الصِّراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق وقضايا التغيير في السُّودان
shurkiano@yahoo.co.uk
لعلَّ المتتبع لجذور الحروبات الأهليَّة في السُّودان منذ العام 1955م ليجدنَّها أنَّها نشأت من مشكلات كان بالإمكان تلافيها بقليل من الحكمة والعقلانيَّة، أو معالجتها – بعد نشوبها – بشيء من الحنكة السياسيَّة. وذلك لأنَّ الحرب بعد استعارها من مستصغر الشرر، واستمرارها تتعقَّد أسبابها بظهور عوامل جديدة لم تكن في الحسبان منذ المبتدأ. والحرب أيَّة حرب لا تنشب اعتباطاً، ولا تنشأ جزافاً، بل لها أسباب ودواع سياسيَّة واجتماعيَّة. وفي الحال السُّودانيَّة حدَّد بعض الساسة هذه الأسباب، وحذَّر المراقبون السياسيُّون الحكومات بالحرب الوشيكة التي لا ريب فيها، ولكن عمت أبصار أهل الحكم، وتجاهلوا نصائحهم، واستكبروا استكباراً. فالأزمة التي نشبت بين الشمال والجنوب قبيل استقلال السُّودان حول مطالبة الأخير بالحكم الفيديرالي لإقليمهم، وما تبعها من فقدان الثقة، واحتقان سياسي، وانفراط عقد الأمن، سرعان ما تحوَّلت إلى حرب أهليَّة ضروس انطلقت شرارتها الأولى في توريت العام 1955م واستمرَّت 17 عاماً حسوماً. وطيلة هذه الفترة جرت مياه غزيرة تحت الجسر، وكشف أهل الجنوب عن تظلُّمات أخرى في القسمة الضيزي لوظائف الخدمة المدنيَّة التي ورثها الشماليُّون من الاستعماريين بُعيد عمليَّة السَّودنة، وإهمال تنمية الجنوب وتحويل المشاريع الاقتصاديَّة المخصَّصة له إلى شمال السُّودان، وإرغام التلاميذ الجنوبيين على التعريب القسري، والاعتناف في ممارسة الاضطهاد الدِّيني وغيرها، حتى انتهى هذا الصِّراع المسلَّح بعقد اتفاق أديس أبابا العام 1972م.
بيد أنَّ الاتفاق إيَّاه قد شاءت الأقدار السُّودانيَّة أن يدوم حوالي حقبة من الزَّمان. ومن بعد ظهرت بوادر التشقق في الجدار الوطني من جديد، ومع ذلك لم تعدم الحال السُّودانيَّة ممن يبوِّق صفارة الإنذار المبكر. فقد قدَّم النائب الثاني لرئيس الجمهوريَّة اللواء جوزيف لاقو تقريراً مكتوباً عن الوضع الأمني المتدهور في شرق محافظة أعالي النيل ومحافظة جونقلي لرئيس الجمهوريَّة المشير جعفر محمد نميري. إذ جاء في تقريره أنَّ إهمال التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في المناطق الحدوديَّةالمشتركة مع إثيوبيا، بينما قامت السلطات الإثيوبيَّة بتنمية جانبها، قد أثَّر على سلوك القبائل المحليَّة التي تسكن جانبي الحدود، مما جعل بعض القبائل السُّودانيَّة يرى بأنَّه من الأفضل الانتماء إلى إثيوبيا بدلاً من البقاء في السُّودان. هذا ما كان من أمر إحباط الناس الذين ظلوا يرنون إلى الشمال من أجل تحسين معاشهم منذ العهد الاستعماري، بينما علَّقت قبائل الإستوائيَّة آمالها بشرق إفريقيا. وهل كان هناك من هو أدرى وأعلم بأوضاع الجنوب وأهله غير اللواء لاقو نفسه وهو الذي كان قائداً للتمرُّد الجنوبي حتى وقَّع اتِّفاق السَّلام مع الحكومة في الخرطوم؟ ومما زاد الأمر سوءً القهر الاجتماعي الذي تمثَّل في مطاردة واعتقالات أبناء الهامش في المدن الاقتصاديَّة وإرجاعهم إلى أقاليمهم التي نزحوا منها، وتطبيق ما أسموه قوانين أيلول (سبتمبر) 1983م، التي عُرِفت تلطُّفاً ب"العدالة الناجرة"، والتي استهدفت شرائح اجتماعيَّة مسحوقة من أهل الجنوب والغرب، ثم تمَّ خرق اتفاق أديس أبابا الذي طالما حفظ السَّلام حتى ذلكم اليوم، وتغيير حدود المحافظات حتى تبقىحقول نفط الجنوب في الشمال. ومن ثمَّ اضطربت الأحوال الأمنيَّة في الجنوب بتمرُّد حاميات بور وبيبور وأيود، مما أحال الأوضاع إلى حرب أهليَّة حُسِم أمرها بالتوقيع على اتفاقيَّة السَّلام الشامل العام 2005م.
أما عن إقليم دارفور فإنَّه ليس من المبالغة في شيء إذا أكَّدنا بأنَّ قضيَّته قد باتت تأخذ عنصر الصِّراع المسلَّح منذ أوائل الثمانينيَّات من القرن الميلادي، وذلك بعد الجفاف الذي ضرب قطاع السافنا الفقيرة، ومن ثمَّ أربك الهياكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة في الإقليم، وتعرَّضت أحوال الناس إلى العصبيَّات وتغلُّبات بعضهم على بعض، وتدهورت أعمالهم ومساعيهم في الكسب والمعاش. ومتى ما تدهورت الظروف الاقتصاديَّة أعقبتها دوماً خطوب أمنيَّة، ومن غير تحكيم النَّظر والبصيرة تنزلق حياة الناس إلى التوحُّش، ويتحوَّل التآنس إلى التباعد. كان الوضع الاجتماعي في ذلك الرَّدح من الزمان يتطلَّب حسن النَّظر والتدبُّر اللذان يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المذلات والمغالط. غير أنَّ تدفُّق السِّلاح من الحرب الأهليَّة في تشاد المجاورة، وسهولة حركة القبائل ذهاباً وإياباً عبر الحدود المسامية المشتركة، وتواطؤ الأنظمة "الخرطوميَّة" مع مشكلات تشاد الداخليَّة دون سبرها بمعيار الحكمة، أو فرز الغث من السمين، أو تمييز الحق من الباطل، كل ذلك قد عمل على تغيُّر الأمور، وأثَّر على نمط المعيشة. فالاحتكاكات القبليَّة التي أخذت تدور في هذا الإقليم بين العرب الرعاة الجائلين في القفار من طرف، والمزارعين المستقرِّين ممن أسموهم الزرقة من طرف آخر حول المراعي الخضراء، وموارد المياه، ومسارات الحيوانات وسط الحقول وبين البساتين، ومالت الحكومة إلى العرب وأغدقتهم بالسلاح، وحمتهم بالتغطية الأمنيَّة والإعلاميَّة إذ إنَّما تحوَّلت إلى حرب أهليَّة ابتداءً من العام 2003م. وقد صاحبت هذه الحرب تجاوزات إنسانيَّة ترتعد منها الفرائص، مما أوصل الأمر إلى محكمة الجزاء الدوليَّة. فنظام "الإنقاذ" حينما جاء أشرف على مؤتمر صلح في دارفور كان قد أعدَّت له حكومة الصَّادق المهدي المخلوعة، ولكن بعد سنين عدداً أضرم أهل "الإنقاذ" النار في دارفور لتلتهم بنيها في مأساة إنسانيَّة قاسية، ويتم تشريدهم في معسكرات داخل الوطن وخارجه، وذلك بعد أن فقدوا ممتلكاتهم وأراضيهم، وانتُهِكت أعراضهم.
مهما يكن من شيء، فمع تجدُّد العدائيات في ولايتي جنوب كردفان في حزيران (يونيو) 2011م، والنيل الأزرق في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه طفق الناس يتساءلون لِمَ استعرت الحرب بعد مضي أقل من حقبة من السَّلام؟ ومن المسؤول عن تفجيرها؟ وعمَّ يتحارب السُّودانيُّون من جديد بعد أن ظنَّ الناس أنَّ اتفاقيَّة السَّلام الشامل الموقَّعة العام 2005م قد خاطبت جميع مشكلات الشجار وما بقي من طرفي الاتفاق – الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة – إلا أن يتوافقا على تنفيذ بنودها، وإنزالهاعلى أرض الواقع، وجعل الوحدة الوطنيَّة جاذبة؟ لم تكن حال ولاية جنوب كردفان العام 2011م تختلف عن النماذج المذكورة أعلاه. إذ لم يتطلَّب الأمر علم العرفان أو معرفة اليقين لكيما يدرك المرء أنَّ الأمور السياسيَّة والأمنيَّة أمست تسير بخطى مسرعة نحو هاوية الانفجار، مما بات يهدِّد مستقبل المنطقة السياسي والإداري.
فمن هذا المبتدأ يحاول كاتب هذه الصفحات – بين دفتي كتاب صادر حاليَّاً – أن يجاوب على هذهالتساؤلات التي ظلَّت تؤرِّق مضاجع المراقبين السياسيين للأوضاع في السُّودان. وقبل الإجابة على هذا التسآل تحدَّث الكاتب في الكتاب عن نضال قائدين من قادة جبال النُّوبة بإسهاب؛ والقائدان هما السلطان عجبنا ويوسف كوَّة مكِّي. ولعلَّ الأخير – بما ملك من عظمة الرِّجال، ورجاحة عقل، وفطنة الشخصيَّة لتقييم الناس والأشياء معاً – قد حقَّق للنُّوبة الفخر بأثنيتهم، والاعتزاز بأنفسهم في ظروف اسستثنائيَّة عسيرة. كان يوسف بطلاً. لكن، أتدرون لِمَ سُمِّي البطل بطلاً؟ فالبطل هو الشجاع الذي يبطل دماء أعدائه. فبقرار شجاع قاد القائد يوسف كوَّة مكِّي النُّوبة في حرب ضروس من أجل المساواة والعدالة والمشاركة في السلطة وتقاسم الثروة؛ تلك الحرب التي انتهت بتوقيع اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل العام 2005م بين الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان من جهة، وحكومة السُّودان المتمثِّلة في المؤتمر الوطني من جهة أخرى. ولكن بعد فترة سلام وجيزة استعرت الحرب كرة أخرى بسبب رفض حكومة المؤتمر الوطني الإيفاء باستحقاقات السَّلام المتمثِّلة في إعادة النازحين وتوطينهم، ووقف دعم الميليشيات القبليَّة المسلَّحة ومنعها من الاعتناف بالقبائل النُّوبويَّة، وإجراء انتخابات حرَّة ونزيهة، وإنشاء وتعمير المشاريع الاقتصاديَّة، وإعمار البنى التحتيَّة، وتوفير الخدمات الاجتماعيَّة وهلمجرَّاً.
بيد أنَّ تزوير الانتخابات الولائيَّة لصالح مرشَّح المؤتمر الوطني كان بمثابة قاصمة الظَّهر، ومع ذلك كانت الحكومة هي التي ابتدرت الحرب على المواطنين في منطقتي جبال النُّوبة والنيل الأزرق العام 2011م. فمن خلال التصريحات السياسيَّة لقادة الحكومة بما فيهم الرئيس البشير نفسه كان الوضع ينذر بوقوع كارثة أمنيَّة وسياسيَّة وشيكة في جنوب كردفان. فضلاً عن ذلك، شرعت السلطات الحكوميَّة في حشد عسكري وإمداد حربي إلى المنطقة، حتى أمست الولاية شبه جزيرة محاطة بمعسكرات قوات الحكومة وميليشياتها التي أخذت تتدفَّق على المنطقة. وما أن أذن لها قادتها بالهجوم على المنطقة حتى نفَّذت تعليماتهم على الوجه الدَّموي الذي شاهدناه. فقد أعجبتهم كثرتهم الكاثرة، وائتلافهم الشؤوم، وهجموا بغتة على النُّوبة ومن شبه لهم بأنَّه من أنصار الحركة الشعبيَّة، وحسبوا أنَّ ما هم عليه مقدمون سيُحسم أمره في خلال أسبوع، وذلك بما فيه تجريد قوات الجيش الشعبي لتحرير السُّودان من السِّلاح، ولله در الشاعر أبو الحسن الحدَّاد حين أنشد:
غزا حمانا العدوُّ في عددٍهم الدَّبى كثرة أو اللفف
عشرون ألفاً ونصفُها ائتلفوامن كلِّ أوب وليت ما ائتلفوا
جاءوا على غرَّة إلى نفرقد جهلوا في الحروب ما عرفوا
وها هو الكتاب يتطرَّق إلى قبس من تجاوزات حقوق الإنسان في هاتين المنطقتين من جراء قصف سلاح الطيران الحكومي وإطلاق المدفعيَّة الثقيلة والصواريخ على الأهداف المدنيَّة، ويستعرض المساعي المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة الدؤوبة لإيصال الإغاثة إلى المتضرِّرين من الحرب الأهليَّةالمستعرة، والجهود المبذولة من أجل الوصول إلى سلام عادل، واستقرار آمن، يحقن الدِّماء المهراقة، وذلك في ظل تعنت أهل الحكم في الخرطوم. والشيء الذي لا مُراء فيه هو أنَّه ليس هناك أحد يملك أيَّة سلطة طبيعيَّة على أقرانه، وإذا كانت القوَّة القهريَّة وحدها لا تستطيع أن تفرض السيطرة على الشعوب، فإنَّ كل السلطات الشرعيَّة وسط البشر ينبغي أن تُؤسَّس على العهود والمواثيق، مع التأكيد على الالتزام بها، ووضع الضمانات العضويَّة للإيفاء بها. فالبشر – طبيعيَّاً – ليسوا بأعداء، لكن النِّزاعات تنشأ حول الأشياء، ولا نحسب الشجار بين الناس هو الذي يُعتبر حرباً، وحال الحرب لا تظهر من مجرَّد اضطراب في العلاقات الشخصيَّة، بل فقط من علائق حول الموارد الماديَّة، ثمَّ إنَّ الحرب لوسيلة ضغط ناجعة على الحكم المركزي المتسلِّط.
فمن خلال ارتباك العلاقات في الموارد الطبيعيَّة والسلطة السياسيَّة والإدرايَّة فجَّرت الحكومة السُّودانيَّة الحرب في ولاية جنوب كردفان، وأردفت أعجازها بأخرى في النيل الأزرق، ولا تزال تصرُّ في ديمومتها. ففي شهر تموز (يوليو) قصف سلاح الطيران الحكومي مقاطعتي أم دورين والبرام بإحدى عشر قنبلة عنقوديَّة، وهي من الأسلحة المحظور استخدامها دوليَّاً، حيث تمَّ حظرها بواسطة معاهدة الأسلحة العنقوديَّة العام 2008م. وبما أنَّ السُّودان ليس من الموقَّعين على هذه المعاهدة، إلا أنَّ هناك ثمة إجماعاً دوليَّاً بأنَّ استخدام هذه الأسلحة يعد أمراً غير مقبول. ولعلَّ رفض الحكومة السُّودانيَّة التوقيع على المعاهدة إيَّاها يعد انتهاكاً صارخاً للأعراف الدوليَّة، وبخاصة حين يكون الأمر متعلقاً بمواطنيها العزل. والأخطر في هذا كله هو أنَّ كل الهجمات التي تقوم بها القوات الحكوميَّة وميليشياتها المدعومة براً وجواً في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق تُنفَّذ في مناطق ليس فيها أي وجود عسكري للجيش الشعبي، بل هي مناطق معروفة بوضوح لا ريب فيه بأنَّها مواقع مدنيَّة. إذاً، فيم تسبَّب هذا القصف العشوائي الأخير في الولايتين؟
إنَّ القصف الذي قام به الطيران الحكومي في شهري تموز وآب (يوليو وأغسطس) الماضيين قد أدَّىإلى جرح امرأتين، وقتل 11 حيواناً وجرح ثمانية، وإحداث تخريب في منزلين، وتدمير بيت وسبع مظلات وثلاث مزارع. أما في المجال الإنساني، فقد تدهور الأمن الغذائي، وأخذ منعطفاً حرجاً في مقاطعات كثيرة في جنوب كردفان (هيبان والدلنج على سبيل المثال). أما في النيل الأزرق، فقد أحدث القصف الحكومي تشريداً للسكان. ففي شهر آب (أغسطس) الماضي نزح أكثر من 35.000 مواطناً من محليَّة باو إلى ضواحي الدمازين والروصيرص. مهلاً، فمتى حسمت الهجمات على المواطنين العزل وتشريدهم وتجويعهم واختطافهم واغتصاب نسائهم وانتهاب الناس غوراً أي نزاع سياسي مسلَّح في تأريخ السُّودان الحديث! إذ أثبتت تجارب النِّزاعات المسلحة المتكرِّرة في هذا البلد أنَّ طريق المحادثات السياسيَّة تمر بطاولة المفاوضات، وهي السبيل الوحيد إلى الوصول إلى حل وفاقي.
مهما يكن من شيء، فبعد مضي أربع سنوات منذ نشوب الحرب الأهليَّة في الولايتين أخذت الآثار النفسيَّة للنِّزاع على أولئك الذين يعتاشون تحت التهديد الدائم بالقتل والقصف الجوي والبري بعداً لا يمكن تجاهله. حتى في حال عدم تساقط القنابل عليهم أو رميهم بالقذائف، فإنَّ مجرَّد تحليق الطائرات الحربيَّة فوق رؤوسهم وحول قراهم لكافي أن يغرس في نفوسهم رعباً، ويحدث في حيواتهم اضطراباً، ويطيل معاناتهم وتشريدهم. علاوة على ذلك، فإنَّ هذه الأوضاع الإنسانيَّة المزرية في المنطقتين باتت مستمرة في التدهور ولا سيما في الأمن الغذائي والصحي، وفي سبيل الحصول علىالماء النقي. ومع مرور كل عام على هذا الصِّراع المسلَّح حتماً تتضاءل قابليَّة الأقوام للمرونة والتحمُّلمهما كان معدنهم، ومهما كانوا شعباً لا تؤثِّر فيه نوائب الزمان، ولا تقدح في عزِّه طوارق الحدثان. فإذا تمادت الحكومة السُّودانيَّة في ممانعتها وعنادها ضد السماح للمنظمات الإنسانيَّة الوطنيَّة والدوليَّة لتوصيل الإغاثة إلى المتضرِّرين من الحرب الأهليَّة في جميع أقاليم السُّودان المختلفة فإنَّ الأوضاع – مع مأسويَّتها – لسوف تسوء أكثر فأكثر. والجدير بالذكر أنَّ هناك آلافاً من المواطنين تتعرَّض حيواتهم للخطر بسبب الأزمة الإنسانيَّة المتفاقمة في المنطقتين، وعلى المجتمع الدولي أن يضاعف جهوده وضغطه على حكومة السُّودان حتى تكف عن استهداف المدنيين، وتسمح بدخول المنظمات الإنسانيَّة المستقلَّة إلى المنطقتين دون قيد أو شرط.
ولا يستطيع أحد أن يماري في أنَّ الحرب الأهليَّة الثانية في السُّودان، والتي وقودها الناس في جنوب كردفان والنيل الأزرق، قد اشتعلت فجاءة، بل إنَّ القوم في الخرطوم كانوا قد أزمعوا أمرهم ووطَّنوا أنفسهم على ابتعاثها كريهة. ولعلَّ كثافة النيران، وشدَّة العدوان، وغزارة الدِّماء المنزوفة، وقسوة القلوب تشي بأنَّ الحكومة كانت قد خطَّطت لهذه العدائيَّات بالرصاص، حتى سال الدَّم في أرض كادقلي، ثمَّ كانت أصداء المدافع الثقيلة كالطُّبول المدويَّة وكأنَّها طبول غابات إفريقيا التي توحي إلى النفس بالرهبة. وقد أعادوا إلى أذهان النُّوبة في المنطقة تجربة الصِّراع الدَّامي في التسعينيَّات والجهاد الذي أُعلِن ضدهم في ذلك الرَّدح من الزمان، وذكَّروهم بتأريخ التركيَّة والمهديَّة في المنطقة. وكان لسان حالهم يقول كما قصَّد الشاعر الحائز على جائزة القلم العام 2015م – جيميس فينتون – في قصيدته "الدَّم والرصاص"، والتي تقول أبياتها:
أصغي إلى ما فعلوه
لا تصغي إلى ما يقولونه
فالذي كُتِب بالدَّم،
قد دُبِّر بالرصاص
الرصاص يمزِّق القلب
الرصاص يمزِّق الدماغ
فالذي كُتِب بالدَّم،
قد دُبِّر للمرة الثانية
القلب طبل
والطَّبل يملك شركاً
والشرك في الدَّم
والدَّم في الهواء
أصغي إلى ما فعلوه
أصغي إلى ما سيأتي
أصغي إلى الدَّم
أصغي إلى الطَّبل
فلعلَّ هذه التجاوزات الإنسانيَّة المروعة من حكام ظلمة على مواطنيهم دون جرم اجترموه ترقى إلى الإبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيَّة. أفبعد هذه الجرائم يليق بنا أن نتحدَّث عن العفو والصفح كما جاءت في تجربة جمهوريَّة جنوب إفريقيا في "لجنة الحقيقة والمصالحة" (Truth and Reconciliation Commission) التي تزعمها كبير الأساقفة ديزموند توتو، وهي فكرة نابعة من مبدأ مسيحي، وهو أن تدر خدك الآخر لمن لطمك في الخد؟ إذ لم تنصف هذه التجربة ضحايا جرائم نظام الفصل العنصري – الذي كان معروفاً ب"الأبارتهيد" – في جنوب إفريقيا في شيء. وهل يجدر بنا أن نحذو حذو الأخوة التوانسة فيما اشترعوه من لجنة في مواجهة جرائم العهود البائدة؟ فقد شكَّل التونسيُّون "لجنة الحقيقة والكرامة" (Truth and Dignity Commission) برئاسة سهام بن صدرين للتحرِّي في نظام ما قبل ثورة الياسمين. وبالطبع والطبيعة الإنسانيَّة، تعرَّضت اللجنة إيَّاها إلى معارضة شرسة من بعض الدوائر حين شرعت اللجنة في النَّظر في 16.000 دعوى لتجاوزات إنسانيَّة امتدَّت إلى 60 عاماً، أي كل الأنظمة الوطنيَّة التي أعقبت استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي.
ثمَّ إنَّنا لا نرغب في التغيير الذي حدث بعد إزالة نظام مايو العام 1985م وفشلنا في كنس آثارالعهد المباد وسدنته، ثمَّ إنَّنا لا نود أن نعيد ما وقع فيه الشعب الأوكراني في انتفاضته التي لم تفلح في اجتثاث الصفوة والأوليقارك والبيروقراطيين، ومن ثمَّ جاءت حكومة ما بعد الثورة مكوَّنة من نفس الأشخاص الذين كانوا يديرون البلاد ودولاب الدولة منذ مستهل التسعينيَّات. والرئيس الأوكراني بوروشينكو نفسه من الأوليقارك، وهو الملقَّب ب"الملك الشكولاتة"، ويملك – علاوة على أرصدته –أملاكاً تُقدَّر بقيمة 1.3 بليون دولار. ولذلك كذلك لا نحب أن يعود سدنة "الإنقاذ" ويسيطرون على مقاليد الأمور والسلطة من جديد. إذ إنَّما نحن نريد التغيير الذي حدث في جورجيا، والذي أحدث تغييراً جذريَّاً في النِّظام.
على أيَّة حال، فسوف يجد القارئ – كذلك - بين ثنايا الكتاب، الذي يبلغ عدد صفحاته 778 صفحة من الحجم الضَّخم، فصلاً عن وباء الحمى الصفراء في جبال النُّوبة والفونج قديماً وحديثاً، حيث يمثِّل المرض ثالث الأثافي (الأميَّة والمرض والحرب)، التي ظلَّ يعاني منها الإقليمان في أشدَّ ما تكون المعاناة. وقد أبان الكاتب بشيء من الإبانة شديد كيف تعاملت السلطات الاستعماريَّة والوطنيَّة مع المرض، وماهيَّة الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها، ثمَّ نبَّه الكاتب إلى تجارب الأمم الأخرى التي تعرَّضت لمثل هذه الخطوب الكؤود، وابتليت بعوادي الدهر وطغيان البشر.
فلا مريَّة في أنَّ الحروبات الأهليَّة في السُّودان هي أساس عدم الاستقرار؛ وإنَّ تداعياتها لتنتج مشكلات بشريَّة (قتلاً واغتصاباً وتشريداً وتجاوزات في حقوق الإنسان) وماديَّة (تدمير الاقتصاد القومي والبنى التحتيَّة والبيئة) ونفسيَّة في امتداد آثارها حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويصل الفريقان المقتتلان إلى تسوية لها. وفي الكتاب، الذي يمكن الحصول عليه من كاتب هذه الصفحات،"في المشكل السُّوداني.. عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق" (2015م)، تناول الكاتب قضيَّة الحرب الأهليَّة عقب تمزيق البروتوكول إيَّاه من خلال المسائل السياسيَّةوالأمنيَّة والإنسانيَّة وآمال السَّلام في تينك الولايتين. ويستحسن أن يُقرأ هذا الكتاب مع كتاب"السُّودان.. انتفاض مواطني المناطق المقفولة" (مجلَّدين، 2010م)، و"النُّوبة في السُّودان.. نضال شعب في سبيل العدالة والمشاركة في السلطة" (2006م)، للكاتب نفسه حتى تكتمل صورة إقصاء أهل الهامش في السُّودان، وما حاق بهم من ظلم بوَّاح، وعنت عنيد من أصحاب السلطة في الخرطوم.
ومن نافلة القول نستطيع أن نقول هنا إنَّ السُّودان اليوم لمأزوم، وإنَّه لمواجه بتحدِّيات سياسيَّة واقتصاديَّة وأمنيَّة مصيريَّة، والحوار الوطني السُّوداني الحقيقي ينبغي أن تتوفَّر له كل الأشراط والمقوِّمات التي يمكن أن تفضي إلى نتائج مأمولة كالتوافق على الدستور، والحكومة الانتقاليَّة المكلَّفة،ومفوضيَّة مستقلَّة للانتخابات، ومعالجة مشكلات الحروب الأهليَّة، وإعادة النظر في مسألة الهُويَّة والثقافة وتأريخ السُّودان ومفهوم السيادة؛ فالسيادة هي ممارسة العزيمة العامة، ثمَّ إنَّ السيادة لهي تعبير قانوني. فما لم يتم التمييز بين السيادة والحكومة، فإنَّ الأخيرة لسوف تزعم حتماً بأنَّها مطلقة؛ لذلك ينبغي أن يكون هناك فاصل في شيء من الوضوح شديد بين السيادة والحكومة. فلا نستطيع أن نقبل ادِّعاء الحكومة للسيادة الوطنيَّة وترفض في أعنف ما يكون الرَّفض السماح للمنظمات الوطنيَّة والدوليَّة تقديم العون والإغاثة لمواطنيها الجياع، وأطفالهم الذين يتضوَّرون من الفاقة، وأراملها اللائي يتضاغون في مناطق النِّزاع المسلَّح. والدولة حين تترك العامة وتنغمس في الخاصة، وتشرع في التعامل مع شخص ما بمختلق عن الآخر، فإنَّها لتفقد سيادتها، لأنَّ المساواة ظاهرة تسبق العقد الاجتماعي. فهناك نوعان من اللامساواة في الجنس البشري: اللامساواة الطبيعيَّة أو الجسديَّة، وهي المؤسَّسة بواسطة الطبيعة، وتشمل الفرق في العمر والصحة وقوَّة تحمُّل الجسم وميزات العقل والرُّوح. أما النوع الثاني فهي اللامساوة الأخلاقيَّة أو السياسيَّة، وهذا النمط من اللامساواة مبني على مصادقة الناس عليه بالموافقة أو من غير موافقة. وإنَّ الأخيرة لتشمل بعض المخصَّصات التي يتمتَّع بها بعض الناس على حساب غيره – فمثلاً – الغنى الفاحش، والشرف والنَّسب والحسب، وصلاحيات في القوةَّ وفرض الطاعة على الآخر من غير وجه حق.
وكل تلك الاصلاحات السياسيَّة لا يمكن أن تأتي إلا عبر إشراك كافة قطاعات الشَّعب السُّوداني من أحزاب سياسيَّة حقيقيَّة، ونقابات مهنيَّة، ونشطاء حقوق الإنسان، وتنظيمات المجتمع المدني الأخرى. وبما أنَّ كل تلك التحدِّيات لا تجد أذناً صاغية في صحافة السُّودان "الخرطوميَّة"، إلا أنَّنا نرى أنَّه يستوجب توظيف الصحافة لتوعية الناس بقيم المواطنة والتعايش السلمي والحقوق المتساوية والعدالة، حتى يتم تصالح ثقافي وتعاقد اجتماعي فيما بين القوميات السُّودانيَّة أولاً، وبين هذه القوميات والدولة ثانياً. فالصحافة يستوجب عليها أيضاً أن تقف في موضع الحسيب الرَّقيب على السلطة، وأن لا تتخندق معها ضد من لا حول ولا قوة لهم. غير أنَّ صحافة النِّظام في الخرطوم هي صحافة مساندة للنِّظام في أكثر ما تكون المساندة، وتحمي الحزب المتحكِّم من أي تساؤل حاسم في شيء من الحماية شديد. وفوق ذلك كله، نجد أنَّ السلطة هي التي تحدِّد القضايا مثار التناول والتداول في الصحافة، والتعامل معها من منطلق أنَّها مسائل جوهريَّة، حتى يدخل الناس تحت طاعتها، وينقادوا لحبل سياستها، مهما كانت هذه السياسة من الأكاذيب المخترعة، والأباطيل المبتذلة. بيد أنَّ القضايا ذات الأهميَّة القصوى كالعدالة والمساواة والفقر، واستغلال النفوذ السياسي، وجرائم الشركات الضخمة،واختلاس المال العام، وتدمير البيئة، كل ذلك يتم تجاهله تماماً وتهميشه كليَّاً.
ففي مختتم مقالنا بقي لنا أن نقول إنَّ الاستياء العام الذي يعاني منه المواطنون في مناطق النِّزاعات المسلَّحة على وجه الخصوص وأهل السُّودان على وجه العموم اليوم لأسباب تهدِّد ذراريهم باستياء مستعظم، كما عانى منه أجدادهم، قد تغترف منه الأجيال القادمة لئن لم نحسن أمورنا وندبِّر حالنا. فسيادة فئة على دفة الحكم، وجعل السلطة حكراً على عشائرها وقرابتها، وإيلاء أقاربها الوظائف والمناصب العليا، حتى اكتسبوا المال وملكوا رقاب الرِّجال، أمست أمراً لم يكد يُطاق. فالنِّظام "الإنقاذي" بلغ غايته التي لا مزيد عليها، ووصل نهاية عصره، وإنَّه أذن لتلك النهاية بفساده، والتفنن في الدعة والترف، وبالتالي لم يكن قادراً على إفراز مرحلة تأريخيَّة جديدة. والتحول السياسي المرغوب ينبغي أن يكون جذريَّاً شاملاً ليمكِّن المجتمع السُّوداني من قطع مرحلة تأريخيَّة جديدة تختلف كل الاختلاف عن المراحل السابقة بغثها وبواطلها.