الصراع والتصدع داخل السلطة
1
أولا : ملامح التصدع والصراع
+ تجدد الصراع القديم الذي تجلي في تصريحات صحفية كثيرة اربكت المشهد السياسي والمؤسسية داخل كل من المجلسين السيادي والوزاري الذي يجب أن يكون لكل منهما ناطق رسمي يعبر عن رأي كل من المجلسين ، بدلا من الفوضي الضاربة بأطنابها في تصريحات كثيرة تعكس الأزمة والفشل والصراع داخل مكونات السلطة الانتقالية بشقيها العسكري والمدني ، تجلي ذلك بشكل كبير في الذكرى الأولي لمجزرة فض الاعتصام وارتفاع حدة المطالب بالقصاص للشهداء ومتابعة المفقودين، ومحاولة القاء شماعة فشل الحكومة علي الآخرين، وتكاثرت التصريحات حول مجزرة فض الاعتصام في استباق لنتيجة التحقيق لتبرئة مكونات التحالف العسكري الذي ساهم في المجزرة، كما وضح من المقابلة التي أجرتها (قناة سودانية 24) مع قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي اتهم أطرافا في السلطة الانتقالية في البلاد بالتآمر علي قوات الدعم السريع و " شيطنتها"، ونفي ارسال قوات " مرتزقة " الي ليبيا، وأشار الي أن حزب المؤتمر الوطني المنحل وأحزابا محسوبة علي ق.ح.ت الشريكة المدنية تقف خلف المؤامرات ومحاولات " الشيطنة" التي تتعرض لها قوات الدعم السريع، وتخوف دقلو من وجود تآمر عليه بتحميله مسؤولية فض الاعتصام ( صحيفة الشرق الأوسط 26 /5/2020).
+ أما الفريق ياسر العطا فيقول في تنوير بالمنطقة العسكرية ببحري: "لن نسلم السلطة ل(قحت) طالما بها الحزب الشيوعي وحزب البعث ، وهذه الأحزاب ليس لها قبول اقليمي ودولي، وهناك خيارات كثيرة وقطعنا فيها شوطا كبيرا"، مما يشير لتدبير شئ في الخفاء، فما هي هذه الخيارات؟، علما بأن "الوثيقة الدستورية" حددت الفترة الانتقالية بثلاث سنوات بعدها يتم تسليم السلطة لحكومة منتخبة، فلا دخل ولا وصايا للعسكر بمن يفوز فيها من الأحزاب!!، مما يعزز التخوفات أن انقلاب اللجنة الأمنية جاء ليقطع الطريق أمام الثورة، ولن يسلم السلطة لحكم مدني ديمقراطي. كما جاءت تصريحات الفريق الكباشي ليعزز ذلك الاعتقاد في عدم تسليم السلطة ، في مخاطبته لدي قيادات عسكرية وقبلية في كادوقلي التي رفض حديث العودة للثكنات واعتبره " كلام فارغ"، تساءل ( لو عدنا في زول بحكم تاني) ، واقسم أنهم ساعة لن يحكموا، علما بأن حكم العسكر استغرق 53 عاما من عمر الاستقلال البالغ 64 عاما فقدت فيها البلاد أجزاء عزيزة من الوطن مثل : اغراق حلفا ، وتعميق حرب الجنوب أيام الفريق عبود، وترحيل الفلاشا وفقدان السيادة الوطنية، وتصاعد الحرب والكراهية بعد قوانين سبتمبر 1983 مما عزز التيارات الانفصالية أيام الديكتاتور نميري، وانفصال الجنوب، وفقدان أراضي عزيزة من الوطن، حلايب وشلاتين والفشقة أيام الطاغية البشير، التي خلفت التوترات الحالية في الحدود الشرقية مع اثيوبيا .
+ جاء تجميد حزب الأمة لنشاطه في ق.ح.ت واشتراط قبول "العقد الاجتماعي" الذي قدمه ليضيف بعدا جديدا لأزمة مكونات التحالف الحاكم، ويعيدنا لمربع قطع الطريق أمام وصول الثورة لأهدافها بالاستمرار في اقتصاد السوق سبب الأزمة والثورة ، ودعوة تجمع المهنيين لتكوين حزب. الخ، والانتخابات المبكرة أو الانقلاب علي الثورة ، بالتعاون مع الإسلامويين بمختلف اشكالهم من إخوان مسلمين ووطني وشعبي. الخ، وهم الذين قامت الثورة ضدهم بعد فسادهم ونهبهم لأصول وأموال وممتلكات البلاد باسم الدين.
+ تجددت الدعوات لتكوين حزب جديد للشباب الذي قاد الثورة ، أو حزب للجان المقاومة أو حزب للثورة، أو حزب لتجمع المهنيين ، وهي دعوات ليست جديدة ولم يُكتب لها النجاح ظهرت بعد أكتوبر 1964 مثل : تحويل جبهة الهيئات التي قادت الثورة والاضراب السياسي العام والعصيان المدني الي حزب سياسي ، وتكوين حزب للوسط بين اليسار واليمين، كما دعا لذلك المرحوم ابو القاسم حاج حمد، وفشلت تلك الدعاوي لسبب بسيط أن جبهة الهيئات كانت تحالفا نقابيا واسعا ضم كل اطياف القوى السياسية والنقابية، والوسط ليس طبقة اجتماعية فهو متباين المنطلقات الفكرية والسياسية، ويضم التيارات اليسارية واليمنية، عكس الحزب السياسي الذي يقوم لضرورات واحتياجات موضوعية والذي يعبر عن مصالح طبقة اجتماعية محددة وله دستوره وبرنامجه ومنطلقاته السياسية والفكرية وشكله الهرمي المعين ، وكذلك بعد ثورة ديسمبر 2018 ظهرت دعوات تحويل تجمع المهنيين لحزب سياسي أو تحويل لجان المقاومة أو شباب الثورة لحزب سياسي ، علما بأن تجمع المهنيين ولجان المقاومة والشباب متباين المنطلقات السياسية والفكرية والاجتماعية ، وليس طبقة اجتماعية، بل الشباب فئة عمرية متجددة، فكيف يتكون حزب منه؟!!.
فمن أراد تكوين حزب سياسي، وهذا من حقه، عليه أن يستند علي قوى اجتماعية وبرنامج ودستور ومنطلقات فكرية وسياسية، وأن يبتعد عن استغلال اسم الشباب أو الثورة التي شاركت فيها كل القوى الثورية التي تحملت أعباء النضال ضد النظام،أو لجان المقاومة التحالف القاعدي المتباين في منطلقاته السياسية والفكرية.
2
ثانيا: ما هي أسباب الصراع والتصدع في التحالف الحاكم؟
يرجع ذلك الي انقلاب اللجنة الأمنية للنظام البائد الذي جاء ليقطع الطريق أمام وصول الثورة لأهدافها ، وقيام الحكم المدني الديمقراطي ، واسفر التفاوض الذي تمّ بضغوط داخلية وخارجية عن "وثيقة دستورية "معيبة حددت العلاقة بين المكون العسكري والمدني ، وجعلت كفة العسكري الراجحة، وتراجع دور المكون المدني الذي أصبح دوره هامشيا، بل تغول المكون علي العسكري علي بعض صلاحياته.
كما استحوذ المكون العسكري في السيادي حسب " الوثيقة الدستورية" علي 5 في المجلس السيادي، وحق تعيين وزيري الداخلية والدفاع ،وعلي تكوين مفوضيات مهمة ( السلام – الحدود – الدستوري والمؤتمر الدستوري- الانتخابات)، وتقنين مليشيات الدعم السريع دستوريا، والاشراف علي الاصلاح في القوات النظامية، واذا أخذنا في الاعتبار شركات الجيش والأمن والدعم السريع، والإعلام ، نرى أنه القابض فعليا علي السلطة، كل ذلك بحجة المحافظة علي الأمن ، لكن واقع الحال أكد الفشل في المحافظة علي الأمن، كما حدث في مجازر الأبيض و8 رمضان، ومجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة وبقية المدن، والصراعات القبلية في دارفور والشرق وجنوب كردفان، والمحاولات الانقلابية للفلول، والمسيرات المسلحة رغم حظر المؤتمر الوطني ، وحظر التجمعات بسبب " كورونا"..
رغم عيوب " الوثيقة الدستورية" المشار لها ، الا أنه لم يتم الالتزام بها، وتم خرقها كما في الأتي علي سبيل المثال لا الحصر:-
- رفض المكون العسكري ترشيح ق.ح.ت لمولانا عبد القادر محمد أحمد لرئاسة القضاء والاستاذ محمد الحافظ للنائب العام ، والتعديل في الوثيقة الدستورية لتعيين رئيس القضاء والنائب العام.
- تغول السيادي علي مهام في السياسة الداخلية والخارجية من صميم صلاحيات مجلس الوزراء
- تأخير تكوين التشريعي ، اضافة للمحاولة الأخيرة لتعديل نسب التشريعي التي تعطي قوى التغيير 67 % من 300 ، باعطاء الحركات المسلحة 30 % ، لتكون ال 67 % من 210 ليكون نصيب ق.ح.ت 141 ، أي أقل من النصف ، وهذا خرق واضح ل"لوثيقة الدستورية".
- تأخير تكوين المفوضيات والولاة المدنيين.
- لقاء البرهان – نتنياهو دون الرجوع للمؤسسات القائمة في مسألة قومية.
- طلب حمدوك لبعثة الأمم المتحدة تحت الفصل السادس دون الرجوع للمؤسسات.
- تغول السيادي في ملف السلام علي صلاحيات مجلس الوزراء الذي من مهامه " العمل علي ايقاف الحروب والنزاعات وبناء السلام" كما جاء في "الوثيقة الدستورية"، وخرق "الوثيقة الدستورية" في عدم تكوين مفوضية السلام ، والاستعاضة عنها بمجلس للسلام، وتوقيع اتفاق مع الجبهة الثورية أدي لتأخير تكوين المجلس التشريعي وتعيين الولاة المدنيين.
- لم يتم تحقيق السلام في الستة أشهر الأولي من تكوين الحكومة كما جاء في "الوثيقة الدستورية".
- خرق "الوثيقة الدستورية" في تعيين وزراء دولة ،علما بأن الوثيقة الدستورية نصت علي أن لا يتجاوز عدد الوزراء 20 وزيرا.
- الانتهاكات لحق الحياة كما جاء في وثيقة الحقوق في "الوثيقة الدستورية" بقمع المواكب السلمية مما أدي لشهداء وجرحى كما تمّ في مواكب الأبيض ، السوكي، واستمرار الانتهاكات في دارفور والشرق وجنوب كردفان. الخ.
-مع زيادة الأجور لم يتم وقف استمرار تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية والغلاء بتركيز الأسعار والسيطرة علي السوق وضبطه حتى لايبتلع الزيادات في الأجور، ومعالجة أزمة الشح في الدواء وارتفاع أسعاره وارتفاع سعر الدولار مع الانخفاض المستمر للجنية السوداني، رغم أن "الوثيقة الدستورية" أشارت لتحسينها ، ورغم المصفوفة والآلية الاقتصادية التي تمّ تكوينها.
- البطء في تفكيك التمكين واستعادة الأموال والأصول المنهوبة ، وعدم ضم شركات القوات النظامية والذهب والبترول والمحاصيل النقدية للمالية ، علي عكس ما جاء في "الوثيقة الدستورية".
3
ثالثا: الطريق لتصحيح مسار الثورة
قوى الثورة لا تنشغل بصراعات أطراف التحالف الحاكم بشقيه المدني والعسكري، ولا يهمها محاولة كل طرف التنصل من المسؤولية، وتحميلها للآخرين، لكن يهمها تصحيح مسار الثورة ، وتتحسس الطريق لتقوية وتمتين الاصطفاف الحديد لقواها من أجل:
- إعادة النظر في "الوثيقة الدستورية" التي شبعت خرقا وضربا بعرض الحائط ، والعودة لميثاق إعلان " قوى الحرية والتغيير" بعد أخذ المستجدات في الاعتبار، لصالح الحكم المدني الديمقراطي.
- الاسراع في القصاص العادل لشهداء مجزرة فض الاعتصام وغيرها ومتابعة المفقودين، و الاسراع في محاكمة منسوبي النظام السابق الذين ارتكبوا جرائم حرب وضد الانسانية
- الاسراع في تفكيك التمكين واستعادة كل ممتلكات وأموال الشعب المنهوبة، فما تمّ استرداده الظاهر من جبل الجليد من نهب أموال وممتلكات الشعب.
- الاسراع في تكوين المجلس التشريعي وتعيين الولاة المدنيين وتكوين المفوضيات
- تحقيق السلام العادل والشامل الذي يخاطب جذور المشكلة، وفق المنهج السليم بجلوس كل الأطراف من حركات وممثلي جماهير مناطق الحروب والمعسكرات واصحاب المصلحة لهدف تنمية واعمار تلك المناطق كما أوضحنا سابقا، وتمتين السلام والوحدة علي أساس "ميثاق الحرية والتغيير" والحكم المدني الديمقراطي، وعقد المؤتمر الدستوري في نهاية الفترة الانتقالية.
-تحسين أداء الحكومة ورفض رفع الدعم عن السلع الأساسية، وحل الضائقة المعيشية والاقتصادية التي ما زالت مستمرة في التفاقم ،وتركيز الأسعار وضبط السوق، ودعم الصحة بعد أزمة "كرونا"، والتصدى بحزم لنشاط تجار المؤتمر الوطني والرأسمالية الطفيلية القابضة علي السوق والبنوك وتجارة العملة بخلق أزمات السلع التموينية وتهريبها للخارج ، ورفع سعر الدولار رغم شح الاحتياج له بعد أزمة " كورونا" وتقلص التجارة الخارجية والسفر للخارج، وإعادة كل شركات الذهب والبترول والمحاصيل النقدية وشركات القوات النظامية لولاية المالية.
- التوجه للإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي ، وتأهيل قطاع النقل ، وتوفير فرص العمل للعاطلين، وسيطرة الدولة عن طريق شركاتها علي التجارة الخارجية من صادر ووارد مما يساعد في تركيز الأسعار ، والدخول في شراكات مع القطاع الخاص اضافة للقطاع التعاوني والقطاع الخاص المنتج في الزراعة والصناعة والإنتاج الحيواني بما يضمن تقوية الجنية السوداني، والسيطرة علي العملات الأجنبية وتحديد بنك السودان لسعرها ووقف تجارة السوق السوداء أو الموازي فيها.
- التصدى بحزم للتخريب الذي تقوم به القوى المعادية للثورة في خلق الفتن القبلية في دارفور والشرق وجنوب كردفان ومدن الشمال ، وحرق المحاصيل. الخ ،بهدف زعزعة الاستقرار والأمن ، وتغذية النزعات الانفصالية في دارفور وشرق السودان ، وجمع السلاح وحصره في يد القوات المسلحة وتصفية المليشيات، والوقوف سدا منيعا ضد تنفيذ مخطط الاستيلاء علي ميناء بورتسودان.
- تقوية الإعلام الذي يتسم بالضعف وتواضع الأداء، فما زالت العناصر المعادية للثورة مسيطرة علي معظمه من صحف ورقية والكترونية وثبث سمومها وأكاذيبها الواضحة والمثيرة للضحك والتهكم.
- دعم استقلالية وديمقراطية الحركة النقابية ولجان المقاومة.
- التمسك باكمال الفترة الانتقالية ، و التصدي بحزم لدعوات الانقلاب والانتخابات المبكرة ومخطط نسف وفشل الفترة الانتقالية.
- الاسراع في إلغاء القوانين المقيدة للحريات وأهمها قانون النقابات لعام 2010 (قانون المنشأة) ، وسن قانون ديمقراطي للفئة يؤكد ديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، والقانون الجنائي لعام 1991 ، والرجوع لقوانين 1974 مع أخذ المستجدات في الاعتبار، والاصلاح القانوني والقضائي بما يؤكد سيادة حكم القانون واستقلال القضاء.
- إعادة هيكلة الشرطة وجهاز الأمن وإلغاء قانون الأمن 2010 ليصبح الأمن لجمع المعلومات ويخضع لسيادة حكم القانون وأن يكون التقديم له علنيا وفق المهنية وقوانين الخدمة النظامية، وتحقيق قومية ومهنية الخدمة المدنية والنظامية ، وحل كل المليشيات وفق الترتيبات الأمنية.
- ضرورة تعديل "الوثيقة الدستورية " لتصبح مسؤولية الأمن وتعيين وزيري الدفاع والداخلية من مهام مجلس الوزراء.
وأخيرا هناك ضرورة لاستمرار زخم الثورة والعمل الجماهيري المتعدد المستويات باعتباره الحاسم في تصحيح مسارها واستمرارها ونجاحها وتحقيق أهدافها.
alsirbabo@yahoo.co.uk