الشمال والجنوب … الروليت الروسى !

 


 

 



تكاثرت وتشابهت  الأمثال التى تصف الصراع العبثى على جرف الهاوية ما بين الشمال والجنوب ، و(لعبة الروليت الروسى ) واحدة من تلك الأمثال والتوصيفات ، ففى هذه اللعبة المميتة يكون الرهان على الموت أو الحياة ، إذ يعمد الطرفان المتحاربان الى وضع طلقة واحدة فى الخزانة الدوارة للمسدس ثم يتبادل كل طرف وضع المسدس على رأسه بالتناوب ويضغط على الزناد فى رهان مميت وعبثى الى أن تصادف الطلقة رأس أحدهما فتصرعه ليفوز ويحيا الأوفر حظاً . ولعل هذه (اللعبة) لا تعبر بدقة عن واقع صراع النخب الحاكمة فى الشمال وفى الجنوب لأنها تفضى آخر الأمر الى موت وفناء طرف وفوز وأنتشاء طرف آخر، وهذا يجافى الواقع حيث النتيجة الحتمية لصراعنا السياسى الراهن هى موت الطرفين . وربما يكون توصيف (طبظ الأعين) أو (عض الأصابع) هو التوصيف الأمثل ، إذ يعض كل طرف على أصابع الآخر بأسنان من فولاذ بإنتظار من يصرخ أولاً ، ولكن للأسف ما من أحد يصرخ حتى الآن سوى المواطن الموجوع فى الشمال وفى الجنوب .
لقد آن الأوان أن ننفك من التعامل مع إنفصال الجنوب كـ (حالة عاطفية) أوجعت قلوب معظم أهل السودان وأطربت واراحت بعض (شذاذ الأفاق) ، فبينما الفئة الأولى تشرب أدمعها وتنشد (فيك من سحر الجنوب قسماته .. أنا إبن الشمال سكنته قلبى وعلى إبن الجنوب ضميت ضلوعى ) نجد الفئة الثانية تواصل قرع طبول الحرب كأنها ما أرتوت من الدم وما أكتفت من الخراب والدمار وتقطيع أوصال الوطن . آن الأوان أن ننفك من كل هذا ونسعى وراء الروابط السياسية والإقتصادية والإجتماعية التى تعزز وتوثق الترابط والنماء والتكامل المعافى بين شطرى الوطن ، علّ فى هذا سلوى للذين أوجعهم الإنفصال وزجر للذين أبهجهم تمزق البلاد. إن مفاتيح الحل لأزمات الشمال الإقتصادية والسياسية هى حتماً فى الجنوب والعكس صحيح ، وإذا نحينا جانباً التجاذب العبثى حول أسعار عبور البترول فإن الجنوب يمكن أن يمثل لإقتصاد الشمال المنهك سوقاً ذهبية على مرمى حجر – كما يجمع الكثير من خبراء الإقتصاد- وهو سوق إهتبلته كينيا وأوغندا فراحت خزائنهما تفيض من خيرات الإغراق السلعى للسوق البكر فى الجنوب .. من العمالة الى حبة البنادول الى جوال الأسمنت وحصى الخرصانة الى العربات المستعملة الى الدقيق والسكر والزيت والملح وكل السلع الأساسية وغير الأساسية التى لا يملك الجنوب منها سلعة واحدة .  حدثنى أحد القادمين من الجنوب أن جوال الأسمنت فى جوبا بلغ سعره مائة دولار وزجاجة المياه الغازية بما يعادل دولار وكيلو الطحنية بعشرين دولار ولورى الخرصانة بملايين الجنيهات ... كل هذا العائد التجارى كان من الممكن أن يصب فى خزينة الشمال المنهكة لو تجاوزنا نطح الصخر والعنتريات ، ولو قدمنا الرشد السياسى على سياسات الزعيق والهتاف الأجوف . وبالمقابل نجد إقتصاد الجنوب يحتضر فى فراش الموت جراء قفل (البلوفة) النفطية وهو يجارى الشمال فى رهان (الروليت الروسى) وطبظ الأعين وعض الأصابع .
إن حزام التماس بين الشمال والجنوب والذى يمتد لآلاف الكيلومترات ويعيش فيه ثلث السكان فى كلا الجانبين كان من الممكن أن يكون نواة لإقتصاد مشترك ومعبر للتبادل السلعى والتجارى بين البلدين ، مما يعزز ثقافة السلام عبر المصالح المشتركة ويحفظ جينات التلاقح الإجتماعى والثقافى والقبلى بين أهل التماس الذين يقتفون أثر مواشيهم فى حلها وترحالها غير عابئين بحدود تُرسم على الورق فى الخرطوم وجوبا. إن هذه المعادلة المثلى لن تتحقق إلا برشد الحكم وإعلاء صوت العقل والكف عن دعم وكلاء الحروب وأمرائها .
لقد حذر كثير من خبراء السياسة من النموذج (الأثيوبى – الأريترى) بكل ما فيه من إجترار للثأرات القديمة والتوتر والإحتقان ، ولعل هؤلاء الخبراء يأملون ويشطحون الى نموذج الإنفصال المخملى بين الشيك والسلوفاك ، وهذا أمل وحلم فى تقديرى بعيد المنال فى الوقت الحاضر لأن الشيك والسلوفاك كانا أذكى وأنضج من إضاعة الوقت والأوطان فى الروليت الروسى وطبظ الأعين وعض الأصابع .
fadil awadala [fadilview@yahoo.com]

 

آراء