السياسة حول بائعات الشاي في الخرطوم … بقلم: طلحة جبريل
28 December, 2009
talha@talhamusa.com
في هذه اللحظات المحفوفة بالشكوك حول النوايا والأهداف في بلادنا ، أكتب حول ما سمعت وما قرأت خلال زيارة الى الخرطوم التي وجدتها في حالة سياسية أقرب ما تكون الى الاحتقان. احتقان تسببت فيها بعض المشاهد السوريالية وهذا هو بالضبط الذي يمكن أن يطلق عليه " العجب العجاب".
سأكتفي بمشهدين فقط .
في المشهد الاول نسمع باقان اموم وهو الامين العام للحركة الشعبية الشريك الأصغر في حكومة "الوحدة الوطنية" يقول إن مسيرة الاثنين الثانية كانت تهدف الى التعبير عن ابتهاج تحالف المعارضة بما تم انجازه من تفاهمات بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، والذين وصلوا الى مكان انطلاق المسيرة الثانية يعلنون إنهم جاؤوا للمشاركة في تلك المظاهرة في إطار الضغط على الحكومة لتعديل القوانين المقيدة للحريات.
وفي الحالتين تدخل التصريحات في إطار" التمنيات". باقان اموم " يتمنى" ان يتظاهر الناس ابتهاجاً بنتائج مفاوضات شارك فيها ولم تكن لها علاقة بالقوانين المقيدة للحريات، وأحزاب المعارضة "تتمنى" أن تؤدي احتجاجاتها لتعديل قوانين من طرف من تناصبهم العداء.
في المشهد الثاني يقول اركو مني مناوي الذي يحمل رسمياً لقب " كبير مساعدي رئيس الجمهورية" إنه لا يساعد في اي شيء ولا يؤثر في أي قرار، يقول ذلك في اجتماع حاشد عقدته أحزاب المعارضة في امدرمان ، ثم ينضم " كبير المساعدين" الى تحالف المعارضة للتظاهر ضد السلطة التي يفترض أنه شريك فيها.
لنضع المشاهد السوريالية جانباً ونتأمل حقائق الاشياء .
ثمة أزمة سياسية في بلادنا، ونحن على بعد أربعة أشهر من تنظيم انتخابات يفترض أن تنقلنا الى دولة مؤسسات.
أقول" أزمة" وأعني ما اقول من خلال ما سمعت وما قرأت بل وشاهدت أحياناً.
في المسيرة الاولى التي كان يفترض ان تسلم مذكرة الى البرلمان تطالب فيها بتعديل القوانين غاب قادة الأحزاب السياسية المعارضة ، وحضر بعض قادة الصف الثاني ، وتصدر المظاهرة بعض رموز الحركة الشعبية وتم ايقاف بعضهم، وسمع الناس لاول مرة هؤلاء يتحدثون وهم داخل سيارات الشرطة مع الاذاعات والفضائيات. والقادة الذين غابوا عن المسيرة ، يقولون أيضاً للفضائيات ان " ثورة شعبية" على وشك الحدوث. ثم شاهد الناس ، الناس انفسهم ، أن بعض الذين استمعوا اليهم يتحدثون من داخل أقسام الشرطة يجلسون بعد يومين حول طاولة مفاوضات رسمية، لايجاد مخرج للأزمة.
هل حدث ذلك ؟ نعم حدث.
وفي المسيرة الثانية أيضاً غاب قادة الأحزاب المعارضة باستثناء محمد ابراهيم نقد وعبدالعزيز خالد.
السؤال الذي يطرحه الناس في الخرطوم ، ويتقدم على ما عداه من الاسئلة، ماذا سيحدث قبل أن يتوجه الناخبون نحو صناديق الاقتراع في ابريل من العام المقبل؟
في السياسة لا يجوز التنجيم، بل المطلوب هو التحليل بناء على معطيات الحاضر، وتجارب الماضي. والتحليل الذي يمكن الاطمئنان الى نتائجه بناء على المعطيات المتوفرة والتجارب المؤكدة يمكن أن يفضي الى التالي:
*ستبتعد الحركة الشعبية عن تحالف المعارضة كل ما استطاعت أن تحصل على مكاسب من تنازلات السلطة الحاكمة في ثلاث قضايا، أن يتم الاستفتاء في وضعية " اللانفصال واللا وحدة" التي يعيشها الجنوب حالياً، باقرار حالة " انفصال" قائم بالفعل على الأرض عبر استفتاء تريد الحركة الشعبية أن يتم بالأغلبية البسيطة. والقضية الثانية أن تضمن ضم منطقة " ابيي" الى دولة الجنوب، بضمان تفوق المقترعين من قبيلة الدينكا على الذين سيتاح لهم التصويت من قبيلة المسيرية.
والقضية الثالثة أن تضمن استمرار تقاسم السلطة والثروة كما هو وضعها حالياً وبالنسب التي منحت الحركة الشعبية نسبة 28 بالمائة من السلطة و 50 بالمائة من عائدات النفط .
*ستقترب بعض أحزاب المعارضة أكثر واكثر من حزب المؤتمر الوطني ، وخاصة احزاب الامة والاتحادي الديمقراطي والمؤتمر الشعبي، قبل الدخول في معمعة الاستحقاقات الانتخابية، ولا أستبعد تحالفاً بين هذه الاحزاب الثلاثة وحزب المؤتمر الوطني في الانتخابات الرئاسية، مع " تنازلات" يقدمها المؤتمر الوطني في الانتخابات البرلمانية ، بحيث تصبح الرئاسة من المؤتمر الوطني ، وتتقاسم معه الأحزاب الثلاثة السلطة التنفيذية.
*ستجد قوى اليسار العريض والقوى الحديثة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ، نفسها في خانة المعارضة للنظام الذي سينبثق عن انتخابات ابريل. وفي حالة اشتداد الصراع بين هذه القوى والنظام ، يمكن أن تلجأ هذه القوى الى "الدولة الناشئة" في الجنوب للاسقواء بها، وهذه الحالة لن تقود الا لخيارين، إما بصدامات عنيفة في الشمال أو حالة حرب بين دولتين، كما كان الشأن بين اثيوبيا والسودان ، او بين ارتريا والسودان.
تبقى بعد ذلك قضية الموقف الاقليمي والدولي على مجمل هذه الاوضاع. على المستوى الاقليمي ، هناك مصر وليبيا عربياً، واثيوبيا وارتريا وتشاد افريقياً.
مصر تريد الآن ومستقبلاً أن تضمن حصة معتبرة من مياه النيل ، واذا ما استطاعت الحصول على هذه الحصة بعد أن تخرج "دولة" من ضلع السودان الحالي ، فإن ما سيحدث جنوب الوادي لا يهم ، خاصة ان مصر نفسها على أعتاب مرحلة حرجة، وهي تستعد لخوض انتخابات رئاسية صعبة ، تصطدم فيها مسالة " الارث" برغبة قوى أخرى في التغيير.
بالنسبة الى ليبيا فإن قضية " الأرث " ايضاً حاضرة ، والقيادة هناك وبعد أربعة عقود من السلطة استنفدت جميع تكتيكاتها، وحانت بالنسبة لها لحظة يجب التفكير فيها حول استمرار النظام، مع حظوظ أقوى للورثة، وطالما أن بلادنا ليس لها قول أو فعل في هذا الشأن، فإن ما يحدث عندنا بالنسبة الى ليبيا لا يهم ولا يعتد به أصلاً.
فيما يتعلق بدول الجوار الافريقي وهي اثيبويا وارتريا وتشاد ، من الواضح ان اثيوبيا ليست في حالة يتيح لها ان تؤثر في الوضع الداخلي في بلادنا بعد أن خلت فنادق اديس ابابا من المعارضية والسياسيين السودانيين، وهي الورقة التي اعتمد عليها الاثيوبيون منذ ايام الامبراطور هيلاسلاسي. اما ارتريا التي يحكمها نظام سياسي له سجل حافل في البطش الداخلي، وبعد ان لم تعد فيها بندقية واحدة من تلك البنادق التي كان شعارها " الانتفاضة الشعبية التي تسندها البندقية"، لا مجال لها في أن تؤثر في بلد يخطو خطوات متعثرة نحو دولة مؤسسات ديمقراطية.
تبقى تشاد ، وهي دولة وجدت نفسها داخل دهاليز السياسة السودانية عبر ما يحدث في دارفور، الى الحد الذي اعتقدت فيه انجامينا أن تغيير النظام في السودان لا يتطلب سوى ارسال شاحنات عسكرية متسللة الى امدرمان، وكان ما كان. وبالمقابل ظنت الخرطوم أن الوصول الى " القصر الرئاسي" قي تشاد ليس سوى مسافة تقطعها شاحنات مسلحة تعبر الحدود وتنطلق نحو ذلك القصر ، وكان ما كان.
يبقى بعد ذلك الموقف الدولي ، وهنا تتشابك وتتعقد الأمور.
امريكا ومعها اوربا تعتقد أن التطبيق الحرفي لاتفاقية نيفاشا هو الحل، لذلك هي تريد انتخابات" حرة ونزيهة" في ابريل لتصبح بمثابة بروفة لاستفتاء عام 2011 . ثم هناك الصين التي ترتبط حالياً بمصالح اقتصادية قوية مع بلادنا، وهي لاتريد سوى استمرار هذه المصالح، وهي تدرك ان مصطلحات مثل " ديمقراطية" و "مؤسسات" لا وجود لها أصلاً في القاموس الصيني ، وبالتالي فإن من يضمن المصالح الصينية سواء جاء من اليمين أو اليسار ، سيكون حليفاً لبكين.
إن أكثر من يلفت الانتباه في الخرطوم التي تركتها قبل ايام ، أن لا أحد يفكر أو حتى يعتقد بوجود " أغلبية صامتة" لا يسمع لها اي صوت وسط الضجيج الذي تعيشه سلطة حاكمة تملك كل شيء ، أو معارضة تفتقد تماماً لبوصلة تغيير لا تحدد كنهه.
تركت الخرطوم وبدا لي بكل وضوح أن السياسة في بلادنا لم تعد حقائق صراع وطني وإقليمي وعالمي وإنما أصبحت تعبيرات مشاعر فيها الحب والكره وفيها الإقبال والصد وفيها العطاء والحرمان وفيها النصيحة والنميمة بل ودخل فيها الحب والقتل، بل وحتى الاساطير والخرافات.
تركت الخرطوم مذهولاً ، عندما وجدت ان السياسة باتت تناقش حول جلسات بائعات الشاي في شوارع العاصمة المتربة. لم تعد هناك ليالي سياسية أو ندوات يحضرها الآلاف أو مظاهرات تشق هتافاتها عنان السماء كما كان الشأن في سنوات مضت، بل" بنابر" يجلس عليها اناس متعبون يتحلقون أمام نساء يبحثن عن رزقهن في العصريات والمساءات، يهرشون بين الفينة والاخرى لسعات الباعوض، الحشرة التي تؤكد أن بلادنا حالة سوريالية تنتصب في قلب افريقيا.
عن "الأحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1