العاصمة الوطنية تودع الرمز الإعلامي حسان محمد سعد الدين

 


 

 

في بلدة طيبة وزمن جميل ورب غفور أنجبت أرض السودان رجال عظماء ونجوم سطعت في دنيا المال والتجارة والصحافة والرياضة والاعلام والدبلوماسية والفن... الخ. لقد ساروا سنين عددا في دروب الحياة الوعرة والتي ابتدأوها من أدنى السلم وترقوا فيها درجة تلو الدرجة باجتهاد فردي ومثابرة تحكمها قيم وأخلاق مجتمع فاضل فضلاً عن معين من صبر لا ينضب حتى غدو منارات سارت بسيرتها الركبان. ومن عجب أنهم شقوا طريقهم باعتماد على الذات وشيء من زاد لا يسمن ولا يغني من جوع وتلك عصامية فذة وسيرة عطرة لم تجد من يوثق لها حق التوثيق ولو فعلنا لكانت تلك التجارب الثرة مصابيح تنير طريقنا. ولعل في شهرتهم ما يغنينا عن المضي قدما في سرد الأسماء خاصة والمقام مقام ترحم على عصامي من أولئك النفر الكريم رحل عن دنيانا بالأمس القريب وترك جرحا لا يندمل وفتقا يصعب رتقه.
لقد عشق الاستاذ حسان سعد الدين عالم الثقافة والاعلام منذ نعومة أظافره عشقاً فاح عبيره بين معارفه بل وبين كل من التقاه ولو عابرا، فلا عجب إن تم اختياره وهو ما زال فتىً يافعاً يعمل في وظيفة متواضعة في جوبا ليتولى مهمة تقديم الزعيم الراحل اسماعيل الازهري لجمهور جنوب السودان. تقدم الفتى الصغير بثبات نحو المنصة وبصوت جهوري ماتع وبلغة رفيعة قدم الزعيم أزهري للجمهور تقديما ألهب الحماس وأضاف لوحدة السودان المرتجاة لبنة كان الوطن في أمس الحاجة إليها، فما كان من الزعيم إلا أن أصدر قرارا بنقل هذا الفتى الموهوب إلى العاصمة لينضم لفريق الإذاعة القومية وقد كان.
دخل حسان سعد الدين بوابة الاعلام من أوسع أبوابها بعد قرار الزعيم أزهري المذكور آنفا مما أتاح له مواكبة تطور الاعلام بدءً من عصر المذياع والسينما المتجولة ومروراً بعصر التلفزيون ومجلة الاذاعة والتلفزيون وانتهاءً بثورة الاتصالات التي جعلت العالم قرية صغيرة. ولعل توثيقه لمأساة تهجير أهل حلفا في عصر الرئيس عبود يقف شاهداً على تميزه في تلك الفترة... لكن شهرته الاعلامية بلغت أوجها في عصر الرئيس نميري عبر برنامجه التلفزيوني الشهير من مواقع التنمية.
ولأن الرئيس نميري لم يكن ذو شعبية معتبرة في ديار بني جعل خاصة في تلك الفترة التي شهدت تنامي قوة اليسار في أوساط المثقفين فضلا عن بغض قطاع لا يستهان به من أهل المنطقة للنميري بعد أن أعدم ابن المنطقة الضابط هاشم العطا فقد اختار النميري بعناية شديدة الاعلامي حسان سعد الدين ليكون ضمن الوفد الرئاسي المتجه لمدينة شندي وليتولى مهمة تقديم الرئيس للجمهور. ولأنني كنت ضمن الحضور في استاد شندي فقد كتبت مقالاً بعنوان أب عاج في شندي أثار ذكريات الماضي في نفس الأستاذ حسان فاتصل بي ليخبرني بعدم علمه بأنني كنت ضمن الحضور . ولمن فاته الاطلاع نقتبس فقرة من ذلك المقال:" ومن غير حسان يمتلك لساناً فصيحاً وصوتاً جهورياً وثقافة عالية ليهزم الجعليين في عقر دارهم بلا قتال، فلا عجب إن اختار الأستاذ حسان ثلاثة أبيات من أجمل ما قال المتنبئ في المدح وبصوته الماتع قدم الرئيس قائلاً:
كالبدر من حيث التفت رأيته يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
كالبحر يقذف للقريب جواهراً جودا ويبعث للبعيد سحائبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها يغشي البلاد مشارقاً ومغاربا
فارتج الاستاد من شدة التصفيق وقفز النميري قفزة ألهبت حماس الجعليين فهم قوم أهل حماسة ويطربون للمديح. ومن عظمة أجواء الحماسة كدت أنا الحلفاوي أن أقفز من مقعدي وأعرض وسط القوم لولا خشيتي من أن يرتفع ترمومتر الهاشمية عند أحدهم فيستل سوطه وينهال علي ضرباً باليمين باعتباري فارساً جعلياً راكزاً فأثرت السلامة ".
إن تفضيل الاعلامي حسان واختياره من قبل رئيس الجمهورية فضلا عن شهرته التي سمت أيقظت في نفوس البعض داء الحسد فقامت تمشي بين الناس بالنميمة وتنصب المكائد بينه وبين آخرين، ولعل احتدام الصراع بين حسان ومدير التلفزيون الذي تبوأ بعد ذلك منصب وزير الثقافة معروف للكثيرين وتم حسم الخلاف بواسطة النميري شخصياً عندما أشاد بالأستاذ حسان إشادة طويلة في برنامجه الشهري لقاء المكاشفة.
وعندما جاءت الانقاذ رافعة راية التمكين باسم الدين لم تنزل الناس منازلهم بل سعت لإذلال البعض وتضييق الخناق على البعض الآخر وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!! فلا عجب إن حضر الأستاذ حسان لمكتبه في صباح يومٍ من أيام التمكين ووجد صحفيا معروفاً يجلس في مكتبه وقد تولى كل مهام الأستاذ دون أي اجراء رسمي أو تسليم وتسلم.
ورغم الظلم الذي لحق بالأستاذ حسان إلا أن الهم الوطني ظل شغله الشاغل ولذلك لم يتردد لحظة واحدة عندما طلب منه مجموعة من الاسلاميين أن يتوسط مع آخرين بين البشير والترابي لتلافي الأثار السالبة على الوطن لما سمي بصراع القصر والمنشية خاصة والسودان يعاني من أزمات داخلية وخارجية جمة. ولعل واحداً من أعضاء لجنة رأب الصدع يروي لنا شيئاً مما دار خلف الكواليس.
أما على المستوى الشخصي فلقد كان الأستاذ حسان رجلاً حاضر البديهة وذو روح مرحة ومحبة للفكاهة لا تمل سماعه فضلاً عن تخيره للأصدقاء ووفائه الشديد لتلك الصداقة. وفي مرة من مرات البث المباشر لبرنامج من مواقع التنمية هبت رياح أطاحت بالمعلومات المسجلة في ورقة كان يقرأ منها فما كان منه إلا حرك شفتيه دون أن يخرج من فمه صوتاً مما اضطر المخرج لقطع الارسال والاعتذار بخطأ فني في الصوت.
أما الفكاهة والمرح في معية الأستاذ فذاك باب طويل نقتبس منه طرفة قديمة ما زالت تضحكني حتى يومنا هذا. حدثني الأستاذ حسان بأنه كان في زيارة عمل لمدينة جوبا وفي طريقهم للعمل لاحظ الأستاذ بأن شرطي المرور المتواجد في الصينية مخمور فأراد مداعبته فطلب من السائق أن يدور بالسيارة مرات ومرات حول الصينية وبعد عدة دورات أوقفه الشرطي وسأله بعربي جوبا " إنت في يلف يلف يلف ولا أنا رأس بتاعي يلف". فأجابه الأستاذ بذات الطريقة "إنت رأس بتاعك يلف" فرد الشرطي "أنا ذاتي قلت كده...نمشي البيت" وترك عمله وتوجه لمنزله بينما دخل الأستاذ وسائقه في نوبة من الضحك.
رحم الله الأستاذ الكبير والإعلامي العصامي حسان محمد سعد الدين بأكثر مما قدم لوطنه وزاده رحمة ومغفرة بحبه اللامحدود لنبي الإسلام سيدنا محمد صلي الله عليه وعلى آله وسلم. ولقد بلغ ذلك العشق مداه في لحظة تجلي والأستاذ طريح الفراش في المشفى فاقد للوعي وعندما وقع بصره على ابن أخته الذي يقف على مقربة منه كانت وصيته الوحيدة قبل أن يرحل أن يبلغ سلامه للنبي محمد، وها نحن نفعل ذلك نيابة عن ابن أختك ومحبيك ونقول يا نبي الإسلام إن العبد الفقير لربه حسان سعد الدين يقرئك السلام... فكن له ولنا شفعياً يوم لا ينفع مال ولا بنون. اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ما ذكرك الذاكرون وما غفل عن ذكرك الغافلون والحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوا خلقه أيهم أحسن عملا.

sbeteik@hotmail.com

 

آراء