العثمانيون وسلطنة الفونج في القرن السادس عشر والسابع عشر (2 – 2) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
The Ottomans and the Funj Sultanate in the 16th and 17th Centuries
أندرو شارلس بيكوك A. C. Peacock
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في مقال طويل ورد في العدد الخامس والسبعين من "مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية Bulletin of SOAS" الصادرة عام 2012م.
وكاتب المقال هو أندرو شارلس بيكوك، أستاذ التاريخ بجامعة سانت أندروز بإسكتلندا، والمتخصص في تاريخ الشرق الأوسط، خاصة تاريخ دولة السَّلاجقة والإمبراطورية العثمانية.
المترجم
******* ****** ************
تحالف الفونج والإثيوبيين
كان الاعتقاد السائد دوما هو أن ظهور دولة الفونج سيثير الكثير من المشاكل لجارتهم المسيحية في الجنوب. وكان الفونج بالفعل سببا في قطع اتصالات الكنيسة الإثيوبية مع رئاستهم القبطية في مصر بين عامي 1480 و1516م. ووردت في بعض الوثائق البرتغالية في عامي 1519 – 1520م أن بعض المعارك قد وقعت بين حاكم الساحل الإثيوبي والمغاربة أو المسلمين بصورة عامة (moors) إلى الشمال، وأتضح فيما بعد أن المقصود بـ (المغاربة) ربما كانوا هم الفونج في سنار، رغم أن هؤلاء المغاربة قد يكونوا من البجا أو من أي قبيلة متحالفة مع سلطنة سنار. وقد يكون هؤلاء من "العبدلاب"، الذين كان لهم وجود ونشاط في المناطق الواقعة حول سواكن في بدايات القرن السادس عشر. وكانت العلاقات بين العبدلاب والبجا متقلبة، فقد كانت ودية في سنوات وعدائية في سنوات أخرى. وورد في بعض المرويات الشفهية أن العبدلاب سبق لهم مهاجمة البجا حول سواكن، وفي مناطق مصوع أيضا. وليس هنالك أي ذكر في المصادر الأثيوبية للعلاقات بين الفونج والإثيوبيين في النصف الأول من القرن السادس عشر، إذ أن توجه إثيوبيا السياسي في تلك الفترة كان يميل نحو الجنوب، وكانت عاصمتها تقع في محافظة في الجنوب هي شيوا Shewa. وقاد من الجنوب أحمد الغري حملته الجهادية ضد أثيوبيا، بتأييد ودعم من العثمانيين (ورد في موسوعة الويكيبيديا بعض المعلومات عن أحمد الغري تتلخص في أن: " السلطان أحمد بن إبراهيم الغازي (المعروف بـ "أحمد غري") كان قد ولد في سنة 1507 ومات في سنة 1543م. وكان من سلاطين الصومال الذين غزوا الحبشة وهزموا العديد من الأباطرة الإثيوبيين، وألحقوا الكثير من الضرر والهزائم بهم بمساعدة من جيش يتكون أساسا من الصوماليين. وشرع الإمام أحمد في غزو ما يقرب ثلاثة أرباع الحبشة (إثيوبيا حاليا) وضمها تحت إدارة سلطنة عدل خلال الحرب العدلية الحبشية 1529-1543م. المترجم).
وفي المقابل أشار سلمان ريس في تقريره (الذي سبقت الإشارة إليه) إلى ضعف الفونج وخضوعهم سياسيا للإثيوبيين. وذكر أن الحياة الاقتصادية لدولة الفونج كانت تعتمد كليا على صادرات إثيوبيا لها. وهذا ما يثير الشك فيما زعمه الرحالة بروس في القرن الثامن عشر من أن الفونج لم يدخلوا الإسلام إلا لتسهيل أمور تجارتهم مع جيرانهم، خاصة في مصر، التي كانت الشريك التجاري الأول لسلطنة الفونج.
وهنالك بالطبع من يشكك في تقرير سلمان ريس (الذي قدمه في 1525م)، ويزعم أن الرجل لم تطأ قدميه إثيوبيا أو السودان قط، وإن وصفه للإثيوبيين بأنهم "عراة هَمَج" لم يكن إلا من باب التحامل والأفكار المتحيزة المسبقة، وليس له أساس من الصحة. ومن جانب آخر، يجب القول بأن سلمان ريس كان عالما بالصراع بين أثيوبيا والإمارات الإسلامية في القرن الإفريقي.
وهنالك من الدلائل والوثائق في القرن السادس عشر ما يشير لتحالف بين الفونج والإثيوبيين. وكان الفونج حينها يمدون إثيوبيا بالإبل، ويتوسطون لها عند المصريين لبيع الخيول. وقد لا حظ سلمان ريس أن آلاف الخيول قد دخلت السودان من مصر عبر ميناء سواكن، ثم أرسلت لإثيوبيا، التي كانت تستخدمها في حربها ضد مسلمي زيلع /زيلا Zayla.
العثمانيون وسلطنة الفونج في القرن السابع عشر
هجر العثمانيون خططهم الطموحة في المحيط الهندي وأفريقيا (التي لم تصادف نجاحا كبيرا، على كل حال) بسبب المشاكل العسكرية والمالية التي واجهتهم. وبقيت دولة "الحبشة" تحت سيطرة العثمانيين، ولكن لم يكن لها ذكر كبير في أرشيف الوثائق العثمانية. وتزوج جنود العثمانيين (الإنكشارية) من نساء النوبة والأحباش، ومع مرور السنوات غدت مصالحهم مرتبطة بالسكان المحليين أكثر من ارتباطها بالعثمانيين. وفي بعض سنوات ذلك القرن أسند الحكام العثمانيون حكم تلك المناطق للشيوخ المحليين (وكانوا يسمونهم "النواب").
وبلغت دولة العثمانيين في القرن السابع عشر ذروة قوتها، وفي ذات الوقت غدت أكثر انفتاحا على العالم، وأشد تأثرا به. وكذلك نمت عاصمة الفونج (سنار) وصارت مركزا للتجار الأجانب وغدت مدينة عالمية (كوزموبلاتيبنية). وسعى سلاطين الفونج لتحديث جيوشهم بشراء أسلحة حديثة من الخارج شملت المدافع والبنادق. وكانت مصر (العثمانية) هي أهم مصادر السلاح بالنسبة لهم. وكانت لسواكن والحبشة (وهما تحت سيطرة العثمانيين) بالطبع ذات الأسلحة الحديثة التي سعى سلاطين الفونج للحصول عليها من مصر (العثمانية). وهنالك بعض الدلائل على وجود تنافس ثقافي بين دولة الفونج والعثمانيين. فالقصيدة التي ألفها العالم الأزهري عمر المغربي في مدح السلطان بادي الثاني (الذي حكم بين 1644 و1681م) ربما كانت في الأصل قصيدة في مدح بايزيد خان، ثامن سلاطين العثمانيين (1481 – 1512م)، ووردت في "الدر المنظوم في مناقب سلطان بايزيد الروم"، بحسب ما جاء في "مخطوطات كاتب الشونة". ومضى الشاعر في مدحه للسلطان بادي حتى وصفه بأنه "خليفة المسلمين".
وظلت العلاقات بين العثمانيين والفونج خالية من التوتر على وجه العموم في غالب سنوات القرن السابع عشر. ومع تضاؤل ثم اختفاء أهمية الوجود العثماني في الحبشة، ظلت مصر هي معبر العلاقات والتجارة بينهم وبين العثمانيين. وعن طريق مصر بلغت الصادرات السودانية بلدان البحر الأبيض المتوسط، وكانت تشمل السيوف والذهب والرقيق. وكان أشهر من كتب عن تلك العلاقات هو المؤرخ والرحالة أوليا شلبي (1611-1664م).
رحلتي أوليا شلبي في أرض السودان والحبشة
بدأ المؤرخ والرحالة العثماني الشهير أوليا شلبي / جلبي (1611 – 1684م) رحلته إلى بلاد الفونج من مصر في يوليو من عام 1672م، وفي جعبته رسائل وتوصيات من راعيه الوزير أو حاجب السلطان (kethüdâ) إبراهيم باشا، حاكم مصر العثماني. وسافر شلبي بالمراكب من صاي (Say) إلى بلاد العبدلاب (أو بربرستان، كما سماها)، ومنها جنوبا إلى قلب بلاد الفونج. وزعم شلبي في كتاباته عن تلك الرحلة أن سلطان الفونج قام بنفسه بجولة معه ليريه معالم عاصمته. ثم واصل شلبي رحلته في داخل أفريقيا، بدأت بإثيوبيا، حيث كان يأمل في رؤية منبع النيل. إلا أنه لم يوفق في رحلته تلك. ثم قام شلبي برحلة نيلية أخرى عبر الصحراء إلى الحبشة (العثمانية)، وعاد منها لمصر.
وتعد مذكرات شلبي بلا ريب مصدرا عظيم الأهمية لمبحثنا هذا، ويعد كذلك من أهم مصادر الدراسات السودانية (نشرت "دار الآفاق العربية" ترجمة لتلك المذكرات في عام 2006م بعنوان "الرحلة إلى مصر والسودان والحبشة" ترجمة حسين نجيب المصري، مع آخرين. المترجم).
غير أن قصص شلبي كانت تزداد غرابة كلما توغل أكثر في رحلته النيلية جنوبا، وكلما انحرف أكثر عن وصف طبوغرافية الأراضي التي يفترض أنه مر بها. غير أن وصفه لمستوطنتين عثمانيتين في إبريم (Ibrim) وصاي وفي سواكن ومصوع كان وصفا مفصلا ومعقولا ومقنعا. ولا يخلو وصف شلبي لبعض الأماكن من أخطاء واضحة. فقد ذكر مثلا أن مقراك؟ (Magrak) تقع بعد صاي على الشاطئ الشرقي، رغم أنها تقع شمال صاي، بينما تقع تناري وسيسي على الشاطئ الغربي. وتكثر في كتاب شلبي الروايات المتخيلة التي يصعب تصديقها مثل ركوبه لفيل، وركوب الدراويش لوحيد القرن، ومروره بـ "وادي الشياطين" بأعمدته المبهرة، ومياهه العجيبة الجالبة للشفاء التي تصدر لبلاد الهند والفرنجة، ورؤيته المزعومة لجامع النبي سليمان في وسط الصحراء (الذي عده أكبر جامع شاهده في حياته، وزعم أنه أكبر من مسجدي مكة والقسطنطينية). أما في إثيوبيا، فقد حكى عن عالم خيالي تماما، مليء بالعجائب والغرائب مثل "بلاد القرود".
وكان في وصف شلبي لسلطان الفونج من الخيال ما يفوق الحقيقة. وكان سلطان الفونج يومها هو بادي الثاني، المعروف بأبي دقن)، ولكن سماه شلبي في كتابه كوكان غلام محمد كوكان بن إدريس كوكان! لعل شلبي قصد بكلمة "كوكان" أو "كاكان" كلمة سلطان أو ملك الفونج، رغم أن الفونج لا يستخدمون مثل تلك الكلمة التي أوردها شلبي أصلا. وربط شلبي في مذكراته بين ما زعم أنه من غرائب وعجائب الآثار في أرض النوبة وأفريقيا وبين الأساطير الذائعة فيها عن النبي إدريس. وربما كان هذا هو السبب فيما ذكره شلبي من أنه سمع اللغة العبرية يتحدث بها في سنار. ولا شك أن ذلك مبعثه رغبته في أسطرة (إضفاء جو من الأساطير) mythologizing أفريقيا، ولربط العجائب التي زعم أنه شاهدها بالتراث الإسلامي عن الأنبياء السابقين.
ورغم شغف شلبي بالترحال، إلا أنه لم يسافر إلى أي منطقة خارج حدود الإمبراطورية العثمانية. فقد سافر – بالإضافة لرحلته مصر والسودان والحبشة - لإيران وأرمينا وأذربيجان، وكذلك للسهوب الأوكرانية التي كانت تتبع اسميا للتتار العثمانيين. وزار شلبي كذلك مدينة فينا مع السفير العثماني، غير أن ما ذكره عن زيارته لغرب أوروبا كان محض خيال.
ورغم كل ذلك فلابد من القول بأنه من الخطأ اعتبار كل ما ذكره شلبي عن مملكة الفونج مجرد هراء. فكثير من الأماكن التي ذكرها الرجل هي أسماء مواقع جغرافية حقيقة بالفعل، ولكنه كان يخلط في بعض الحالات بين بعضها. وذكر شلبي أيضا بعض اللغات الأفريقية التي سمعها في أثناء رحلته، ولم يكن ذلك من اختراعه، إذ أن بعض ما ذكره من كلمات كانت من لغة البرنو (اسماها الكانوري). وذكر أيضا أن سكان ما سماه "فونجستان" يطلقون على سلطانهم لقب "ماي may".
ويبدو أن شلبي كان قد استقى معلوماته عن سلطنة الفونج من مصادر أخرى، مثل الرقيق المجلوب من "فونجستان" إلى القاهرة، ومن التجار المصريين الذين كانوا يسافرون ببضائعهم لسنار. وزعم شلبي أنه زار إثيوبيا في معية تجار الجبرتي بالقرن الإفريقي. وأتى على ذكر تجار هنود (Banyans) قابلهم في سنار، كانوا قد قدموا لسنار ببضائعهم من الحبشة. وذكر بعض أبيات من الشعر بلغتهم قال إنه حفظها منهم. ولعله كان صادقا في ذلك، فهؤلاء الهنود التجار كانوا في سواكن أيضا في تلك السنوات.
وحتى إذا اعتبرنا قصص شلبي قليلة الصلة بتجاربه الشخصية في تلك المنطقة، إلا أنه يجب القول بأنها كانت محشوة بلا شك بكثير من المبالغات (المقصودة) لأسطرة تلك المنطقة، وقد يكون الكاتب قد سمع بتلك القصص (الخرافية) عن الفونج من مصادر متعددة وهو في سواكن والقاهرة وغيرهما. ويمكن القول على وجه العموم بأن قصص شلبي تعطينا لمحة متبصرة للتجربة العثمانية، وإدراكا وتصورا عن قارة أفريقيا في ذلك العهد.
ذكر أبو بكر الدمشقي للفونج
كلف السلطان محمد الرابع في عام 1675م الجغرافي أبو بكر بن بهرام الدمشقي (؟ - 1691م) بترجمة أطلس العالم الذي أخرجه رسام الخرائط الهولندي جون بلاو إلى اللغة العثمانية. غير أن الأمر تعدى مجرد الترجمة. فقد توسع الدمشقي في الأجزاء الخاصة بالدولة العثمانية وجيرانها، وذكر فيما ذكر سلطنة الفونج. وكان الرجل قد أكمل أطلسه المعنون "نصرة الإسلام والسرور في تحرير أطلس تحرير أطلس مينور"، ومينور هنا تعني الصغير، في عام 1685م. وكان بذلك الأطلس مذكرات سجلها الدمشقي عن الفونج، كان شلبي قد اقتبس بعضها وضمنها كتابه الذي سبقت الإشارة إليه.
التأثير العثماني على سنار في القرن السابع عشر
ذكر أبو بكر الدمشقي في كتابه عن الفونج أن سواكن كانت هي مصدر علومهم الدينية. ومنذ بداية القرن السابع عشر تحول الإسلام في شرق بلاد السودان من كونه علما تختص به النخبة الحاكمة إلى ديانة عامة الناس. وأدى العلماء الفقهاء والأولياء الذين قدموا لسنار من الأراضي التابعة للإمبراطورية العثمانية (خاصة من الحجاز ومصر) أدوارا كبيرة في ذلك التحول (يمكن الاطلاع على المزيد في هذا الجانب في كتاب "أولياء النيل الأزرق" لنيل ماك هيو، وأيضا في عرض هيذر شاركي له. المترجم). ويبقى السؤال الذي لم يجد له إجابة محددة حتى الآن: هل جلب أولئك الفقهاء والأولياء شيئا عثمانيا محددا؟ خاصة إن علمنا أن المذهب الحنفي الذي أدخله هؤلاء للسودان لم يجد قبولا كبيرا لدى السودانيين، بل قُوبل القاضي والمسجد الحنفي في سواكن بمقاومة شديدة. وكان شلبي قد أشار محقاً إلى أنه لم يجد في سنار مسجدا حنفيا قط. ورغم ذلك، زعم شلبي أن اسم الخليفة محمد الرابع كان يذكر دوما بعد اسم سلطان الفونج في خطب الجمعة بسنار، وذلك بصفته "حامي حمى الحرمين الشريفين" في الحجاز.
وقد يكون من الجائز إسناد ذكر خطباء الجمعة في مساجد الفونج للخليفة العثماني، ولطبقة النخبة المحلية المتحدثة بالتركية الذين زعم شلبي أنه التقاهم في سنار، إلى خيال شلبي المفرط النشاط، ووطنيته العثمانية الزائدة. ولكن لا بد من الاعتراف أيضا بأنه كانت هنالك بالفعل صلات دينية بين الفونج والمناطق الواقعة تحت سيطرة العثمانيين. وتجد الكثير من الإشارات لتلك الصلات في كتاب الطبقات الذي ألفه محمد النور ود ضيف الله في بدايات القرن التاسع عشر.
وليس في كتاب الدمشقي ما يثبت أنه كان هنالك علماء وفقهاء عثمانيين في سواكن نفسها، بل الصحيح أن هؤلاء العلماء والفقهاء كانوا قد وصلوا لسنار عبر ميناء سواكن. ولا يعني هذا بالطبع أن الفونج كانوا مجرد متلقين للعلوم الدينية الآتية من الخارج، إذ أن الصلات الدينية بين الأراضي العثمانية والفونج عبر البحر الأحمر كانت قد دُعمت برحلات الحج، وكان كثير من علماء الفونج يشدون الرحال للحجاز (ولمصر) لزيادة حصيلتهم من العلوم الدينية. وكان من المعروف أن العالم السناري الجنيد ود طه كان له أثر كبير على علماء الحجاز وعامتهم في القرن السابع عشر. ومن علماء تلك الفترة أيضا العالم الصوفي حمد النحلان (المعروف أيضا بابن الترابي)، الذي جُلد وسُجن في الحجاز لادعائه المهدية في موسم الحج. واستفاد العلماء السودانيون في ذلك القرن من وجود علماء وفقهاء آخرين من البلدان الإفريقية والآسيوية في الحجاز، وعززت صلاتهم بهم من سمعة علماء السودان. فعلي سبيل المثال أقام العالم السناري عبد اللطيف خاطب بعد نفي السلطان له للحجاز علاقات وثيقة مع علماء المغرب وتكرور والروم والحجاز، والذين عدوه - على سبيل التكريم والإجلال - أكثر أهل سلطنة سنار علما.
ويتضح أثر تلك الصلات بين علماء سنار وغيرهم من العلماء في الحجاز وغيرها في المناظرات والجدال الذي دار بين علماء الفونج حول تحريم التبغ. فقد أفتى أكبر أولياء سنار (الشيخ إدريس بن محمد الأرباب) بحسب ما جاء في كتاب الطبقات بحرمة التبغ، بناءً على ممارسات الإمبراطورية العثمانية، التي أصدر فيها السلطان مصطفى الأول أمرا بمنع استخدام التبغ (الصحيح أن سلفه أحمد الأول هو من أصدر ذلك الأمر). وبما أن المذهب المالكي يقول بوجوب طاعة الحاكم فيما ليس فيه نص من الكتاب أو السنة، فقد أفتى الشيخ إدريس بن محمد الأرباب بحرمة التبغ. ويتضح من ذلك بأن علماء خصوم الدولة السنارية في إسطنبول كانت لهم سَطْوة وتأثير كبيرين على علماء السودان لدرجة أن بعضهم كانوا يعدون السياسات الاجتماعية في إسطنبول هي المعيار والمثال الذي يجب أن يحتذى في سنار. ويجب أن نذكر هنا أيضا بأنه كان هنالك من العلماء في سنار من عارض فتوى الشيخ إدريس بن محمد الأرباب تلك.
ومع مقدم القرن السابع عشر، كانت الدولة السنارية ترى في الإمبراطورية العثمانية، ليس فقط مجرد تهديد محتمل، أو مصدر للتقنية العسكرية فحسب، بل أهم مصدر للشرعية الدينية، رغم اختلاف المذهب في الدولتين. وفي تلك السنوات كان موقف العثمانيين من دولة الفونج قد بدأ يلين شيئا فشيئا، كما يتضح من اتخاذ سواكن (الواقعة تحت سيطرة العثمانيين) ميناء رئيسا لتصدير واستيراد بضائعهم، وازدياد التبادل التجاري بين القاهرة وسنار. وانعكس ذلك التغيير على طريقة وصف ومخاطبة القادة العثمانيين لحكام الفونج. ففي القرن السادس عشر كان العثمانيون يستخفون بالفونج (وحكامهم) ويصفونهم بأنهم "رجال قبائل متمردة"، بينما رد الخليفة العثماني على رسالة من سلطان الفونج (بادي الثالث) في 1701م بخطاب بدأه بـ " إلى حاكم بلاد سنار في السودان". وأَنَّبَت السلطات العليا في إسطنبول حاكم الحبشة (العثماني) على فرضه مكوسا فاحشة على قوافل الرقيق التي كانت تذهب من سنار إلى الحجاز عبر سواكن، وطالبته بالتوقف الفوري عن تلك الممارسة على تجار سنار، إذ أنها كانت تخالف السياسة التي وضعها السلطان سليم.
أما في أماكن أخرى بالسودان، فقد علا شأن الدولة العثمانية في نظر الحكام المحليين في القرن الثامن عشر، خاصة الذين كانت لهم صلات تجارية وثيقة بمصر العثمانية. وخير مثال على ذلك هي الألقاب التي استخدمها السلطان عبد الرحمن الرشيد في دارفور (1787 – 1801م). وكان السلطان العثماني قد منح لقب "الرشيد" لسلطان دارفور ردا للهدايا التي بعث بها الأخير لإسطنبول، وكان السلطان عبد الرحمن يضع بعد اسمه القابا ذات طابع عثماني مثل "خادم الحرمين الشريفين" و"سلطان العرب والعجم". وأعجب من ذلك أن يقوم سلطان منطقة ليس بها بحر (land - locked) مثل دارفور باتخاذ لقب مثل "سلطان البرين والبحرين"، وهو لقب عثماني نموذجي. ولم يتخذ سلاطين الفونج في القرن الثامن عشر مثل تلك الألقاب العثمانية، ولعل السبب في ذلك هو الضعف الذي حاق بأولئك السلاطين في تلك الفترة، وليس بسبب استمرار العداوة والشك الذي ساد العلاقات بين الدولتين.
وكان منح "الباب العالي" الألقاب لحكام دارفور، واهتمامه بالتجارة مع سنار يدل على أن إسطنبول، حتى في القرن الثامن عشر، لم تفقد اهتمامها بأفريقيا. وكانت سياساتها السابقة تجاه الفونج في القرن السادس عشر خليطا من الغرور والصلف والتباهي، الذي ارتبط دوما في أذهان الشعوب بالاستعمار الأوربي. وكان العثمانيون يحرصون أشد الحرص في حملاتهم بأوروبا على الحصول أولا على معلومات استخبارية دقيقة، ومخبرين وجواسيس يعملون معهم. غير أن الظروف التي أحاطت بحملاتهم في بلاد الفونج أظهرت اهمالا واضحا في التخطيط. فقد كان قادة العثمانيين يؤمنون بأن بإمكانهم احتلال بلاد الفونج بجيش ضئيل العدد، مما يدل على شدة استخفافهم بخصمهم. أما ما لاقوه من عسر شديد في تخطي الشلال الثالث (الذي لم يكن يبعد كثيرا عن مناطق المحس التي كانوا يحتلونها) وعدم توقعهم لذلك العائق، فيدل على تهور وإهمال لا مبرر لهما. وربما كان العثمانيون قد وقعوا ضحية لبعض تقرير قادتهم التي كانت محشوة بلغة متعالية تحتقر ذلك "العبد الأسود" الذي يحكم الفونج، و"رجال القبائل المتمردين"، فنسوا أن يولوا حملتهم العسكرية ضد الفونج ما تستحق من تحضير واستعداد، كما كانوا يفعلون في حملاتهم الأخرى. وعلى العكس من ذلك، كان للعثمانيين في سواكن معلومات محلية جيدة النوعية.
وعلى الرغم من الوجود القديم للبرتغاليين في إثيوبيا المجاورة، وعلى الرغم من أخطاء المخابرات العثمانية في بلاد الفونج، إلا أنها كانت أفضل من أي شيء كان في أوروبا حتى نهاية القرن السابع عشر.
alibadreldin@hotmail.com