العلاقات المصرية السودانية الحاجة الى منظور جديد (3)

 


 

 

أحاديث سودانية

 

فى المقالين الماضيين تناولنا بعض الملاحظات العامة أو السريعة حول عدم وجود الحد الادنى من التوافق الوطنى فى السودان حول المصالح الوطنية العليا للبلاد، وربما عدم وجود تعريف واضح أومتفق عليه لهذه المصالح، خاصة فى مجال العلاقات الخارجية وتوجهات السودان الاقليمية، الأمر الذى انعكس بشكل مباشر على دورات الصعود والهبوط فى العلاقات المصرية السودانية، التى كان يجب أن تبقى بمنأى عن المنافسات والصراعات الداخلية.

 

على الجانب المصرى من هذه العلاقات، نجد فى الوقت الحالى الكثير من القصور فى العديد من الجوانب، فعلى مستوى النخبة المصرية لم تعد هناك هذه الاسماء الكبيرة التى إرتبطت بالسودان معرفة وتواصلا ومودة، على قاعدة من الادراك والوعى العميق بالتارخ المشترك والتواصل النادر والإيمان بالمصير الواحد. فقد بعدت الشقة بين جيل الرواد الاوائل من أمثال العالم الفذ الدكتور عوض محمد وكتابة التأسيسى الشهير عن المديرية الاستوائية، والأجيال التى لحقت وحفلت بنجوم أضاءت سماء العلاقات المصرية السودانية  بعطائها وحدبها وفهمها العميق مثل الدكتور طلبة عويضة الذى ما زال اشقاؤنا فى السودان يذكرونه حتى هذه اللحظة بالمحبة والتقدير، وكان معهم فى الصف نفسة أسماء كبار مثل الاستاذ حلمى شعراوى والاستاذ يوسف الشريف والدكتور ميلاد حنا والاستاذ مكرم محمد احمد والدكتور مصطفى الفقى، وأيضا جهود الدكتور صوفى ابوطالب والدكتور صبحى عبدالحكيم عبر اسرة وادى النيل . على المستوى الاكاديمى كان هناك أيضا إستاذ الأجيال الدكتور عبدالملك عودة ،وكذلك الدكتور إسامة الغزالى حرب الذى قام برفقة الدكتور على الدين هلال برعاية المؤتمر الشهير عن العلاقات المصرية السودانية فى منتصف الثمانينات، والذى صدرت أوراقة فى كتاب مازال يمثل مرجعا اساسيا فى مجاله حتى هذه اللحظة.

 

فى الوقت الحالى ورغم الاهتمام  والجهود المتفرقة هنا أو هناك، إلا أن هذه الجهود أصبحت تفتقد إلى تواصل الأجيال، كما أنها لا تجد الحاضنة المجتمعية والإعلامية المناسبة لها، وذلك من أثر الإنقطاع الطويل الذى ساد فى عقد التسعينيات والروح السلبية التى سادت هذه المرحلة عبر حملات التعبئة والشحن الاعلامى التى تم تبادلها بضراوة على الناحيتين، الأمر الذى ترك أثره الواضح فى وجود فهم مصرى مبتسر إلى حد كبير لما يجرى فى السودان، وأصبحت الصورة القائمة لدى الكثيرين تعتمد على فهم مبسط على نحو مخل لمجريات العلميات السياسية والصراعات القائمة فى السودان. هذا الفهم أصبح يقوم فى شق أساسى منه على استدعاء صور نمطية قديمة تعتمد على تصنيفات مبسطة للقوى السياسية ولآليات التفاعل الداخلى والتدخلات الخارجية الاقليمية والدولية، وحالة الديالكتيك الناتجة عن ذلك فى ظل مجتمع متعدد لم يقدر له أن يتقدم كثيرا نحو الإنسجام والتناسق والتكامل على صعيد أزمتى الهوية والتكامل الوطنى، التى سادت فى كل الدول الافريقية بعد الاستقلال والتى لم يكن السودان إستثناء منها، غير انه كانت تتوافر له ظروف أفضل بكثير من الدول الاخرى، كانت تتيح له تأهلا أفضل لكنه للاسف لم يتحقق ذلك  لعوامل ومتغيرات عديدة لايتسع هذا المجال لها . ففى ظل سنوات نظام الانقاذ حدثت الكثير من التغيرات فى الخريطة السياسية والمجتمعية فى السودان وأصبحت هذه المتغيرات تتسارع بشكل كبير نتيجة عاملين أساسيين هما نجاح السودان فى إستخراج وتصدير نفطه، ثم تفجر الإحتقانات والأزمات الداخلية نتيجة للصراع طويل الامد، والتدخل الخارجى الذى حاول أن يستبق المتغيرات الناجمة عن تدفق النفط فصب الكثير من الزيت على نار الخلافات والأزمات الداخلية فى محاولته لإعادة السيطرة على هذه الدولة القارة قبل أن تتجه إلى تنمية ثرواتها والإستفادة من قدراتها.

 

لقد انعكس قصور النخبة المصرية فى فهم ما يجرى فى السودان فى الكثير من الصور، كان من ابرزها هذه (الخضة) التى حدثت فى مصر لحظة توقيع بروتوكول ماشاكوس الشهير فى 20 يوليو2002، والذى أحدث آنذاك قلقا عميقا على وحدة السودان، إذ أن الرأى العام المصرى بكل أطيافة، شعر بقدر كبير من التوجس لما هو سائد ومستقر فى الفهم العام من انه ليس هناك شعب تم منحة حق تقرير المصير إلا وإتجه إلى الانفصال، ونتيجة لأن العقل الجمعى المصرى يعتبر الحفاظ على وحدة التراب الوطنى أمرا يرتفع الى مستوى القداسة، ولأنه مشبع أيضا بأن الوحدات القطرية يجب أن تتجه الى شكل ما من اشكال التجمع والتنسيق والتضامن، شعر بأن ما يحدث فى السودان يمثل فاجعة جديدة أحدثت ما يشبه  الصدمة العامة. القصور الذى ظهر هنا تجلى فى مئات المقالات والتحليلات التى انطلقت بدون تنسيق مسبق لمحاولة الفهم والشرح والتحليل، ولكنها إتسمت جميعا – إلا ما ندر – بالسطحية والابتسار وغياب المعلومات، او لجوء البعض تحت ضغط تأثرهم بالحدث ورغبتهم فى الكتابة، الى اعادة انتاج ما كتبة اخرون.. ونواصل.

 نقلا عن مجلة الاهرام الاقتصادى  18 مايو 2009     

 

آراء