طه حسين في كتابه الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل.
طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر منذ ثلاثينيات القرن المنصرم يؤكد أن مفارقة الخطاب الديني و الايمان التقليدي هو ما يجعل النخب في مصر و العالم العربي و الاسلامي التقليدي في مستوى وعي متساوي مع العقل الغربي و بالتالي يستطيع الصراع معه بعكس ضعف عقل النخب في مصر و هي في عقلها التقليدي و ايمانها التقليدي الذي لا يستطيع التغلب على عقل الأنوار و أفكار الحداثة و من قول طه حسين يمكنك أن تفهم أيها القارئ لماذا فشلت النخب السودانية على مدى سبعة عقود في تحقيق التحول الديمقراطي؟
و من هنا يمكننا القول أن تحقيق التحول الديمقراطي في السودان لا يمكن تحقيقه و إنجازه بعقلنا التقليدي و ذهنية ايماننا التقليدي فلا سبيل الى تحقيق التحول الديمقراطي إلا بإزالة فكر المثقف التقليدي ابن الأبوية المستحدثة و هو متجسد في أمثال عبد الوهاب الأفندي و خنوعه لإسلامية المعرفة و لا يعرف منها فكاك مثله مثل أتباع الختم و الامام. و لا يختلف عنهم المؤرخ السوداني التقليدي و المفكر التقليدي و المثقف السوداني التقليدي.
في وقت قد أصبح عقل الأنوار الغربي ممر إلزامي و عليه لا داعي من محاربة الفكر الغربي و جعل الغرب و حضارته عدو أبدي في وقت قد أصبحت الحضارة الغربية تجسيد لمختصر تاريخ البشرية كما يقول طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر و يؤكد من بعده هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب و الغرب و موقفهم العدائي الدائم للحضارة الغربية و كله بسبب العجز عن تحقيق الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل كما يقول كتاب محمد أركون في وقت قد أكدت تجربة الانسان و ضمير الوجود أن الحضارة واحدة و أن النور يأتي من الغرب.
أي أن النور يأتي من الحضارة الغربية كما يقول داريوش شايغان فلا داعي أن يتكلف المثقف السوداني التقليدي و يكابر بأنه يمكنه تحقيق تحول ديمقراطي وفقا لميراث مجتمعنا السوداني التقليدي. هذا حديث مضحك من نخب يسيطر على أفقها عقل الحيرة و الإستحالة و للأسف نجده في فكر أقصى اليسار السوداني الرث و أقصى يمينه الغارق في وحل الفكر الديني و هو فكر متعمق في عداءه للحضارة الغربية.
و لا يختلف المؤرخ التقليدي يوسف فضل و تلاميذه في إهتماهم كذلك بعمل المؤرخ التقليدي. و كذلك في إهتماهم بفكر لا يهتم إلا بجناحي الهوية القاتلة و هي مسألة إرتكازهم على مدى حقول الخطاب الديني و البعد العرقي و قد تجاوزته أفكار البشرية و هي تسير في مواكب النشؤ و الإرتقاء متجاوزة لفكر بائس مثل فكر المركز و الهامش الذي أنتج سياسي سوداني يجهل مفهوم الدولة الحديثة و ممارسة السلطة في المجتمعات الحديثة و لايهمه غير المحاصصة و غابت عن أفقه العلاقة المباشرة بين الفرد و الدولة و مفهوم المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و هي تجسد فكرة الضمان الاجتماعي الذي أصبح روح المجتمعات الحديثة و إنجاز عقدها الاجتماعي.
إهتمام المؤرخ التقليدي السوداني بفكر الهويات القاتلة و إهماله لفكر الحريات هو المسؤول من إنتاج سياسي سوداني كاسد لم يقدم غير تصورات فتحت على فكر لا علاقة له بقضايا عصرنا الراهن أي قضايا مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية مثل إهتماهم بفكر هووي صاخب نجده في مدارس وهمية مثل الغابة و الصحراء و العودة الى سنار و مدرسة الخرطوم و أبادماك و قد أصبحت وكر و كمين ينام في خنادقه أتباع الشيوعية المقنعة و خطابهم المحابي لعلمانية محابية للخطاب الديني في توفيقهم الكاذب.
و بسببه قد تبدد فكر الحريات و بالتالي تجد السياسي السوداني يتحدث عن تحول ديمقراطي و يجهل أن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للفكر الديني و جهل المفكر السوداني أن الديمقراطية بديلا للفكر الديني يجعله يطرح فكر توفيقي كاذب مثل طرح العلمانية المحابية للأديان كما يتوهم الشيوعيين السودانيين و المساومة التاريخية و المؤالفة بين العلمانية و الدين أو مهادنة الطائفية و النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية و كذلك طرح لاهوت التحرير و كله بسبب لجلجة المفكر السوداني من مواجهة الخطاب الديني و تحديه و التغلب عليه كما يدعو لذلك كثير من المفكريين في العالم العربي مثل هشام شرابي الذي يدعو لعدم مهادنة الخطاب الديني كما يحصل عندنا في السودان أو ما نجده في فكر محمد أركون و ترسيخه لمفهوم الدين التاريخي الغائب من دفاتر فكر النخب السودانية العاجزة عن مواجهة الخطاب الديني.
علي أي حال يمكننا الإستفادة من فكر فلاسفة قدموا ثنائيات الحرية و القيمة داخل ثالوث العقل و الفرد و الحرية و ثالوث الفرد و المجتمع و الانسانية و هو فكر إجتهد فيه ادغار موران في فكره المعقد لكي يخلصنا من وثوقيات الماركسية و سياجات الكيزان الدوغمائية. و هذا الفكر يحتاج توطينه في ساحتنا السودانية أن تترك النخب السودانية عداءها للحضارة الغربية و حينها يكون حديثنا عن التحول الديمقراطي عقله و روحه عقل الفكر الغربي الذي جعل من الديمقراطية بديلا للفكر الديني.
و هذا يحتاج لمثقف يقف هناك حيث العقل لا يخاف كما كان عقل طه حسين من قبل خمسة و ثمانون عام عندما قال لا يمكننا مصارعة الغرب إلا عندما نؤمن بعقله و عقلانيته و به يمكننا مفارقة فكر الشيوعي السوداني المحابي للأديان في علمانية نقد و محاولات عبد الخالق محجوب الباحث عن دور للدين في السياسة و أيضا مفارقة المساومة التاريخية و المؤالفة بين العلمانية و الدين و فكر من خدعهم الكوز خالد التجاني النور في لقاء نيروبي عندما أعطوه شيك على بياض لكي يضع فيه أرقام ميزانيته الدينية كما فعل كل من كمال الجزولي و رشا عوض و النور حمد.
و ما كانوا صيدأ سهلا للكوز خالد التجاني النور إلا لأنهم يجهلون أن لا سبيل لمفارقة العقل التقليدي و الايمان التقليدي إلا بتبني فكر الحضارة الغربية التي يكرهها الصادق المهدي الذي يحابيه كل من رشا عوض و كمال الجزولي و الكل يعرف عداء الصادق المهدي للفكر الغربي و رغم ذلك نجد كمال الجزولي و الحاج وراق و جامعة الاحفاد يجتهدون في تخليد فكر الصادق المهدي التقليدي و تأبيد ايمانه التقليدي.
على أي حال كل المؤشرات تقول أن المعجل و المسرع كمفهوم يدركه الإقتصاديين و دارسي النظريات الأقتصادية لو شغلناه كمعجل في حقول الوعي يكشف لنا أن زمننا ترتفع فيه مستويات الوعي بشكل يفاجئ كل ذو ايمان تقليدي في السودان يظن بأن الديمقراطية يمكن تحقيقها بفكر ديني و خاصه المحابين لفكر الصادق المهدي سوف يتفاجؤن بإرتفاع وعي شباب ثورة ديسمبر كما تفاجاء الكيزان يوم إنتصرت ثورة ديسمبر و شعارها حرية سلام و عدالة و يومها قد أصبح الكيزان في حلقة عذاب شديد و هذا الذي ينتظر النخب السودانية المحابية للفكر الديني في السودان و نقول لهم أن النور يأتي من الغرب و أن الحضارة واحدة و لا غير الحضارة الغربية التي إختصرت تاريخ البشرية و السودان لم يكن يوما جزيرة معزولة عن العالم.

taheromer86@yahoo.com
///////////////////

 

آراء