العودة

 


 

 

فتحت عينى..وجدت نفسى فى غرفة بيضاء حوائطها ، بجوار السرير وقف طبيب يضع سماعة على عنقه وعلى شفتيه ابتسامة. الطبيب قال لى : حمدلله على السلامة....لا أدرى لما شعرت أنه يتحمد السلامة لنفسه قبل أن يتحمدها لى.

قلت له : ما الذى اعترانى ؟. قال : أصبت بغيبوبة لم نعرف لها سببا علميا  ،ولازمتك عامين، رغم أننا قد أسعفناك بسرعة ، وأجرينا لك عملية جراحية ، وبكل المقاييس الطبية كان يفترض أن تفيق خلال أربعة وعشرين ساعة ، ولكنك لم تفعل ، حتى ظننا أنه لا أمل فى عودتك لعالمنا مرة أخرى. وكنا طيلة هذه الفترة فى إنتظارك لتقوم بتسليم السر الإلهى ، ولكن ربك سلم ولطف.

عجبا !...هل لبثت على هذا السرير عامين ؟! .

قبل أن أسترسل فى أسئلتى مع نفسى إنفتح باب الغرفة، ودلف الأهل والأصدقاء...وجدت نفسى أنهض لمصافحتهم ، بهمة ونشاط ، وكأننى مستيقظ من نومى وليس من غيبوبة !.

دخلت إلى الحمام...استحممت على عجالة، وبدلت ملابسى....شعرت أن ملابسى ضاقت على ...نظرت إلى المرآة..رأيت وجهى متورما...دققت النظر مرة أخرى...كلا ..ليس هذا بورم ...بل سمنة ! ..كانت عيناى صافيتين ..أنا لم أكن أنا !...بداخلى تفاؤل وسعادة غريبة أحسهما لأول مرة !.

أخذت ألمم فى أغراضى ، وأيادى الأهل والأصدقاء تمتد لى بالمساعدة...لحظة من فضلك ! ...هكذا حدثت نفسى ..هناك من الأهل والأصدقاء من كان مغتربا لسنوات طويلة ...ولكنى أراهم فى غرفتى الآن ...ما الذى أتى بهم ؟ هل تراهم قدموا خصيصا لمؤازرتى فى مرضى ؟ . سرعة الإيقاع وكثرة المفاجآت أعطت عقلى أمرا أن يتوقف عن التفكير.

فى طريقى للخروج من باب المستشفى لاحظت أن جميع العاملين بالمستشفى والمرضى والمرافقين تعلو شفاههم ابتسامة ، وعلى وجوههم راحة بادية للعيان !.

فى الطريق للمنزل ، وأنا مستلق بداخل عربة أحد الأصدقاء لاحظت أن الشوارع نظيفة للغاية، وأنها مسفلتة، وأن الإضاءة كانت هى سيدة الموقف ، والأشجار منتصبة ، الناس كانوا نظيفى الملابس ومبتسمين...لم يكن هنالك باعة جائلين ، ولا متسولين ، لم تكن هنالك اشارات مرور ...الشوارع امتلأت بالكبارى الطائرة... أين رجال المرور ؟. هكذا سألت صديقى صاحب العربة...ضحك حتى سالت دموعه على خديه وقال : فى مكاتبهم .. قلت له كيف هذا الأمر ؟. قال : اسمع ياصديقى ولك مطلق الحرية فى أن تصدق أولا تصدق...إنها معجزة بكل المقايس...لا أدرى كيف ومتى وأين تم الإتفاق على ذلك..وكأنها خطة موضوعة منذ عشرات السنين.والأغرب أن التنفيذ لم تعترضه عوائق ،ولا متآمرين، ولا معترضين...كأن الناس كلهم كانوا على قلب رجل واحد !..... وابتدأ فى الحديث.

لقد تم دمج جميع الأحزاب السياسية فى حزبين...الأول وهو حزب (المحافظين )، ويضم الأحزاب ذات الطابع الدينى والطائفى ، والثانى هو حزب (الديموقراطيين) ويضم جميع الفئات والتيارات اليسارية...تم إلغاء الصحف الرياضية والإجتماعية ...استردت كل الأموال الموجودة فى الخارج...تمت محاكمة المفسدين وأعدموا .. النزاعات القبلية والجهوية والحركات المسلحة قد توقفت... تقلص عدد الوزراء والوزارات إلى تسعة فقط...تحولت البلاد إلى خمس أقاليم فقط..الاقليم الشمالى والشرقى والجنوبى والغربى والأوسط.
تم الغاء المدارس والجامعات الخاصة....عادت المسارح ودور السينما والأندية وجميع أماكن الترفيه...ظهر مغنيون وشعراء جدد ، جملوا سماوات البلاد بجميل الغناء..عادت الدورات المدرسية...استغنت فرق كرة القدم عن المحترفين واستعانت بالوطنيين..واليوم سيلتقى فريقا القمة على كأس السوبر الإفريقى ..وبالمناسبة .. فريقنا القومى تأهل إلى نهائيات كأس العالم... غادر رؤساء التحرير الصحف طواعية وليس إكراها وقسرا ،  تلك الصحف تحولت لخمس صحف فقط ،وتولى بعد أولئك الرؤساء  آخرون أكثر تأهيلا..

واصل صديقى فى الحديث : إختفت المذيعات ذات الجمال المصنوع والجهل المفضوح...صار الناس أكثر تهذيبا ...إنتشترت الندوات والروايات الأدبية...إزدهرت المصانع والزراعة...عاد جميع المغتربين ليساهموا فى بناء وطنهم ... دخلت البلاد شركات امريكية والمانية وفرنسية وايطالية وروسية للعمل فى مجالات الصناعة والتعدين والبترول والزراعة ...عادت بعثات التعليم الخارجية...لغة التدريس فى الجامعات عادت كما السابق ، هى اللغة الانجليزية....إختفت معالم وظواهر النفاق والدجل الدينى...الأقاليم أصابها التعمير ، وكل عاد لإقليمه..عادت إصدارات المجلات القديمة..صار جيشنا مؤهلا، وباتت الشرطة فى خدمة الشعب حقا و.....و....و....

أكثر الرجل من الحديث ، وأنا هائم فى ما أراه على الشارع و ما اسمعه منه !. فجأة سألته : كيف حدث ذلك ؟ .  هل غزتنا الدول الأوربية ؟ هل هى أمريكا ؟ هل حدث إنقلاب عسكرى ؟ هل .....

أوقف الرجل عربته بصورة مفاجئة، مما جعلنى أتوقف عن طرح  الأسئلة التى تنهمر على رأسه كما المطر ، والتفت إلى والحيرة تكسو وجهه ، ثم قال : هل تقصد كيف حدث التغيير ؟! . اجبته : نعم..كيف حدث ؟. حدق فى صديقى مليا ...وشعرت أنه يرتاب فى قواى العقلية...ثم قال لى : هل أنت جاد ؟! .أقسمت له أننى لم أكن جادا فى حياتى مثلما هو أنا الآن .

أجابنى بتساؤل وفى عينيه حيرة ، وإندهاش، وحزن، وشفقة :

وماذا عن الرصاصة التى أصابتك فى رأسك !.. وبسببها دخلت فى تلك الغيبوبة الطويلة ؟!!.

قلت له : عن أى رصاصة تتحدث ؟!!!.

قال : تلك الرصاصة الطائشة التى أصابتك فى اليوم الأول للإنتفاضة والثورة الشعبية  ؟!!!!! .

محمود


mahmoudelsheikh@yahoo.com

 

آراء