السودان: مِـزاجُ ما بَعـد حِقـبَةِ الكُوْلـوْنيـالـية

 


 

 


أقرب إلى القلب:
أن المزاج الثقافي السوداني، لم يعد كما كان عليه، أي أنه بات أكثر تحرراً من هيمنة الموروث مع تقديسه ، فأسماء كثيرة وإن احتفظت ببريقها ، نسبة لأسبقيتها وعمقها كذلك، لم تعد تمارس سلطة على هذا الجيل بالقدر الذي كانت عليه في السابق ..
غسان عثمان
(1)
كتبَ الأستاذ غسان عثمان مقالاً حوَى من الأفكار أخصبها، ومن التحليل أعمقه، عن المشهد الثقافي وعن التحوّلات في السودان.
دعني بداية أقول، إني لستُ مخالفاً غسان فيما ذهب إليه، ولكن رأيت أن أسلط إضاءات ألقيها على بعض ما بدر منه ، وأزيد عليها إن نال ما كتبت، قبولاً عند بعض متابعي كتاباته الثرية . لا يكفّ غسّـان عن حفزنا للتفكير معه . تلك خصلة تحمد له ولبذله الفكري الجاذب. .
كون أن دولة "ما بعد الاستعمار" – بعبارة غسًـان- فقدتْ مشروعيتها ، قولٌ يختزل في نظري، الحراكَ التاريخي في نقطة زمنية آنية محدّدة ، فيما أرى التاريخ في حقيقته، مسيرة أطول زمنا وأكثر عمقا، وتتجاوز أجيالا عديدة، تتالى وتتعاقب، وتحمل في أحشائها بذوراً للتغيير، قد لا يدرك الجيلُ الماثل وجهتها. فقدان مشروعية تلك الدولة عندي، أمرٌ مؤقت. هنا بوصلة معطوبة ستفضي بالسفين إلى تأرجح بين وجهات متباينة، غير أنّ مصيرها ليس إلى غرق محتوم ، بل التيه في الرحلة وإن طال، فهو أمر مؤقت، وببذل واجتهاد ، فإن البوصلة ستأخذ السفين إلى سواحل الأمان. .
(2)
لا يبدو منطقياً أن نكتفي بنظرةٍ واحدةٍ، لمسيرة التحوّل في الوطن . بغَضّ النظر عن نجاحات أو اخفاقات نخب السودان السياسية والثقافية- فإن البلاد بتكوينها، هي جماع شعوب متعدّدة، تقيم في أمكنة متعددة السِّمات ، تخيّرتها عوامل خارجية، وتسير في طريق ما بعد مرحلة "الكولونيالية" ، قصد أن تشكّل هويتها، في مراحل قد تقصر وقد تطول. وإن مصاهر الهوية الجامعة ، رهينة بسلاسل طويلة من العنت والمعاناة ، أقلها ما نراه من اقتتال وتنازع وتصادم، بين الهويات الصغيرة المتشاكسة، داخل المكان المصطنع جغرافيا، والذي اقتطعته القوى "الكولونيالية" للبلاد، وفق مصالح وأجندات تخصّها ولا تخصّ البلاد. السودان الذي يمضي متعثراً نحو هويته المنشودة، هو في الأصل بقعة جغرافية "أقتطعتْ" من حزام "سودانيّ"، كان تاريخياً يمتد من سواحل البحر الأحمر شرقي القارة الأفريقية، وغرباً إلى سواحل افريقيا المطلة على المحيط. الدول القطرية التي نعيش في أكنافها، لم تولد إلا في اواخر القرن التاسع عشر، بتوافق قوى "إمبريالية" و"كولونيالية". أنظر لما فعلت اتفاقية "سايكس– بيكو" بالشرق الأوسط. هكذا تقاسم الأقوياء مصائر الضعفاء. .
(3)
إنّ الأمم لا تتشكّل حدودها إلا وفق قواسم مشتركة، وثقافات تخرج من رحم واحد. إن الترتيبات التي اختلقها بشر أقوياء، اصطناعاً وعسفاً، بوضع حدودٍ سياسيةٍ مثلما فعلوا بنا، وزرعوا الفتن قنابل موقوتة ، تنفجر واحدة تلو أخرى، بمثلما صنعوا حول مثلث "حلايب" بين السودان ومصر، أو منطقة "أليمي" بين السودان الجنوبي وكينيا، توميء بوضوح لخطل مثل هذه التقسيات الملتبسة . لو نظرنا للإتحاد الأوروبي ، سنرى في تاريخه، وعبر قرون محسوبة ، عنتاً ومواجهاتٍ واقتتالاً بين أطرافه ، شكّلت سلسلة من التضحيات التاريخية، وسالت فيها دماء غالية، من أجيالٍ تتالتْ عبر تلك الحقب الزمنية ، فانتجت نهاية أمرها، كيانات تبيّنت بوعيٍ تاريخي، تلك القواسم المشتركة التي تجمع، من تلك التناقضات التي تفرّق ، فبنت مصائرها على ذاك النسق..
لكن هل مكتوب لنا، أن نكابد صراعات شبيهة، ومصادمات مدمرة مثل التي عاشتها أوروبا، حتى نصل إلى تماسكٍ يحفظ البشر والأرض. . ؟ هل علينا أن نخترع الدراجة من جديد لنصل إلى تماسكٍ شبيهٍ بتماسك قارة أوروبا، والذي وصلت إليه بعد حروبات وأنهار دماءٍ متصلة ، آخرها الحربين العالميتين في 1917 و1945. . ؟؟
(4)
لأغراض التحليل - كما قد يلاحظ القاريء- فإني أعتمد لظاهرة "الإستعمار" لفظاً أقرب لطبيعة الظاهرة ، وأرمي خلال ذلك، للتركيز على محمولاتها السلبية ، لا الإيجابية، والتي قد تتصل بالمعنى القرآني : " واستعمركم في الأرض.." إلى آخر الآية. أقترح أن نعتمد لفظ "الكولونيالية" ، برغم شبهته البعيدة كمصطلح لاتيني غريب على اللغة العربية. لكن ما المانع، وقد أجزنا مصطلحاً مثل مصطلح "الإمبريالية" ، وصار شائعاً راسخا. .؟
لحريّ بالشبكة العنكبوتية، أن تقودنا لإزالة كلِّ سياجٍ تبنيه لغة حول قواميسها. .
(5)
إن دولة "ما بعد الكولونيالية"، المرتبطة بنيل الإستقلال تحرّراً من الاستغلال، قد أفضت بالنخب التي تولتْ أمورها، إلى الاحتفاظ بـ"اللعنة الكولونيالية" التي حملتْ نظرة استعلائية لثقافاتنا الأفريقية، فتجد تلك النخب قد ورثت من الوجود "الكولونيالي" الآفل، ذات النظرة الاستعلائية بدرجات متفاوتة، ولكنها دفعتهم إلى إعلاء الإنتماء الثقافي المتجه نحو الانتماء العربي، فور استقلال البلاد عام 1956. لقد غاب عن نظر تلك النخب (وهم من جيل ما بعد "الكولونيالية" وقد عايشوا الظاهرة بسلبياتها)، وقد تولوا أمر البلاد بعد أفول الوضع "الكولونيالي"، غاب عنهم إدراك حقيقة ثقافاتنا الأفريقية برسوخها في الأرض، قبل قدوم الثقافة العربية الطارئة عليها. نلاحظ أن العلوم الاجتماعية والإنثروبولوجيا الإجتماعية تحديداً، هي التي أرست عبر دراسات أنجزها علماء أوربيون، حقيقة ناصعة وهي أن لشعوب القارة الأفريقية ثقافاتها ومنتوجها الفكري المادي والروحي، الذي يقف كتفا لكتف مع مافي الحضارات الأخرى من نظم شبيهة . ذلك ما حمل المفكر الفلسطيني الراحل "إدوارد سعيد" لفضح عملية "الإستشراق" وإثبات خطل طروحاتها. وصلاً لهذه الملاحظة، فقد ازدهر علم الانثروبولوجيا الإجتماعية من دراسات أساسية أجراها علماء في دراساتهم للمجتمعات التي وصمت سابقا "بالتخلف" في القارة الأفريقية والأسيوية وفي أستراليا. وإنك لتجد علماء إجتماع مثل "إيفانز- بريتشارد" و "ناديل" في مجتمعات القارة الأفريقية، وتحديدا في بعض أنحاء السودان ، جنوبه الاستوائي وغربه في جبال النوبة، ساهموا بدراساتهم عن تلك المجتمعات، في إرساء قواعد متينة للأنثروبولوجيا الإجتماعية. أثبت هؤلاء العلماء أن فضاء تلك الشعوب، لم يكن فضاءا خلواً من ثقافات تخصّها .
(6)
إنه لممّا يؤسف له، أن لا تتنبه النخب الوطنية في السودان، والتي تولت الأمر بعد خروج "الكولونيالي"، فنجدها قد عجزت عن التعرف على القواسم التي تجمع ولا تفرّق، بين مختلف تكويناتها في البلد الذي إسمه "السودان". غير أني أرى أن ذلك الوعي المنشود، هو ممّا يتأتى عبر زمان أطول، وعبر أجيال تأتي وتتعاقب، وعبر معاناة وصدامات وصراعات، حتى تنجز شكلا يحفظ تماسكها . يكفي أن السودان عاش من المعاناة والصدامات بين أعراقه وقبائله ، بما أكد أن زرقاء اليمامة ستعجز أن تتبين الشجر من الجيوش الزاحفة. . إن الطريق طويل للغاية كي تتشكل في نهاياته الافتراضية، هوية جامعة. ستظلّ هوية البلاد تتأرجح بين انتماء عربي إسلامي وانتماء أفريقي، لا يزال في رحم الغيب ، كيف سنصل بعد أجيال من التصاهر والتمازج، إلى مرحلة من مراحل الطمأنينة الثقافية، التي يمكن أن تجنبنا شرور التنازع وقتل بعضنا البعض. كم بلغت حقب التصادم والإقتتال في القارة الأوروبية، حتى وصلتْ إلى مرحلة التماسك : ستة قرون، أو سبعة..؟
(7)
تنتظرنا مسيرة تبنى على التعاون والتشارك، من أجل العثور على الشفرة الثقافية التي قد تحقق التماسك والوحدة ، في وجه التفكك والعداوات والتصادم. أرى غسان محقاً فيما ذكر، إلا أن المسيرة لن تقاس بالأيام أو السنوات أو حتى القرون. إننا لن نخادع أنفسنا ، بل أن مسيرة هذا التعاون الذي يفترض أن يشكل التماسك المنشود للمجتمع، ستمر قطعا عبر أجيال وأجيال . هو التحليل وحده الذي يحملنا إلى الفصل بين الفرد – فاعلاً كان أم خاملا- ويحكم حراكه الاختياري وشروط المجايلة، وبين ذلك الكيان المجتمعي، المحكوم بمؤثرات أكثرها خارجي، مثل تلوّث البيئة أو التصحر أو ضمور الموارد أوالإنبعاث الحراري، ثم هو الكيان المستدام الباقي، فيما الفرد لتاريخه نهايات. الذي يكتب له أن يتعاقب ، وسط نجاحات وكبوات وإخفاقات ، ووفق منطق التاريخ، هو حصيلة بذلنا واجتهادنا، إذ التاريخ ليس إلى نهاية ، على الأقل تحت نظرنا الحالي . أنظر إلى عناوانين أنتجهما جيل في السودان، سعى لاستشراف مرحلة ما بعد "الكولونيالية": "كفاح جيل" لأحمد خير ، و"موت دنيا" للمحجوب وعبدالحليم . ألا ترى معي التماهي في العنوانين..؟
لقد فقدتْ أصواتٌ كانت مؤثرة قبل سنوات سطوتها، وتلاشى تأثيرها على الجيل الماثل الآن . تلك حقيقة تؤكد سلامة قولنا، ان التحوّلات تأخذ وقتاً أطول، وتتجاوز أجيالاً تتعاقب، تأرجحاً بين فشلٍ ونجاح، على أننا في النهاية سنصل إلى مرحلة السموِّ والبقاء الأمثل، برغم الارتطامات الماثلة . .

 

آراء