العمل غير المنظم من وجهة نظر اقتصادية 

 


 

 

يفتقر الاقتصاد غير المنظم إلى تعريف متفق عليه دولياً، رغم وجوده بنسب متفاوتة في اقتصاديات كافة الدول خاصة في الدول النامية، التي تترفع فيها هذه النسب. ويعود ذلك لأسباب مختلفة منها تنوع واختلاف التوصيف والخصائص من بلد لآخر من حيث المنشآت العاملة والعاملين في ذلك النوع من الاقتصاد. وبدأت منظمة العمل الدولية مؤخراً في تعميم ونشر مصطلح "الاقتصاد غير المنظم" لأنه أصبح من الاقتصاديات الأكثر شمولية وواقعية، من حيث أنه يشمل منشآت القطاع غير المنظم والعمالة غير المنظمة، سواءً أكانت تمارس بطريقة عمل "غير رسمي" أو "منزلي". كذلك بدا أن الشرائح التي تفتقر إلى المهارات تشكل الغالبية العاملين في الاقتصاد غير الرسمي في كثير من البلدان (ومنها السودان)، وإنهم يفتقرون لإمكانية اللجوء إلى شبكات الضمان الاجتماعي عندما يفقدون وظائفهم، أو عند حدوث خسائر في أعمالهم بسبب تزايد حجم الاقتصاد غير المنظم وتزايد مساحة انتشاره، وحديثاً بسبب ظهور أزمة فيروس كورونا.

وبحسب الاتجاهات العالمية والإقليمية، فإن منظمة العمل الدولية تؤكد أن هناك صعوبة في تحديد حجم الاقتصاد غير المنظم وتوثيق الاتجاهات في العمالة غير المنظمة، بسبب افتقار بعض الدول للمعلومات حول حجم الاقتصاد غير المنظم. غير أن هناك الكثير من التوافق على أنه عمل منتشر في مختلف أنحاء البلدان النامية، ويفتقر إلى التسجيل، أو عدم أو قلة تغطية الضمان الاجتماعي، أو غياب عقود الاستخدام. كذلك يفتقر الاقتصاد غير المنظم لإحصاءات العمل وإحصاءات العمالة فيه. وتبقى الحلول في إيجاد أدوات فعالة لإجراء الاحصاءات لـ" العمالة غير المنظمة" ينبغي أولا احتساب العدد الإجمالي للوظائف غير المنظمة، سواءً أُدِّيَتْ في منشآت القطاع المنظم أو منشآت القطاع غير المنظم أو الأسر المعيشية، خلال فترة مرجعية بعينها.

ولا يدخل غالب مواطني الدول التي ينتشر فيها العمل في الاقتصاد غير المنظم فيه اختيارياً، بل لضرورة إيفاء بعض الاحتياجات الأساسية وإن بدت غير كافية للحد الأدنى، وللحصول على الأنشطة الأساسية المولدة للدخل، حيث ترتفع نسبة البطالة الكلية، والبطالة الجزئية، والفقر وانعدام المساواة بين الجنسين، وهشاشة العمل. ويتميز العمل في القطاع غير المنظم بسهولة الدخول فيه نسبياً، وانخفاض متطلباته من نواحي التعليم والمهارات والتكنولوجيا ورأس المال. كذلك يتعرض أغلب العاملين في الاقتصاد غير المنظم لظروف عمل غير ملائمة وغير آمنة، ويعانون أيضا من مستويات متفاوتة من الأمية وتدني المهارات، كما لا تتاح لهم فرص التعليم والتدريب، والحصول على مداخيل ثابتة ومنتظمة، إذ أن مداخيلهم أقل، على وجه العموم، مقارنةً بالمداخيل في الاقتصاد المنظم. كذلك ليس هنالك من أطر قانونية محددة تنظم من يعملون في هذا القطاع الاقتصادي، كما أنهم قد يعملون لساعات أطول دون الحصول على قسط من الراحة المناسبة، وليس لديهم أي شكل من أشكال التمثيل القانوني المتمثل في الكيانات النقابية، ويفتقرون بالطبع لكافة أنواع الضمانات الاجتماعية والتشريعات القانونية الأخرى مثل صلاحية مكان بيئة العمل، والتشريعات المتعلقة بالسلامة والصحة والأمومة.

إن توسع الاقتصاد غير المنظم - الذي يُعد خصماً على الاقتصاد المنظم - يُعد سمة غالبة في اقتصاديات الدول، عالميا وإقليميا ومحليا. وأصبحت كما أشرنا آنفا من تحديات العصر خاصة في الدول النامية. كذلك بدأ العالم في الاهتمام بالتعاون بين الحكومات والمنظمات العاملة في المجتمع المدني والهيئات الاقليمية والدولية المهتمة بقضايا التشغيل والاهتمام بمعالجة الآثار السالبة الناتجة عن عدم تطبيق المعايير الدولية لمنظمة العمل الدولية من النواحي التنظيمية والتخطيط المالي، عبر تبني اجراءات تدريجية لتحويل المنشآت العاملة في القطاع غير المنظم والعمل على دمجها في القطاع المنظم. ويعزى دخول سكان الدول النامية إلى سوق العمل غير المنظم لأسباب تتمحور حول طبيعة الاقتصاد الريعي في الدولة، والذي يتسم بإقصاء شرائح من المجتمع خاصة الشرائح الضعيفة فيه. فذلك الاقتصاد الريعي عاجز عن استحداث فرص العمل اللائقة لكل السكان الباحثين عن عمل. ولتحقيق تكافؤ الفرص والمساواة بين جميع المواطنين وأصحاب العمل والعمال، على حد سواء، يلزم الانتقال من نظام الدولة الريعية إلى الدولة الانتاجية حتى يتحقق النمو الاقتصادي.

غير أن البرامج التي قادها صندوق النقد الدولي منذ ثمانينات القرن العشرين، هدفت وأدت لتقليص دور القطاع العام في الدور الاقتصادي في الدولة، واستبداله بقيادة القطاع الخاص وذلك ضمن برامج التكيف الهيكلي الاصلاحي للدول النامية، في محاولة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي. غير أنه يعاب على تلك البرامج وذلك التدخل الاقتصادي الدولي أن توقيته لم يناسب الظروف الاجتماعية والسياسية في الدول النامية ، كما أنه لا يدعم الاصلاحات الاستباقية لمرحلة ما قبل الانتقال إلى الاقتصاد الحر.  وبما أن مهنة الزراعة هي من المهن السائدة في أغلب الدول النامية وتشكل عصب اقتصادها، فقد طالتها برامج سياسات الصندوق فيما يخص تحديث الزراعة وخصصتها، وقد ساهمت هذه السياسة بالإضافة إلى عوامل أخرى تختص بإدارة الدولة لملفات التنمية المتوازنة، ساهمت بدورها في تدهور متسارع لمستويات المعيشية في الريف، وفي تقليص قدرة القطاع الزراعي على استيعاب الطلب الكبير على العمل من قبل أعداد متزايدة من السكان. ونسبة لضعف البنية التحتية لمهنة الزراعة وعدم وجود الدعم من الدولة لهذا القطاع، غادر الكثيرون أريافهم واتجهوا صوب نحو أطراف المدن، في مصطلح عُرِفَ حديثاً بـ (تآكل الريف)، لا سِيَّما بين الشباب، الذين راحوا يبحثون عن عمل وليس بحوزتهم سوى القليل من التدريب، والقليل من رأس المال، والقليل من العلاقات داخل المدينة. واتجه بعض هؤلاء للعمل في الاقتصاد الموازي الذي له أوجه عدة فـي سـياقات إجتماعيـة وأمنيـة وسياسـية واقتصاديـة طويلـة الأجـل وأوسـع نطاقـا.

أن تقارير الهجرة من مكان إلى آخر سواءً على المستوى الدولي أو المحلي، تشير إلى أن الهجرة ظاهـرة معقـدة لأسباب متعددة، ومتعددة الأوجه منها الهجـرة الطوعيـة التـي يختار فيها الاشخاص الانتقال لمكان آخر (غالبا من قطر لآخر) بحثًا عن العمل- وهي تشكل النسبة الأعلى- ثم التعليم والصحة بنسبه أقل، بالإضافة لأسباب قسرية تتعلق بالأمن والهرب من مناطق الكوارث والنزاعات. ولـكل من نوعي الهجـرة دوافع وتأثـرات مختلفة. وينطبق ذلك عـلى الانتقال بسبب التأثيرات التراكمية لتغيرات المناخ التي أثرت على عمل هؤلاء المهاجرين في الزراعة أو الرعي مثلاً، ولا يصبح أمامهم سوى الانتقال إلى المدن كأفضل خيار متاح.

ورغم تعدد الاثار السالبة للعمل في الاقتصاد غير الرسمي، إلا أن له هناك نتائج عديدة (لا تخلو من بعض الإيجابيات)، منها توفير فرص العمل والعيش في العديد من البلدان النامية. كما وتشير التقديرات إلى أن العمالة غير الرسمية أو العمالة في الاقتصاد غير الرسمي وعلى مدى أكثر من عقدين من الزمان مثلت أكثر من نصف العمالة في المجالات غير الزراعية في أغلب بلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض. وكما ورد في تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة الذي صدر عام 2018م فإن الهجـرة الريفيـة ترتبـط ارتباطا وثيقا، ليس فقط بالتنمية الزراعية والريفية، بل بالتنمية الاجتماعية أيضا، حيث رافقـت العملية التدريجيـة لتحـول اليـد العاملة من الزراعـة إلى قطاعات أخرى في المدن والتحول إلى العمل غير المنظم. وأصبحت الهجرة الريفية محورا للتحول الاقتصادي وجزءًا من التحول الهيكلي للاقتصاديات التي تتناقص فيها أهمية الزراعة بالنسبة للدخل، والتي تخلق بالطبع فرصاً للعمل في القطاعات الأخرى. وعندها يتناقص الطلب على الأيدي العاملة في القطاع الزراعي، خاصة مع تطور التقنية وتكنلوجيا الزراعية. ومن جانب أخر تدعم منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) البلدان النامية وتحثها على وضع السياسات التي تولّد وظائف لائقة في المناطق الريفية، وتعمل على زيادة فرص حصول المنتجين أصحاب الحيازات الصغيرة على التمويل والاستثمارات، وتساعد في تعزيز القدرات التقنية وقدرات تنظيم المشاريع، وتحسين ظروف العمل ومعايير العمل، لا سِيَّما بالنسبة للشباب والنساء والعمال المهاجرين.

ويشير الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة"2030" إلى "العمل اللائق ونمو الاقتصاد" الذي يحث على زيادة النمو الاقتصادي من خلال زيادة مستويات الانتاجية والابتكار التكنلوجي، وعبر تشجيع ريادة الاعمال وخلق فرص عمل جديدة، والقضاء على السخرة (العمل القسري) والرق وتجارة البشر، وعوامل حاسمة أخرى لتحقيق الهدف العام الساعي لتحقيق العمالة الكاملة والمنتجة والعمل اللائق لجميع النساء والرجال. غير أن تحقيق هذا الهدف يتطلب أن تعمل المجتمعات والحكومات على تهيئة الظروف التي تتيح للناس الحصول على فرص عمل جيد تحفِّز الاقتصاد دون الإضرار بالبيئة. وسيقتضي هذا أيضا إتاحة فرص العمل أمام جميع من هم في سن العمل من السكان، رجالا ونساءً، وكل ما يمكنهم جميعا من العمل في ظل ظروف لائقة. وينبغي على الحكومات الالتزام بإجراء العديد من الإصلاحات في هياكلها وسياستها الاقتصادية لضمان تحقيق النمو الاقتصادي وتوفير العمل اللائق لجميع القادرين والقادرات ويلبي احتياجات الجميع، خاصة الفئات القابعة عند "قاعدة الهرم الاجتماعي". كما ويشمل التخطيط للتنمية المستدامة استرايتجيات التعامل مع الاقتصاد غير الرسمي، ووضع موجهات لقيام الحكومات بتسهيل الإجراءات الإدارية أمام انتقال القطاع غير الرسمي إلى القطاع الرسمي وتقليل القيود على مؤشر" سهولة ممارسة الأعمال"، والذي عادة ما يتسم بالكبر في الدول النامية، هذا بالإضافة لتنمية الوعي الضريبي لدي العاملين بالقطاع غير رسمي عبر كافة الوسائل المتاحة.

نخلص إلى أن مرحلة الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد المنظم في دولة مثل السودان تتطلب تنمية المشاريع المستدامة، وبخاصة المشاريع الصغرى القادرة بدورها على توظيف المزيد من العمال وتحسين أجورهم وشروط وظروف عملهم، من أجل حماية للأشخاص غير القادرين على إيجاد وظيفة أو غير القادرين على العمل. وبما أن الزراعة هي أهم جهة عمل في العالم، خاصة بالبلدان النامية، فيمكن أن يساعد العمل في مجالي الأغذية والزراعة في حلّ مشكلة العمالة، خاصة في أوساط الشباب، وذلك عبر تمليك مشاريع صغيرة على غرار برامج التمويل الاصغر الخاصة الهادفة لتوفير فرص عمل، في المجال الزراعي المرتبطة بالزراعة المستدامة، وتنمية الأعمال الزراعية وخدمات الدعم ذات الصلة، وتعزيز السياسات الموجهة نحو إضفاء الطابع الرسمي على المشاريع المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة الحجم، ونموها، بما في ذلك الحصول على الخدمات المالية بصورة سريعة والتي تنعكس بصورة أسرع على معاش الناس، كذلك التخفيف من عدم وجود توازن في التنمية بين ولايات السودان المختلفة وسكانها.

وبالإضافة لدور الدولة الأهم، يُعول أيضا على مبادرات المجتمع المدني في تدريب ورفع القدرات لهذه الشرائح، خاصة شريحة النساء العاملات في القطاع غير المنظم مثل بائعات الشاي والأطعمة بالخرطوم (والمدن الكبيرة الأخرى) من خلال تنظيم أنفسهن في جمعيات تعاونية بغرض مساعدتهن في مناصرة حقوقهن وحماية أنفسهن وتطوير مهاراتهن للمنافسة في مجالات أكثر رحابة وصولاً لانخراطهن في بيئات عمل لائقة وآمنة، تدر عليهن دخلا ثابتا ومحميا بكل الحقوق الاجتماعية والقانونية الملزمة.




nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء