The Tranquil Sudan
Michael Langley مايكل لانقلي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لمقال صغير بقلم مايكل لانقلي نشر في المجلة البريطانية المحافظة اسبكتيتار/ المشاهد The Spectator، في عددها الصادر يوم 22 مايو 1947م. ولهذا الكاتب الرحالة كتاب عنوانه: "No Woman's Country, travels in the Anglo-Egyptian Sudan" عن رحلة قام بها في
بداية الخمسينيات إلى مختلف أقاليم السودان استغرقت تسعة أشهر. وصدر الكتاب (والذي يحتوي على ثلاثين فصلا) عن دار نشر The Philosophical Library بنيويورك، وطبع في بريطانيا في عام 1951م. وسبق لنا ترجمة صفحات قليلة من ذلك الكتاب تحت عنوان "دارفور مختلفة".
ويغلب على المقال المدح المفرط لحكومة العهد الثنائي، والنقد الحاد لمصر وأنصار الوحدة معها بالسودان. ولعل هذا الكاتب هو من ضمن البريطانيين الذين كما كتب د/ عبد السلام نور الدين "تغير مزاجهم وهم يشاهدون السودان الذي تولهوا بحبه بعد سفر الولاء والتحالف المتين مع بعض زعمائه، ورفع القواعد من بيوت الإدارة الاهلية، فخالوا أن وقت الرحيل عنه لن يأت قريبا. وفجاءة اهتزت الأرض وتحركت تحت أقدامهم بنهوض الحركة الوطنية بين عامي 1946و1954م، فانقلبت تصوراتهم عن السودان والسودانيين فأضحى الملاك شيطانا رجيما وبلاده جحيما."
المترجم
********* ********** ********
كانت هنالك عبر النيل الأزرق قبالة القصر ثلاثة تلال من جوالات الذرة البيضاء (غالب قوت أهل البلد) تزن نحو خمسين ألف طنا. وعلمت أن تلك الجوالات المرصوصة هي مخزن الحكومة الذي تدَّخره احتياطا ليوم ترتفع فيه الأسعار في الأسواق.
لا شك عندي أن السودان هو أرخص بلد في الشرق الأوسط، فتكلفة المعيشة به تعادل نسبة 75% من مستواها قبل الحرب (العالمية الثانية). وقد تتفوق القاهرة على مدن السودان في وفرة البضائع فيها، غير أن أسعارها في القاهرة أعلى بلا أدنى ريب. ففي الخرطوم تجد أن سعر الرغيف والأرز هوd 5، بينما يبلغ سعر الرطل الواحد من لحم البقر (والضأن أيضا) والأسماك d8 وd 612 (؟)، على التوالي. وتباع الدجاجة بمبلغ 2S، أما صندوق السجائر الإنجليزي فلا يزيد سعره عن 1S وd5. وفي بعض الأحيان تضج الصحف بالشكوى من تقنين صرف السكر (وهو سلعة تحتكرها الحكومة) والشاي والمشروبات الروحية والأقمشة. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بدأت حملة لفك احتكار الحكومة للسلع وتحرير أسعارها وتوزيعها. غير أن الرأي العام يركز هذه الأيام على الحفاظ على هيمنة الحكومة على تلك السلع المذكورة، والاستفادة من "صندوق تثبيت الأسعار Price Stabilization Fund " لتحاشي ارتفاع أسعار السلع المستوردة المشتراة بحسب أسعار الأسواق العالمية.
وليس في السودان البريطاني – المصري أي ضريبة على الدخل. ورغم ذلك فقد ظلت الميزانية متوازنة طوال السنوات الماضية، بل إنها سجلت فائضا في ثلاثة أعوام، كان الأول من نوعه منذ عام 1912م. وتقدر ميزانية هذا العام بـ 49 مليونا من الجنيهات المصرية (ج م). وتقسم التجارة الخارجية (وحجمها 21 مليون ج م) مناصفة بين الصادرات والواردات. والعلاج في المستشفيات مجانا في الغالب، وانخفضت معدل وفيات الأطفال إلى 78 (لكل 1000 مولود حي)، وتدنت معدلات حدوث الأمراض إلى عُشْر ما كانت عليه في عام 1900م. وفي ذات العام (1900م) كان عدد الأطفال في المدارس لا يتعدى 900، بينما سيدخل (الآن) نحو 90000 طالب مدارس بلغ عددها 1146. وأقيمت مدارس ثانوية يدرس فيها الطلاب ويقيمون بالمجان على حساب الحكومة.
وتلك هي صورة واحدة من صور البلاد. غير أن هنالك أيضا صورة مقابلة، ترى فيها منظرا ريفيا / بدويا، حيث يعيش ثلثا سكان السودان معيشة قبلية مسالمة، يزرعون أرضهم، ويرعون بهائمهم دون كبير صلة بالسلطات إلا في حالة حدوث خرق للقانون، أو إخلال بالنظام العام يفوق قدرة محاكمهم الأهلية على التعامل معه. فالتهمة التي دأبت بعض الجهات المصرية على ترديدها من أن الحكومة السودانية قد أهملت أو قصرت في رفاهية وتنمية السودان هي بلا ريب تهمة باطلة وادعاء فارغ. هو ادعاء فارغ لا يماثل في فراغه (ولا يدحضه) إلا القول بأن تلك التلال الهائلة من جوالات الذرة التي لا يقوم على حراستها أحد ما كانت ستكون موجودة إن كان هنالك سبب للتذمر أو مبرر للسخط الاجتماعي في أوساط السكان. وتلك الفرية المصرية غير المسؤولة لا تقل بشاعة عن تلك القصص التي أشاعها موسوليني حين غزا الحبشة.
أما العجب كل العجب فهو أن تجد، بعد قطع كل ذلك المِشْوَار في طريق الحكم الذاتي، قطاعا من السودانيين يؤيدون سياسة لا تؤدي للحكم الذاتي، بل وتعيق نيل البلاد لاستقلالها. يوجد الآن من السودانيين في القطاع الأعلى من موظفي الدرجة الأولى، و4400 في الدرجة الثانية، و1997 في رتبة (اسكيل) HI. بل إن نحو 83% من الوظائف الحكومية بالسودان هي الآن في أيدي السودانيين، فمنهم القضاة، وكبار المفتشين، (الإداريين)، وبعضهم أطباء ومدرسين ومهندسين. وهناك كثيرون يعملون كتبة يؤدون أعمالا روتينية بكل حماس وكفاءة دون أن يصيبهم ما حاق برصفائهم في الدول المجاورة من فساد غدا مشكلة حقيقة في تلك الدول. وكان قادة ومرشدو كل أولئك العاملين بالخدمة المدنية مجموعة صغيرة من البريطانيين لا يتجاوز عددهم 847 موزعين في مختلف أرجاء البلاد.
ما الذي يدعو لأن تظهر في هذه الأيام تخوفات وشكوك ظاهرية (apparent misgivings)، بينما تجرى الاستعدادات على قدم وساق لإنشاء جمعية مكونة من ستين عضوا، أعطيت لهم سلطات تشريعية وتنفيذية؟ تتطلب الإجابة على هذا السؤال بعض الشروح. لقد بدأ الأمر في سنوات الحرب العالمية الثانية عندما بدأ "الإمبرياليون" الغربيون، لدهشة كثير من السودانيين، في الحديث عن "تقرير المصير". وبالنسبة لمن لهم اهتمام بالسياسة في السودان (ولا أظن أن عدد هؤلاء يزيد عن 100000 في قطر يسكنه 7000000 نسمة) كان ذلك الحديث عن "تقرير المصير" مثار جدال وخلاف عميقين. كان هؤلاء الذين يولون بعض الاهتمام بالسياسة مختلفين على أية حال. فقطاع كبير منهم كانوا مسلمين (يمثلون حوالي ثلثي السكان) ويتبعون إما لطائفة السير علي الميرغني، أو السير عبد الرحمن المهدي. وكانوا – كما هو الحال في كثير من أقطار الشرق الأوسط – يفتقرون إلى مشاريع وشركات كبيرة تستوعب أعدادا كبيرة من المتعلمين، الذين لا يجدون غير الحكومة مكانا للتوظيف، بينما لا تستطيع الحكومة استيعاب كل هؤلاء، خاصة وأن الحكومة نفسها تحت إدارة ثنائية، بريطانية ومصرية.
وكان من الطبيعي أن ينتج عن تلك الأحوال حزبان سياسيان: حزب الأمة، والمتكون في الغالب من أنصار السير عبد الرحمن المهدي، ويجد تعاطفا محدودا من البريطانيين، وله إدارة قوية، وحزب الأشقاء، والذي يرعاه السير علي الميرغني في الخرطوم والنقراشي باشا في القاهرة، ويرأسه السيد إسماعيل أفندي الأزهري، والذي غادر القاهرة في يوم 22 مايو إلى نيويورك لعرض وجهة نظره في ضرورة وحدة وادي النيل. وقد يقول قائل بأن الأشقاء (والذين يأتي غالب مؤيديهم من الشمال والشرق) ما كانوا "يلعبون" في صف مصر إلا لإضعاف السيطرة البريطانية على البلاد. ويقول آخرون بأن ما يلقاه الأشقاء من تأييد يستمد قوته من السابقة التي أَرْسَتها السياسة البريطانية في الهند وبورما (تسمى الآن جمهورية اتحاد ميانمار. المترجم)، وأن السودان سيكون بحاجة إلى العون والمساعدة إذا غادرته بريطانيا، ويفضل أن تكون مصر هي من يمد اليد بذلك العون، ففيها الأيدي العاملة المدربة، والزوجات المتعلمات، والمشاريع الضخمة التي يخطط لها لحبس مياه النيل. أما حزب الأمة (والذي يأتي غالب مؤيده من الغرب والجنوب) فهو يدعو لحركة مهدية جديدة لن تجد صعوبة في حشد كل العناصر للوحدة الوطنية حين قارب شعاره "السودان للسودانيين" على التحقق.
إنني أرى أن الحزبين في هذه المرحلة الحالية ما زالا يتلمسان طريقهما في وسط جماهيرهما، وفي أوساط عامة الشعب أيضا. وإن حدث بينهما شقاق، فربما لم يكن ذلك من ضمن أهدافهما النهائية، بقدر ما هو في ولاءتهما المقسمة بين زعيمين مسلمين يكن لهما أتباعهما كل الاحترام.
لقد ظل السودانيون دوما خاضعين لقوة أعظم من قوتهم. وظل حزب الأمة يعمل ويسعى من الداخل لتقوية نفسه وكسب مزيد من الأنصار، بينما ذهب الأشقاء – مع مصر – يصطادون في "ليك سكسيسLake Success " (Lake Success هي مدينة في مقاطعة نيويورك، ولا أدري إن كان الكاتب كان يعرض بالأزهري وزيارته لنيو يورك. المترجم). كانت مهمة (الأزهري) هناك مهمة شاذة إن نظر إليها المرء من منظور وخلفية الخرطوم، إذ أنها لم تكن تمت بأدنى صلة للاحتياجات الحقيقية للسودان والسودانيين، وإنما تم حثه عليه وترتيبها له من قلة من الناس وأجنحة الحزب في القاهرة.
ورغم كل شيء، لم تستطع كل تلك التحركات أن تعكر صفو السلام في السودان. فهذه البلاد هي مثال لحكومة مخلصة منضبطة لا هم لها غير رفاهية شعبها. وليس لدى حزبي الأشقاء أو الأمة أي برامج سياسية أو إصلاحية تهدف لزيادة رفاهية الشعب. غير أن هذا هو كل ما كان ولا يزال يهم حكومة السودان، والتي تقوم الآن بتخطيط وتنفيذ عدد من المشاريع ممولة من "صندوق الاحتياطي العام" والذي أنشئ بإدارة حريصة من أموال مشروع الجزيرة (الذي أممته الحكومة) والسكة حديد والنقل النهري. وتدعم الحكومة البريطانية الآن خطة خمسية (عشرية بالنسبة للتعليم) بمبلغ 2000000 من الجنيهات الأسترلينية تقديرا منها لدور السودانيين في الحرب العالمية.
وإن أبرز ساسة السودان وأحزابهم السياسية نفس العزم والجدية التي تعمل بها الحكومة لخدمة الشعب ولمنحه الاستقلال في موعد محدد (مثلا عام 1960م) فيكسب الجميع بلا أدنى ريب. ويتطلب هذا بالطبع عقد اتفاقية جديدة مع السودان تبتعد عن الاتفاقية (المعدلة) بين بريطانيا مع مصر. ويعتقد كثير من المسئولين البريطانيين بالخرطوم أن هذا أمر ممكن، فالواحد منهم لا يتصور أن يقتلع اللوحة (اليافطة) التي كتب عليها اسمه في مدخل حديقته إلا بعد أن يستوثق من أن الخطط لمنح السودان استقلاله قد اكتملت وغدت فعالة ومؤثرة بالفعل.
alibadreldin@hotmail.com