العدالة والسلام يتحققان بردِّ المظالم

 


 

 

 

مما يحكي عن الناظر ابراهيم موس مادبو ناظر الرزيقات الأشهر أنه عندما زاره مفتش المركز الانجليزي وأخبره بأنهم سيعطون السودان استقلاله بعد سنة ، قال له " نان يا جنابو ماركبتونا عربية بلا فرامل و لا نور". بعدها بمدة وجيزة جاء الناظر مادبو لامدرمان لغرض ما وقابل السيد عبدالرحمن المهدي. وعندما أكد له خبر الاستقلال قال له –مؤكدا ما قاله للمفتش: "لكن ما تدونا عشرين سنة لحد ما اولادنا يتعلموا" أو ما معناه. الاداري محمد أحمد الامين كان مساعدا للمفتش بمركز كتم بشمال دارفور عام 1954 (المركز كان تحت قانون المناطق المقفولة مثله مثل الجنوب). قال في كتاب ذكرياته "بين عهدين" أنه عندما أخبر المفتش الانجليزي رؤساء القبائل في إحتفال كبير بأنهم سيخرجون من السودان لم يستوعب عدد منهم الموضوع فيما بدا، فسأل أحدهم الاداري ماذا سيحدث بعد خروجهم فأجاب بأن الحكم سيكون لابناء البلد. سأل "الشرتاي" :يعني تحكمونا انتو في دارفور؟ قال نعم. يقول الاداري عندها فاجأني قائلا: وما الفرق بين أن يحكمنا الانجليز وأن تحكمونا إنتو ناس البحر؟ (ص 109).

الشاهد أن شكوك ناس الهامش في عدالة متعلمي المركز عند إقتسام السلطة التي آلت اليهم، " بدون دواس ؟" كما قال أحد زعماء القبائل مستغربا ، كانت موجودة من قبل الاستقلال. وللاسف صدقت شكوكهم إذ لم يشركوهم فيها. علي العكس تم استغلالهم بتصدير سياسيي المركز لهم كنواب لمناطق لم يروها ولم يعودوا لها بعد فوزهم (ما الديمقراطبة لعبة في عرفهم)، وأفندية تكالبوا علي قصعة الوظائف التي أخليت دون مراعاة لمؤهلات وكأنما هي "صحن فتة" وليس موضوع وطن، ومتعلمين وكتاب وصحفيين سودوا الصحف بكل ما يخطر علي بال لكنهم -الا من رحم ربي- لم يرفعوا إصبعا يشير لخطورة استمرار المظالم علي مدي سبعة عقود. والسلطة ليست وزراء (ديكوريين) كما يحاجك الجاهل والسياسي المتذاكي. المشاركة الحقة هي في سلطة اتخاذ القرار في جميع مفاصل الدولة ، وزارات ، مصالح، بنوك الخ والجيش والشرطة وليست وزارت والسلام.

تكررت الخيبات حتي ولدت الحرب الاهلية في الجنوب حروبا أخري في أقاليم أخري متظلمة كان يمكن تلافي أوضاعها بقليل من بعد النظر وحب الوطن. وما صرفته الدولة تحت انظمة الحكم المختلفة علي هذه الحروب من ذخيرة وبراميل حارقة ورشاوي لافساد الزعماء وخلق الفتن بين مواطنين عاشوا في وئام علي مدي خمسة قرون يكفي لبناء وطن آمن يسع الجميع، لكنه الحمق السياسي.

أنا مترع بحب شباب هذه الثورة. شباب أشعلوا ثورة قل مثالها ورفعوا شعارات للوطن كله، خاليين من العنصرية ومن أحقاد وأوهام الآباء والأجداد. عايزين عدالة وسودان مختلف يشبههم ويشبه ثورتهم التي فشلنا لعقود في إشعال مثلها-دو تبخيس لتأريخنا النضالي. العدالة تبدأ بمعالجة المظالم التأريخية للمناطق الأقل حظوة في الخدمات وفي المشاركة في السلطة بمعناها المذكور آنفا. الان وليس غدا و في كل المواقع التي يتفق علي اخلائها .صحيح علي المستوي الفردي سيتضرر كثيرون بالتمييز الايجابي وهم أهل كفاءة لكن عليهم أن يتذكروا أن الوطن أول وأولي ولا بد أن يتحمل جيل ما أخطاء الأجيال السابقة. ربما كان قدر الجيل الذي كان مظلوما في زمن الانقاذ الاعوج كله أن يشعر بعض أفراده بالظلم أيضا بالتمييز الايجابي لصالح أشخاص نسبيا أقل كفاءة ولكنهم يمثلون أكثر من أنفسهم.

ليس علينا أن نكرر أخطاء الماضي الفادحة وعلي قيادات الاحزاب المختلفة أن يرأفوا بهذا الشعب فالانتخابات ليست هي غاية لذاتها وإنما هي وسيلة لتحقيق العدالة والحرية والسلام. كم مرة استعجلت أحزابنا المركزية الانتخابات وبعدها تم نسيان أسباب قيام الثورة وعلا صوت لوردات الحرب ثم شهداء جدد ثم ثورة أخري.

العيش في وطن موحد يتعايش أهله في سلام لا يستقيم الا برد المظالم التأريخية و معالجة جذورها بمشاركة جميع مكوناته في الجيش والشرطة والمخابرات علي مستوي القيادات العليا والوسيطة وبتمثيل عادل. وعلي مستوي الخدمة المدنية بفتح الوظائف القيادية والوسيطة لملئها بصورة شفافة من المركز والاقاليم وبمعايير واضحة. لنقنع الجميع بأن هذه الثورة مختلفة ولن تستجيب لطموحات الموظفين والشلل العاصمية قصيرة النظر التي أوردت الوطن تأريخيا موارد الهلاك والتخلف الذي نحن فيه.

صديق امبده


sumbadda@gmail.com

 

آراء