الطبيب الأديب

 


 

 

كان أحد مُدرَّسي مادة الأحياء الدقيقة في الجامعة يقرأ على مسامعنا أبياتاً من الشعر عند نهاية كل محاضرة ، فسألته إحدى الطالبات يوماً ما عن سبب حبه للشعر فأجابها قائلاً : لطالما أحببت الأدب و الشعر كثيراً لكن قدمي إنزلقت إلى الطب .

تذكرت كلماته تلك حينما راودني تساؤل عن العلاقة بين الطب و الأدب ، فالكثير من الأُدباء و الكُتّاب المعروفين هم أطباء ، إبتداءً بإبن سينا " أبو الطب" و الذي كانت له كتابات في الشعر و الفن و الموسيقى إلى جانب مؤلفاته في العلوم والفلسفة والطب ، مروراً بآرثر كونان دويل صاحب قصص شارلوك هولمز ، و أحمد خالد توفيق الملقب ب "العرّاب" و مصطفى محمود و الكثير غيرهم من الأطباء الذين كانت لهم بصمتهم في عالم الأدب و الكتابة.
فما سبب تواجد الكثير من الأطباء في عالم الكتابة و الأدب؟!

الطب و مهنة سائق الأُجرة، في رأيي أنهما من أكثر المهن التي تجعلك تحتك بالناس من غالبية الفئات المجتمعية و المستويات الثقافية، إلّا أن الطبيب يقابل هؤلاء الناس و هم في أضعف حالاتهم مُجرَّدين من الأقنعة الزائفة التي قد نضعها من حين لآخر لنواجه بها العالم؛ لذلك يستطيع الطبيب الأديب أن يُظهِر في كتاباته جوهر الطبيعة البشرية بمصداقية أكثر من غيره و بطريقة تلامس الواقع بشدة.
السبب الآخر في إعتقادي يرجع إلى أن مهنة الطب تتطلب أن يتحلى الطبيب بقدر جيد من مهارات التواصل ليستطيع مساعدة مرضاه لأقصى درجة، في خليط يجمع ما بين الإستماع و الإرسال الجيدين للمعلومات بالإضافة لإلتزام الحيادية، فمهنة الطب تتطلب من الطبيب التحكم بمشاعره أمام مرضاه ، كعدم إظهار مشاعر الحزن في حال كان المريض يعاني مرضاً عضالاً لم يُكتَشف علاجه بعد أو أن يتمالك نفسه أمام أسرة مريض ما لحظة وفاته ليبلغهم ذلك الخبر المحزن.
لا بأس طبعا بإظهار بعض التعاطف بإتزان ، أما أولئك الذين يطالبون الأطباء بإظهار المزيد من المشاعر فلن يكونوا راضيين إذا ما شاركهم الطبيب تأثرهم أو بكائهم لأن أول ما سيتبادر لأذهانهم في تلك اللحظة هو إنقطاع الأمل في شفاء مريضهم فها هو ذا طبيبه المعالج يذرف الدموع أمامهم.
فلعل من الأسباب التي تجعل الطبيب يلجأ للكتابة؛ رغبته في أن يهرب من خلالها إلى أماكن خيالية يستطيع فيها تفريغ تلك المشاعر المتراكمة بداخله والتخلص من بعض الطاقة السلبية التي يتلقاها من تتالي الشكاوى عليه يومياً، خاصة و أن الكتابة وسيلة معروفة من الوسائل المستخدمة في العلاج النفسي والتي أثبتت فاعليتها في التخلص من الصدمات النفسية والمشاعر السلبية.

بصفتي شخصاً محباً للكتابة منذ أن كنت في المدرسة فإنني أجد أن ممارسة مهنة الطب و ما يتعرض له كل طبيب من مواقف مختلفة يمكن أن تكون حافزا للكتابة أكثر من كونها مكاناً تنزلق إليه قدما الطبيب دون أن يستطيع تلبية شغفه بالكتابة.
أعتقد أن كل طبيب هو مشروع كاتب أو شاعر أو أديب وروائي مُحتمل ، و من الأطباء من أفلح في الموازنة بين عشقه للطب و عشقه للكتابة فأعطي كل مجال حقه ، بينما هنالك من تغلب حبه لأحدهما على الآخر فآثر المواصلة في طريق واحد.

المشكلة ليست في الطب كعائق للكتابة لكنها في الأنظمة الصحية المُستنزِفة للطبيب سواء بساعات العمل الطويلة أو قلة الكادر الصحي الذي يعمل خلال الوردية وقلة العائد المادي الذي يجعل الطبيب يدور من مشفى لآخر في دوامة عمل لا تنتهي..
هذه الأسباب هي التي من شأنها أن تقضي على شغف الطبيب سواءً للكتابة أو لأي هواية أخرى.
بل إنها تجعل من الصعب على الطبيب مواكبة التطورات في مجال تخصصه وسط ذلك الكم من الإرهاق الجسدي و النفسي.

أذكر أن حصة التعبير كانت أكثر الحصص المفضلة لدي وكان أستاذ اللغة العربية يشجعني و يشيد بمواضيع التعبير التي أكتبها و يطلب مني قراءتها لزملائي في الصف، ولابد أن له فضلاً في نجاحي فيما بعد بنشر بضع مقالات متواضعة.
أما في المنزل فأذكر تماما تسابُقَنا أنا و إخوتي كل يوم أربعاء لإستقبال والدي عند عودته من العمل حاملاً معه مجلة ماجد،
و لازلت أحتفظ بدفتر ملاحظات كنت أجمع به معلومات عامة من مجلتي ماجد و العربي الصغير و غيرهما من المجلات بالإضافة لمُفكِرة كنت أدون بها خواطر و أحداث اليوم.
كل هذا جعلني أُحب الكتابة و أتمنى إجادتها بطريقة إحترافية يوماً ما، فضلاً عن أن والدتي مُدرسة للغة العربية و تمتلك موهبة الكتابة الأدبية و أُفضِّلُ الإعتقاد بأنها قد ورَّثتني قدراً من ذلك الشغف بالأدب.
الكثير من زميلات الدراسة بالكلية لديهن مواهب متعددة بين الكتابة الأدبية و الرسم و الموسيقى و غيرها، لكن الكثير منهن لم يعدن يمارسن هواياتهن تلك كما في السابق ،فالطريقة التي يمارس بها الطب في بلادي تجعل ذلك الشغف يختفي بين أروقة المستشفيات المزدحمة حتى يكاد أن ينطفئ بمرور الأيام.

هنالك مقولة نتعلمها منذ السنة الأولى بكلية الطب وهي أن "الطب علم وفن".
علم نظري مبني على الدلائل العلمية لكنه كذلك فن التعامل مع المرضى بإختلاف حالاتهم النفسية وفن توظيف العلم لإستنباط التشخيص الصحيح للمرض و وصف العلاج الناجع وفن إستخدام اليدين في التخصصات الجراحية كمثال؛ لذلك كان الطبيب قديماً يسمى بالحكيم.
فكيف إذا إجتمع هذا المفهوم للطب في شخص هو في الأساس يمتلك موهبة كالشعر أو الكتابة أو الرسم أو أي موهبة فنية أخرى؟!
و ماذا لو كانت البيئة مواتية لجعله يبدع في كلا المجالين!
بدلاً من أن تصبح ممارسة الطب بمثابة تحرير شهادة الوفاة لما دونها من المواهب أو القدرات.

marwaosmanalamin@gmail.com

 

آراء