mohamed@badawi.de
في كل بقعة تجدها مسترسلة ناصعة البياض ترقد على محيط وجوه سمراء مستديرة، تعلوها "زبيبة" بلون بلح موسم قضى، تغطي الجبين في استواء وامتداد. يسعى بها رجالٌ بعمامات خضراء مستبرقة، فيعكس صفاء بياضها لمن يراها طمأنينة عميقة وتقوى راسخة وايمان لا يتزعزع. لا يعتريك عند رؤيتها أي شك ولا يتبدّى بها أي مؤشر يدلُّ على نفاق أو ضلال! نعم هي ذقون طويلة ولحى مسترسلة وعنافق حمراء بلون الحنّاء لرجال ما خلقوا إلا للعصمة والزهد! ومن ورائها (أي الذقون) ترى نسوة "يتزملن" عباءات سوداء كالخيم، يتطلعن بأعينهن المشرئبة من وراء أستار شفافة إلى الأفق البعيد؛ توحي تلك الأعين بنظرة غامضة، غريبة وأغلب الظن منكسرة، لكن ماذا وراء تلكم الأعين يا تُرى؟ لوحة مستقاة من صميم واقعنا، ومن قلب أسواقنا وطرقاتنا، تُجسّم طابعا لم نعرفه بهذه الكثافة قبل عقود الإنقاذ، اللهم إلا في قلّة قليلة من بلدان العالم العربي. فمن يا تُرى جلب أو قل خلق هذه اللوحة في سودان اليوم؟ أهل هو وجه لوطن غريب لا نعرفه، أُلبِسَ ثوب هويّة غريبة عنه؟ أم أنها هويتنا الآنية ومذ أن أبصرت أعيننا لحن الحياة؟
إن ضياع الهوية في غضون الثلاثة عقود السابقة والتي تجسمت في "أسلفة" المجتمع، صار أمرا واقعا وملموسا نحسه أيضا في عملية تجريد الدين وافراغه من مضامينه وجوهره المثالي وجعله جسد سطحي مفرغ بلا روح. لقد استحوذ الزحف الصحراوي للتدين الزائف كل طبقات المجتمع في البادية وفي الحضر فصار داءً عضالا وسِتاراً تتخفّى من وراءه أعنف صور الإجرام وأقذع جرائم الانحراف السلوكي. لقد ظلت حكومة الإنقاذ تعمل بنظام الجماعات التبشيرية كجماعات السينتولجي. فظلت تعمل بجديّة وعمق في توسيع رقعة الأسلفة أو قل الأسلمة السياسية بغرض التحكم التام في الفرد بعد تحكمها في الدولة عبر أعمدتها العميقة. وفي هذه المنظومة يحل الرجل الأكبر من المتأسلفين المتأسلمين محل الخالق محتكرا بذلك السلطة التشريعية والثوابية والعقابية عبر تنصيبه لنفسه وحدها دون منازع "خليفة الله على الأرض" ومن ثمّة يكون له كل الحريّة في تفسير، شرح وتطبيق إرادة الذات الإلهية حسب فهمه حتى ولو لم يهبه الخالق البارئ حظّا في الذكاء أو بصيرة في شؤون العلم. لذلك فقد صار الدين عندنا ادراكا متخيّلاً يتلحف عباءات الأُلوهيّة. كلنا يعلم يا سادتي، أن أهل السودان لم يغدُوا أكثر اسلاما وتقوى بعد مجيئ هؤلاء لأننا وبكل بساطة في الأصل مسلمين، ولم نحصل على رخصة "الإسلام" بعد الحصول على الرقم الوطني المختوم بختم الأسلفة كما يحسب بعض الفضلاء.
لقد أثبتت الأنظمة السلفيّة الوهابية بجماعاتها الكثيرة والمتباينة والتي اتسعت رقعتها منذ نهاية الألفية الثانية بصورة مزعجة في كل البلاد الإسلامية، سيما في السعودية، مصر، ليبيا، الأردن، سوريا وبالسودان أن سياساتها لا تخلو من انحطاط أخلاقي للسلطة، ومن تدهور قيميّ للدولة والمجتمع. لذا فالدولة ورجالاتها، قل الكل، يلجؤون إلى نظام "التكوين العكسي" المعروف في علم النفس؛ أي أنهم يُظهرون أمام الناس، بصورة لا شعوريّة، وجها لإسلام متعصب ومتشدد بالأخص على الآخرين لكن لا على أنفسهم. يعني يعكسون في الخارج ما يفقدون بدواخلهم وهي حيلة من حيل التضليل المدروسة في علم النفس. على كل حال وقفنا في شهر أبريل من هذه السنة على مدى الفساد الذي قام به هؤلاء ورأينا ووعينا وثُرنا لإنهم استباحوا حرمات البلاد والخلق باسم الدين ولا يزالون. لم أحسب يا سادتي يوما أن يكون هؤلاء من بني السودان! ولم أعتقد أبدأ أنهم بهذه الدرجة من الجشع وبهذه الكثافة من الانحطاط على كل مستوياته ومحاوره. رأينا عندهم إسلاما لم يعرفوه أو يعيشوه من قبل، ذلك ليوهموا أنفسهم أولا ومن ثمة بقية الشعب المغلوب على أمره، ليوحوا أنهم في دخيلتهم فاضلون، يوتوبيون، كرماء وفي قمة النزاهة. فتحليل هوية جنود السلف من المأسلمين المتأسلمين (كفاعل وكمن وقع عليه فعل الفاعل) يمكن أن نفسره بالآتي: ليس لمعظمهم غرض بجوهر الدين الحنيف وبالقيم الروحانية له؛ إذ أننا نشهد تغيرا جذرياً للقيم المتعارف عليها والتي حلّت محلها طقوس الرقص والتهليل والتكبير والتقوى المضللة والصلاح الزائف وطقوس الجنس والاباحيّة المتسترة في كل المحافل. فتحوّل الدين إلى روتين جماعي يبتغي الأفراد من وراءه مكاسب ومصالح شخصيّة فطغت عليه روح السطحيّة والطقوسية مما أدى إلى انحسار ضمير الفرد ليحل محله ضمير خارجي هشّ تحركه فتاوى قائمة على تصورات متخيّلة للذات الإلهية وبارك الله هاهنا في علماء السلطان من هيئة جهلاء السودان من شاكلة د. عبد الحي يوسف وكبيرهم الذي علمهم السحر، البروفيسور محمد عثمان صالح، الذي لقّنته الابنة المناضلة وئام شوقي في برنامج الدويتشة فيله (تلفزيون ألمانيا) درسا لن ينساه طيلة عمره. على كل كانت نتيجة كل ذلك أن ضاعت هويّتنا الأصلية التي عرفناها وصرنا نبحث عنها في ماض السبعينات والثمانينات ولكن سدا. وهكذا تجد على سبيل المثال لا الحصر، في مصر وسوريا وفي السودان في خلال العقود الماضية قد تغيرت هويّة الشعوب التي "تُؤسلمت وتُؤسلِفت" دون رجعة. فشتّان ما بين هوية السودان اليوم وسودان زمان، كما يسميّه بعضنا (سودان الزمن الجميل).
فالرجل المتأسلم سيما رجل الدولة العميقة من الإنقاذيين إخوان الشيطان له حاجة ماسة في اشباع غرائزه الدنيوية، دون ايمان بالقيم اللاهوتية الحقيقة والجوهريّة للإسلام، إذ تحركه دوافع بعيدة كل البعد عن سمات الورع والنزاهة التي ألفناها في أهل الذكر الحكيم وعند صوفية بلاد النيلين. أولئك الإنقاذيين هم دون أدنى شك أقرب لسلطان الدنيا من سلطان الآخرة.
أما إذا سألنا أنفسنا بصدق وأمانة ما هي اهتمامات الرجل السوداني خلال يومه، تجد الكل يفعل نفس الشيء: المسارعة للحاق بركب صلاة الجماعة، مجلفطين الوضوء مهرولين ومحافظين على الوقت بالدقيقة والثانية، مسارعين إلى كل جنازة ناسين أننا لم نزر هذا الميت ولو مرّة في حياته، ماسكين في شهر رمضان بكوب العصير المسكر الفاخر قبل ثانية من آذان المغرب في شهر رمضان، سائلين كل دقيقة، كم من الزمن تبقى؟ دقيقة أم دقيقتين، وحتى في ساعات العمل الرسمية فالمؤسسات الحكومية خير مثال للتسيب والانحراف المهنيّ فتجد أن مشاغل الناس وقضاياهم في ركوض تام لأن فلان عنده وفاة أو مأتم أو ذهب لقضاء الصلاة أو في العمرة أو عنده عرس أو في الفطور. كنت أدخل بعض المكاتب وأتعجب، الكل قد ألتفّ حول سفرة (طرابيزة) أحدهم وفرش الجرائد متوثبين للهجوم على الفولة المسؤولة التي تفوح منها رائحة البصل وزيت السمسم إن وُجدَ! تجد رائحة الفولة المسؤولة تفوح في كل مكان، ناهيك عن المنظر المذري عندما يدخل أحد المواطنين ويجد بعض موظفي الدولة على هذا الشكل! دعونا نطرح هذا السؤال: هل يؤدي كل فرد منّا واجبه تجاه الوطن وتجاه ذويه كما ينبغي؟
قرأت في غير مقام أن أحدا من جنود السلف قد صرّح بكل فخر، بأنه هو وأصدقاؤه في الله من أئمة العصر سينادون بإغلاق كل المواقع الإلكترونية والجامعات والمكاتب والمحال التجاريّة أثناء الصلوات، من ثمّة مسترسلا، أن بعض أولئك الفضلاء ينادي حتى بتعطيل الإنتاج وتجميد العمل وايقاف حركة الناس والمركبات على حد سواء في الشوارع وفي إشارات المرور. لذا يجب علينا أن نأخذ فكر السلف والوهابيين ومثل هذه التصريحات الخطيرة بكل جديّة واعتبار راسخ. وكل شيء ممكن تحت سماء بلاد النيل، فياما شفنا وياما عشنا!
لقد صرنا في مجتمعاتنا نتمسك بسفاسف الأمور دون إدراك جوهرها ولب حقائقها الدفينة، فلبسنا ثوب هويّة أخرى لا تَمُتُّ لنا بصلة. وها نحن ذا نرى الوضع الذليل والمتدهور الذي نعيشه والذي ما زال يتفاقم من يوم أي آخر. فأين موقع السودان بل العالم العربي بأجمعه من المنظومة العالمية، اجتماعية كانت أم علميّة. لقد انشغلنا بالدين والتدين الزائف أكثر من انشغالنا بتطوير ذواتنا والبيئة التي نعيش بها في إطار العالم المتحضر. فمشى ركب الأمم وبقينا "كحال زيدان الكسلان عندما يقول: غدا أحرث من هنا إلى هناك"، صرنا لا نحرك ساكنا، في زمن ينبغي علينا جمعيا أن نعمل فيه بمبدأ: "الدين المعاملة" و"العمل عبادة".
رجع أخونا يتذكر تلك اللوحة: رجال بذقون بيضاء ونساء في عباءات سوداء يتطلعن إلى الأفق من وراء أستارهن الشفافة وهو ينطبق على الأرض رويدا رويدا. وهو كعادته ينطبق على أرضنا هذه دون أخرى، فيعصرها عصرا حتى تزهق روحها وتحيا بعد لأي مرّه أخرى ليعيد عليها الكرّة. فنحن كل يوم نموت وفي الغد نحيا لنموت وهلم جرّ. فلنصحى من سباتنا العميق ونجعل مسار التاريخ في أيدينا حتى لا نترك شيئا للصدفة. فَلنَصُبَّنَها في القيادة في غضون الشهر المبارك صَبًّا، ولَنُكبِّرنَّها ببابها الوراء حتى تسقط مثن وثلاث ورباع، وستسقط بس.
--