الفتنة بالشباب: طيشٌ ما بعده طيش

 


 

 


لا أجد من الكلمات ما يمكن أن أصف به طيش الشباب والكهول والشيوخ عندنا من الذين لا يكفون عن المناداة بعزل "العواجيز" من الحياة السياسية والأكاديمية والاجتماعية، ووضعهم في "سلة مهملات" التاريخ باعتبار أن صلاحيتهم قد انتهت، ولم يبقَ لهم إلا الحج ثم انتظار الموت! ولم يسلم حتى "أهل الغناء والطرب" من التشنيع والتجريح والسخرية باعتبارهم "كوامر معمرة" انتهى وقتها الافتراضي. أصف تلك الدعوات (المخالفة للمنطق والحقيقة والقانون كذلك) وبكل تهذيب ممكن، بأنها دعوة طائشة، لأنها تنطلق من تعميم ضار، وتبسيط مخل، وخفة وجزافية يقول بأن القدرة على الإنتاج والعمل والخلق والإبداع تجف وتنضب ويغور ماؤها عند "كبار السن"، بينما هي حيَّة تنبض بالفتوة والإقدام و"الثورة" عند "الشباب". هذا الحكم المتعسف الظالم الجائر ليس له من شاهد أو سند علمي أو تاريخي أو منطقي. فالثابت أن معايير الإنتاج والخلق والإبداع لا تعتد بالعمر البيولوجي أو بتقادم السنين. وإن كنا لا نزال أسرى لنصائح وآراء الشعراء العرب الذين يحدثوننا عن سأم الحياة بعد الثمانين، وعن كيف أن "سبعين (عاماً) قصَّرتِ الخُطَا" وذلك البيت المنسوب للبيد قبل آلاف السنين:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس أين لبيد
فسيكون هذا مما يؤسف له حقا، خاصة في عصرنا هذا الذي لا يحتاج فيه المرء (ذكراً كان أم امرأة) لقوة عضلات مفتولة، ولا لهرمونات هائجة مائجة، ولا لوجه يخلو من التجاعيد، لينتج وليبدع ويستثمر عقله وطاقته في فائدة مجتمعه الصغير، والبشرية عامة.
الفتنة عندنا بالشباب قائمة، والحديث في هرجها الحالي لا ينقضي عن "أهمية دور الشباب" وعن "تمكين الشباب" وعن قصر المناصب السياسية الهامة بالدولة عليهم. كل هذا وليس هنالك من شبهة اتفاق حول تعريف من هم هؤلاء "الشباب"! مفهوم "الشباب" عندنا نفسه مفهوم ملتبس وغامض وعرضة لمختلف التعريفات والتفسيرات. فبينما يقول بعض رجال الحكومة أنفسهم (وهم بحمد الله كهول وشيوخ) إن المناصب لن تُعطى لمن تخطَّى تلك السن السحرية الجزافية العشوائية العجيبة (سن الستين)، نجد أن "شبابنا" (الطامح المبارك) يفخر بمغنيه الأول، والذي يقول إنه ولد (وبحسب شهادة "الأحداث" في عددها الصادر في يوم 26/8/11) في عام النكسة العربية في 1967م، ويا لها من مصادفة وتوافق عجيب! هل سيأتي علينا يوم تحدد لنا فيه نقابة المهن الموسيقية تصنيفات عمرية للمغنين، ينتقل بعد كل مرحلة عمرية المغني من فئة "الصبيان" إلى فئة "الشباب" ثم ينهي حياته الفنية – مأسوفاً عليه بالطبع - في فئة "الكوامر المعمرة"!؟ كل شيء جائز في هذا الزمان "الشبابي" العجيب!  
سمعنا قبل سنوات عن "الهجمة الشرسة" التي شنتها أعرق جامعة سودانية للتخلص من أساتذتها الذين تخطوا الستين من أعمارهم، وكأن قدرتهم على التدريس والبحث وخدمة المجتمع قد نضبت، وكأن خبرة سنواتهم "الطويلة" في العمل الأكاديمي وعطائهم في أوساط مجتمعهم العام قد نفدت. لم يتوقف أحد ليبحث – بصورة علمية ومحايدة ومنصفة - ويقارن بين التميُّز في التدريس والإنتاج العلمي لأولئك الذين زعموا أنهم استنفدوا أغراضهم، وانتهت صلاحيتهم (كعلب الطعام الفاسد)، مع هؤلاء "المخلدين" من الشباب الذين حلُّوا محلهم. هل من دليل قاطع أن الشباب "منتج" و"مبدع" و"خلاَّق" وأن الشيوخ والكهول ليسوا كذلك... هكذا ضربة لازب! هل يقول بذلك عاقل؟
كثيراً ما نسمع من دعوات من بعض السياسيين (في الحكومة والمعارضة) بضرورة "إفساح المجال" للشباب ليتبوأوا مناصب عليا في الوزارات والأحزاب والنقابات... وفاتهم أن من يطمح لتبؤ مثل هذه المناصب لا ينتظر أن "يفسح له المجال"، فمثل هذا يمكن أن يقال لجهة مستضعفة بفعل الإعاقة الذهنية أو الجسدية، أو بفعل تقاليد بالية تراكمت ورانت على قلوب وعقول الناس. هذه المناصب القيادية يجب أن يشغلها الأكُفَّاء من ذوي التأهيل والقدرة الذين يفرضون أنفسهم بعلمهم وعطائهم وجهدهم، ولا مجال البتة للنظر في عمر من هو أهل للقيادة. العبرة بالقوة والأمانة والقدرة على العطاء، وليس غير ذلك من اعتبارات العمر أو الجنس أو القبيلة أو الأصل أو غير ذلك من المتغيرات والثوابت. لنا في تراثنا المجيد ما يؤيد ذلك، فلقد تولى قيادة الجيوش الإسلامية في مختلف العصور على سبيل المثال شيوخ وكهول وشباب صغير أيضا. ولنا في التراث العالمي - أيضاً - الكثير من العبر والأمثلة الدالة على ذلك. فهل فات على البريطانيين أن ونستون تشرشل (1874–1965م) قاد بلاده في سنوات الحرب العالمية الثانية وهو في منتصف الستينات من عمره، وغدا زعيماً للمعارضة، ثم رئيساً للوزارة حتى عام 1955م وهو في الثمانينات من عمره؟ وهل فات عليهم أيضاً انتخاب "توني بلير" كرئيس للوزراء وهو في الرابعة والأربعين، أو مؤخراً "ديفيد كاميرون" وهو في ذات العمر؟ وماذا عن الأمريكيين الذين انتخبوا – على سبيل المثال لا الحصر - رونالد ريجان وعمره 70 عاما، ولبث في الحكم حتى صار عمره 78 عاما، وفي آخر انتخابات أمريكية نافس الرئيس الحالي أوباما (الذي تولَّى الحكم وله من العمر 38 سنة) شيخ كبير ومحارب قديم هو جون ماكين والذي كان عمره في 2008م (عام الانتخابات تلك) 62 عاماً (فقط)، وكان من الممكن جداً أن يكون رئيساً لأقوى دولة في العالم اليوم وهو يخطو حثيثاً نحو السبعين.
من حديث الأساطير والخرافات التي تبث على الناس هذه الأيام أن "الشباب" هم (فقط) من يحدبون على التغيير والإصلاح والثورة، فيسعى بعض من "الشباب" (تجاوزا) ليكون فرعاً جديداً لحزب قائم بدعوى أن "القيادة التاريخية" قد هرمت (ويستشهدون بذلك التونسي البائس الذي صرخ في عجز بأننا "قد هرمنا")، ولم يعد لها من وجود فعلي على الأرض. أنسوا أم تناسوا أن من عمل فعلياً للتحضير لغالب الثورات التي تجتاح رياحها العاتية العالم العربي المعذب المنكود، ومن يقودها هم من الرجال المتقدمين في السن، ولنتأمل في أعمار قادة الثورة في ليبيا واليمن وتونس ومصر! ولنقارن القيادات التي تتصدر العمل الحزبي في بلادنا (مهما تكن عليها من مآخذ جمة) بقادة ما انفصل من تلك الأحزاب، فأي شاب يضارع الترابي ونقد والصادق والصادق والهدية فهماً وعلماً بل ونشاطاً جسدياً (وهذا بالطبع ليس دفاعاً عن هؤلاء "الشيوخ الكبار" وعن أفكارهم، ولكنه فقط لتأكيد ما أزعمه من أن العمر البيولوجي لا قيمة له، وأن الواجب النظر إلى المرء وما يحسن، فما قيمة شاب قانع لا خير فيه، وصفه شاعر بقوله: 
فشبابُ قومي وهْن حـاضرِنا نأى بِهِمُ عن الـتفكيرِ في ماضينا
شُغلوا بنبش خلافِهم والخوضِ فيما ليسَ يُسمننا ولا يُغنينا
عند مقارنته بمن صرم سنوات طويلة من عمره في الدرس والتحصيل وطلب المعالي والدفاع عن قضايا شعبه وأمته وفكره السياسي، وعركته السنون وخبر دروب السياسة الحكم. وهل يصلح أن تكون البلاد، ومصالح العباد فيها "حقل تجارب" لكل من ظن في نفسه – دون دليل عملي - القدرة على القيادة. وهل يجوز أيضاً التفكير – مجرد التفكير - في المفاضلة بين من أفنى زهرة شبابه (كما جرى التعبير العجيب) في البحث العلمي الجاد الصارم، وتراكمت عنده تجارب قيمة وخبرة عظيمة في التنقيب والبحث والتأصيل والكتابة والنشر، بالحدث المستجد في هذه الأمور. وعلى ذكر العمر وعدم علاقته المباشرة بالقدرة على العطاء والإبداع، فلقد قرأت للصحفية "باتريشيا كوين" مقالاً في صحيفة هيرالد تربيون العالمية في عددها الصادر في 17/8/2011م مقالاً (تم نشره من قبل في نيويورك تايمز وعدد من الصحف الأخرى) عن البروفيسور إحسان يارشاطر، وهو عالم إيراني يعيش في الولايات المتحدة عمره الآن 91 عاماً (ألَّف 18 كتاباً ومئات المقالات) ويعكف يومياً وبلا انقطاع منذ نحو أربعة عقود لمدة 12 ساعة أو أكثر دون استراحة قصيرة على إكمال موسوعة شاملة (ومحايدة، كما يقول) عن إيران. لفت نظري أن الرجل حاول – وكثيراً جداً - الحصول على عون من زملاء أصغر منه عمرا، فلم يجد فيهم جلداً على الصبر على مكاره الدرس والبحث والتنقيب. أشارت كاتبة المقال في بداية مقالتها عن البروفيسور الإيراني "العجوز!" إلى أمثلة عديدة للذين ثابروا على العمل المتصل في سبيل إنجاز أعمالهم، فذكرت "رالف اليسون" الذي ظل يكتب في رواية لمدة 40 سنة، دون أن يكملها، والمهندس المعماري الإسباني انتوني جودي (1852–1926م) والذي ظل يعمل لنحو أربعة عقود متصلة في ترميم كنيسة شهيرة في برشلونة، ولا تزال عملية الترميم قائمة على قدم وساق حتى كتابة هذه السطور!
لا شك أن كثيراً من "الدول المتقدمة" (بحسب عبارة السني الشهيرة في فيلم "الإرهاب والكباب") تحرم التفرقة بين الناس بسبب العمر. فالقانون في أمريكا الشمالية وبلدان الاتحاد الأوربي مثلاً يحرم (ويجرم) التفريق (المحسوس منه واللاشعوري) بين الناس في فرص الحصول على عمل بسبب العمر. ينبغي، رغم ذلك، ذكر أن كثيراً من المؤسسات تتحايل على هذا القانون بطرق ملتوية خبيثة. وكنت قد أشرت في مقال سابق لحالة الرجل التسعيني (والد اقتصادي أمريكي حائز على جائزة نوبل) والذي شكا من أنه يشك في أن الشركة التي يعمل بها كسمسار للعقارات قد فصلته تعسفياً بسبب عمره "المتقدم"!
ليس من باب تيئييس"الشباب" أو الحط من قدرهم أن نذكرهم بالقمم التي ما زالت تعطي لهذا الشعب (معنى أن تعيش وتنتصر) وتبدع وتنتج. فلينظروا – على سبيل المثال لا الحصر - للشيوخ الأجلاء مثل إبراهيم الصلحي في مجال التشكيل الفني، ومحمد المكي إبراهيم في مجال الشعر، وأحمد محمد الحسن في مجال الأبحاث العلمية، ومحجوب محمد صالح في مجال الصحافة ومحمد وردي في مجال الغناء، وحتى من لا يبدع وينتج كما كان في عهد "الشباب" (مثل لاعبي الكرة الأماجد) نجده يعطي في ميادين التدريب والتوجيه والإرشاد...
الحياة رحبة واسعة تتسع لصغار المواليد والشيوخ، (ولكل من هم بين ذلك من فئات عمرية). هذه من سنن الله في الكون، و"لن تجد لسنة الله تبديلا"!

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء