السودان: أيام وعادات (1): بقلم: هنري سيسيل جاكسون .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
السودان: أيام وعادات (1)
من كتاب: Sudan Days and Ways
بقلم: هنري سيسيل جاكسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: نشر البريطاني هنري سيسيل جاكسون، والذي عمل في مجال الخدمة المدنية في السودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، كتابا يلخص تجربته في الحكم والإدارة، ويصف فيه عادات السودانيين في مختلف المديريات التي عمل فيها.
نشر الكتاب، والمعنون "السودان: أيام وعادات" Sudan Days and Ways عام 1954م من دار نشر ماكميلان في لندن، وأهداه المؤلف لزوجته، والتي قاسمته – كما قال- حلو الأيام ومرها، والحر والعواصف في سنوات خدمته في السودان. للمؤلف كتب عديدة عن السودان منها كتاب عن (السودانيون المحاربون)، وآخر عن (عثمان دقنة)، وكتب أخرى عن (السودان الحديث)، وعن (الزبير باشا تاجر الرقيق والسلطان)، و(راهب؟ على النيل) وكتاب عن سلطنة الفونج اسمه (سن النار). للمؤلف أيضا مقالات عديدة منها مقال عن (الأمثال السودانية) نشره في مجلة (السودان في رسائل ومدونات) قمت حديثا بترجمة ونشر أجزاء منه. في الفصل الأخير من كتاب (السودان: أيام وعادات)، والذي اسماه المؤلف (الوداع)، يصف المؤلف بعض ما صادفه في سنوات عمله من عادات "الأهالي" وتصرفاتهم. والسطور التالية هي نذر قليل مما جاء في هذا الفصل. المترجم
مع اقتراب فترة عملي في السودان على الانتهاء، بدأت أفكر – وبصورة أكثر جدية- في الأصدقاء الكثر الذين عملت معهم في هذه البلاد، وعن الذين خدموني بإخلاص لفترة قاربت ربع قرن من الزمان. كثيرا ما كنت أفكر في الصعوبات الجمة التي قابلها فريق الموظفين الصغار من الكتبة الذين عملوا معي تحت ظروف بالغة القسوة، وكانوا لا ينالون في نهاية كل شهر غير مرتب ضئيل لا يتجاوز 2 إلى 8 جنيهات. كم من المرات فكرت في أن ذلك المبلغ لا يكاد يفي إلا باليسير من احتياجات الحياة الضرورية، وأني لم أفعل ما فيه الكفاية لتخفيف أعباء الحياة عنهم. كان عملهم اليومي (قبل إدخال ماكينات الطباعة) والذي يتضمن كتابة الخطابات، ومسك الدفاتر، ومراجعة الحسابات، عملا ثقيلا مملا. ولم يكن لهؤلاء الكتبة أي نشاط ثقافي أو فكري أو بدني (رياضي) يشغل أوقاتهم. في المقابل، كانت لدي كمية معتبرة من الكتب المتنوعة، وما يشغلني في البحث والكتابة في أمور تاريخ البلاد وعاداتها وتقاليدها، وفي صيد الحيوانات البرية أو الطيور بغرض إدخال نوع من التنويع في قائمة طعامنا، والعزاء في التفكير في أن ما أفعله يستأهل التضحية.
يشيد كثير من الناس (حتى من بين المعادين للحكم الإمبريالي /الاستعماري) بإنجازات ذلك الإداري البريطاني الوحيد في أفريقيا. بيد أنه يجب أن لا ننسى مساهمات أولئك الكتبة الصغار الذين شاركونا في أوقات المرض والشدة، ولم تكن لديهم نفس الحوافز التي ألهمتنا، ولكن لولاهم لما تمكنا من الاستمرار في عملنا.
لقد بذل هؤلاء الكتبة جهد طاقتهم في العمل، رغم تواضع مستوى لغتهم الإنجليزية، والتي أدى سوء فهمهم لها في بعض الأحايين إلى نتائج غريبة. وأذكر هنا عامل التلغراف في سنار عام 1909م، والذي استلم تلغرافا لم يفهم منه شيئا، فقام من تلقاء نفسه بتعديل ترتيب الكلمات حتى لا ألومه على تلك الرسالة المشوهة.
كانت تلغرافات وكالة رويتر ترسل كل يوم إلى كل مكتب تلغراف في البلاد، وكان تمثل "نعمة" كبيرة للموظفين في المناطق البعيدة، والذين لا صلة لهم بالعالم الخارجي بغير تلك التلغرافات.
عدت ذات مساء لمنزلي البدائي بعد جولة صيد في العصر. كانت على طاولة معسكري جهاز صنع المياه الغازية sparkled siphon، وزجاجة ويسكي، وتلغرافات رويتر التي تلخص كل ما حدث في العالم ذلك اليوم. كان من ضمن الأخبار الواردة خبر مرض القيصر. أضحكتني البرقية التي كانت تقول حرفيا: " القيصر طريح الفراش مع المعزة. قضى جلالته ليلة مزعجة." كان تغيير حرف a إلى حرف u من الأمور "التافهة" التي لا يعيرها موظف التلغراف كبير اهتمام (يبدو أن موظف التلغراف غير تهجئة كلمة gout وتعني مرض النقرس بكلمة معزةgoat. المترجم!)
يجب أن نعترف بأننا مدينين بالكثير لخدمنا، رغم أنهم كثيرا ما يتسببون في إثارة بعض المشاكل لنا بسبب عنادهم، وخاصة في شهر رمضان، حيث كان عليهم تحمل إطعام وسقيا من لا يصومون بين شروق الشمس وغروبها. كانوا يستمتعون بعملهم ويخلصون فيه. عندما كان الخدم يخدمون فردا واحدا، فإنهم عادة يتراخون في العمل. كنت أعمل في مركز يتطلب أن أدعو فيه للطعام عشرات الضيوف ولعدة أيام متتالية. كان الخدم يحبون تلك الدعوات، ويبذلون فيها جهدا مضاعفا، وإلى وقت متأخر من الليل. كانوا يتباهون لخدم الموظفين الآخرين بما أنجزوه في ليلتهم السابقة، فيقولون مثلا بأنهم خدموا عشرين أو ثلاثين ضيفا "في بيتهم". كانوا يعتزون بحسن ضيافة مخدمهم (في الأصل سيدهم. المترجم) وكأن الثناء والفخر سيذهب لهم، ويقولون إن الدعوة "في بيتهم" أمها كذا وكذا من الناس! أذكر أني سألت ذات مرة في البيت عن قميص معين افتقدته، وأتتني الإجابة بأن "قميصنا" قد ذهب للغسيل.
لعل التباس تحديد مصالح وممتلكات"السيد" و"الخادم" هو الذي أدى إلى بعض السرقات الصغيرة، والتي ظللنا نغض الطرف عنها. لكني غضبت جدا ذات مرة عندما استدعت الشرطة للمحكمة في الخرطوم أحد الطباخين العاملين عندي لجرم اتهم بارتكابه. وجد ذلك الرجل في نفسه الجرأة في الظهور أمام المحكمة مرتديا حلة أكسفورد الرياضية التي ألبسها عند لعب الكريكيت. لا ريب إنه كان يود أن ينبه القاضي لمكانة مميزة يحملها عند مخدمه الإنجليزي، وأنه بلا شك بريء مما نسب إليه!
كان خدمنا يحبون الملابس الغربية، ولكنهم كانوا يرتدونها في أغرب الأماكن والأوقات. فمثلا كانوا يرتدون معاطف البرد الثقيلة الخاصة بنا في عز نهار الصيف ومقياس الحرارة لا يقل عن 116 درجة فهرنهايت في الظل (نحو 47 درجة مئوية. المترجم)، ولكنهم يخلعونها في الليل (حين يبرد الجو) بدعوى أن لا أحد يراهم بالليل وهم "يقشرون" بها! كذلك يدخل بعض الخدم في صراعات قبلية فيما بينهم ويناصر أفراد قبيلة الواحد منهم زميلهم، وإن جار على غيره من الخدم من القبيلة الأخرى. رغم ذلك فيجب على المرء أن يشيد بشدة إخلاصهم وتفانيهم في العمل، خاصة عند الخدمة تحت ظروف اضطرارية أو عاجلة، إذ قد يتعرض الواحد منهم لمواقف لا يواجهها الخادم الإنجليزي إلا بتقديم استقالته الفورية. كثيرا ما كنا نخطر الخادم السوداني قبل ساعة واحدة فقط من موعد وجبة العشاء بأن عدد المدعوين قد زاد من اثنين إلى أربعة عشر، فلا تسمع منهم إلا "حاضر أفندم"، وتجد أن كمية وافرة من الطعام قد أعدت، تكفي الجميع وتزيد، وفي الموعد المحدد تماما.
من أمثلة الإخلاص عند هؤلاء الناس، ما شهدته خلال العقد الأخير لخدمتي في حكومة السودان عندما كان يخدمني خادم من الشلك اسمه "بلال"، كان يخدم في الجيش برتبة عريف. وفي أثناء الحرب العالمية الأولي ضد الألمان في شرق أفريقيا كان بلال يعمل خادما لصيقا لضابط إنجليزي (باتمانBatman)، وحدث أن أصيب ذلك الضابط، فأبى بلال أن يفارقه، وأدي ذلك لاعتقاله كأسير حرب. كان يحكي لي، خاصة بعد عودتنا من جولة لصيد الأفيال في المنطقة، عن الأهوال التي صادفته في معتقله الألماني في تنجانيقا، حيث أمروا ببناء خط حديدي بها. كان الألمان ينتظرون حتى ينتصف النهار ويحمى الحديد، فيأمرون الأسرى بالخروج للعمل المضني في تركيب القضبان الحديدية. لم يؤهله أو يعوده عمله السابق مع الضباط الإنجليز لمثل تلك الأعمال الشاقة القاسية على يد الألمان. بلال الآن رجل عجوز وشبه كفيف، ويعيش في ملكال على معاش مستحق من الجيش، وعلى إعانة شهرية من صديق يسعده أن يقدم له تلك الهدية الشهرية. أتمنى أن يصل لبلال هذا خالص تقديري وامتناني على كل ما قدمه لنا ولبلاده.
كان العمل في السودان مثيرا، لا يكاد يخلو من المفاجآت. فقد يبدأ اليوم بصورة طبيعية روتينيه، ولكنه ينتهي نهاية غير متوقعة. فعلى سبيل المثال كنت أمثل حكومة السودان في عزاء أحد الشخصيات الدينية الهامة والمؤثرة في البلاد. وصلت لمكان العزاء عند التاسعة صباحا لأجد أن مراسم التشييع لم تكتمل بعد. أدخلت لغرفة خاصة مليئة بنحو درزنة (دستة) من الشيوخ الحزانى الذين جلسوا صامتين وكأنما على رؤوسهم الطير. عادة ما يقضى وقت مثل هذا الانتظار في رثاء الفقيد وتعداد مآثره وأعماله التي قام بها خلال حياته. لكن هذه المرة لم يحر الشيوخ الحزانى غير الصمت، وأحيانا النطق بكلمات قليلة من قبيل: "الله يرحمه" و "الله يصبر أولاده". ربما كان اليوم حارا لا يشجع على كثرة الكلام، أو أن المعزين لم يجدوا في سيرة الراحل الكثير من الأعمال الصالحة ليذكروه بها. لا أكاد أذكر من معاملاتي مع ذلك الفقيد غير أنه زار مرة مفتشا إنجليزيا كانت له زوجة نحيلة الجسم جدا. ما أن خرج الرجل من زيارة المفتش حتى ضرب كفا بكف وهو يقول بصوت عال: "والله مسكين!" ثم أضاف : "سعادتو بقروشه دي كلها ما لقى ليهو واحدة غير دي!" بقينا في الغرفة صامتين نستمع في صبر لنواح النائحات وصراخهن حتى الساعة الحادية عشر حين أخبرنا بأن موكب الجنازة الآن جاهز للسير. لم نكن فرحين بمسيرة ثلاثة أميال تحت لهيب شمس ذلك اليوم وعلى رمال حارقة حتى المعدية، والتي ستنقلنا للشاطئ الآخر من النهر. أحاط ببيت الرجل آلاف المعزين ومئات النسوة اللواتي كن يهلن التراب على أجسادهن ويصحن ويولولن. أحضرت قوة دفاع السودان فرقة بدأت في عزف ألحان جنائزية بطيئة وأناشيد وطنية. تقدمت تلك الفرقة الموكب ومضت تسير ببطء قاتل جعلني أشك في أننا سنصل لمقصدنا النهائي في وقت قريب. لم تكن للمقطوعات التي كانت تعزفها الفرقة أي عناوين أو أسماء، وكانت تعطي أرقاما فقط. مضينا في المسيرة البالغة البطء لمدة عشرين دقيقة، حين بدأت الفرقة في عزف "رقم 17" (لعلها كانت أغنية الصيد الإنجليزية القديمة D' ye ken John Peel ، فبدأت المسيرة في الإسراع، ومضت الخمسة عشرة دقيقة التالية بسرعة نسبية . ما أن وضع الجثمان في مرقده الأخير حتى بدأت الفرقة في عزف "رقم 23"، وكان ذلك أمرا غير مناسب بالمرة، فالقطعة المعزوفة (والمفترض أنها قداس لراحة نفس الميت) كانت في الواقع أغنية غزل اسكتلندية قديمة عنوانها: "Stop your tickling, Jock!".
(يمكن أن تقرأ كلمات الأغنية هنا: http://www.rampantscotland.com/songs/blsongs_tickling.htm المترجم)
قال لي أحد الأصدقاء من السودانيين الشباب: "نريدك أن تعود للسودان لترى مقدار التقدم العظيم الذي حدث في البلاد منذ أن غادرتموها. السيارات، والطائرات، والكهرباء، والمياه النقية في أماكن كثيرة الخ الخ .." صمت برهة وقال بعد تفكر: "ربما لن يعجبك ذلك التغيير. بالتأكيد لو سألتني سأقول لك نحن الآن أكثر سعادة، ولكني لا أستطيع الجزم بأن أبي الآن أكثر سعادة عندما كان تحت حكمكم. لم يكن هنالك شيء اسمه "إضراب عن العمل" ولا "سياسة" تفرق بين المرء وأخيه في العائلة الواحدة. لم تكن هنالك حروب بين أبناء الوطن الواحد في الطرقات."
رغم ما يقال الآن، فيجب أن لا ننسى حالة الفقر المدقع التي وجدنا عليها البلاد، وحالة البربرية والهمجية التي تميزت بها بعض القبائل، والتي تقابلها حالة من الخير والطيبة عند مجموعات أخري. لن ننسى أبدا أن حالة الفقر العام في البلاد لم تمنع الناس الذين أتينا من بعيد لنساعدهم (هكذا! المترجم) من أن يكونوا لطيفين معنا وفي غاية الكرم. إن ما ينعم به الناس في السودان الآن هو نتاج لعمل مخلص دءوب قمنا به مع مجموعة كبيرة من السودانيين المخلصين لخدمة هذه البلاد، ويجب على الجيل الناشئ، والذي طالب ونال الاستقلال أن يضع ذلك في اعتباره (مع بعض الامتنان). نحييهم ونودعهم ونقول لهم ما يقوله أسلافهم: ابشر بالخير!
نقلا عن "الأحداث"