اللواء عمر نمر وثقافة الإعتذار

 


 

 


boulkea@gmail.com

كتبتُ كثيراً عن إمتناع قيادات "الإنقاذ" بمُختلف مواقعهم الحزبية الحالية من الإعتذار عن الأخطاء الكثيرة التي إرتكبوها في حق الوطن, وفي مقدمتها خطأ القيام بالإنقلاب العسكري على الحكومة الديموقراطية التي كانوا جزءاً منها في يونيو 1989.

وقلتُ أنَّ صعوبة تقبُّل فكرة الإعتذار تتمثل في تعارضها مع فكرة "الحق الشخصي", وهى تزدادصعوبة مع الأفراد أصحاب الشخصيات المتضخمة, والشخص الذي يرفض الإعتذار هو في الواقعضحيَّة  ثقافة معلولة, ثقافة قائمة على اليقينيات والجزم والرأي الواحد والاتجاه الواحد.

وتتضاعفُ صعوبة تقديم الإعتذار لدى أصحاب تيار "الإسلام السياسي" كون أنَّ المنهج الذيينشأون عليه يقوم على فكرة "الإستعلاء" على الآخر , أياً كان هذا الآخر, فرداً أو جماعة أو ملة أخرىأو شعباً.

غير أنَّ خبراً ورد في صحيفة "الجريدة" الأسبوع الماضي لفت نظري إلى تصريحٍ فريد في نوعه منسوب لرئيس المجلس الأعلى للبيئة والتنمية الحضرية اللواء (م) "عمر نمر" قال فيه أنَّ (المواطن فقدالثقة في الحكومة ليس في مجال النظافة فقط وإنما في مجالات كثيرة, وأنَّ إعادة الثقة لن تتم الابالنزول للمواطنين وتحقيق الشراكة الحقيقية بينهم والحكومة), وأضاف قائلاً (نعتذر للمواطنينالمتضررين من وجود النفايات).

يُحمدُ للواء عمر نمر تصريحهُ هذا, وشجاعتهُ في تقديم "الإعتذار" للمواطنين المُتضررين من التقصير الحكومي في موضوع النفايات, وهو إعتذارٌ يجبُ ألا يمُرَّ مرور الكرام, لأنهُ يعتبر الإعتذار "الأوحد" في مجاله من شخصٍ يتسنم موقعاً في سلطة الإنقاذ بحسب علم كاتب هذه السُّطور.

الإعتذارُ ليس قيمة غير ذات جدوى, ولكنه ضرورة, ومطلب أساسي للتعافي, وإعتذار المسؤول علىوجه الخصوص أمرٌ في غاية الأهميَّة لأنه يرتبط بالمصلحة العامة والشأن الوطني, و هو الأمر الذي منشأنه أن يجعل المسؤول يُفكر مرتين قبل أن يُقدم على أي تصرف قد يؤدي إلى مشاكل تلحق بالمواطنين.

أمَّا المسؤول الذي يزدري "الشعب" في قرارة نفسه و "يتعالى" عليه فلا يأبه بقيمة الإعتذار لأنهيفترض أنَّ الناس لا يستحقون ذلك, وأنَّ بإمكانه إرتكاب الخطأ تلو الآخر دون أن يؤثر ذلك على وضعهومكانته, ودون أن تترتب على ذلك أية مسئوليات.

ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ فكرة الإعتذار وحدها ليست كافية, ولكن فعاليتها تتأكدُ بصورة أكبر عندما ترتبطُ  بفكرة "المُحاسبة" التي تسري على المسئول بحسب النظم والقوانين واللوائح, وبفكرة "المُراقبة" التي تمارسها "الأجهزة التشريعية" على الحكومة, وبالإعلام والرأي العام الذي يُكمِّل تلك القوانين والسلطات.

وعندما تغيب كل هذه الأمور, فإنَّ المسؤول "يدمن" إرتكاب الأخطاء, ولا يأبهُ بأية شىء سوى العمل على إرضاء الجهات التي أتت به إلى منصبهِ, وهى الحالة التي تترسَّخ في ظل الأنظمة الشمولية, ومعإستمرار تكرار الأخطاء يقع "المحظور" الذي تحدَّث عنه اللواء عمر, وهو أن يفقد المواطن "الثقة" في الحكومة.

أمَّا فقدان المواطن للثقة في الحكومة فهو كما يعلم الجميع لم يتولَّد بين عشيَّة وضحاها, بل كان نتيجة للتراكم  والتكرار المُمل للوعود التي لا تتحقق, والشعارات التي لا تتنزل إلى أرض الواقع, والبرامج التي لا تطبق.

فعندما ترفع حكومة ما شعار "نأكل ممَّا نزرع" فور إستلامها للحكم , و بعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمان من حكمها يظل البلد يستورد جل سلعه الغذائية, من القمح والسكر والشاي ومنتجات الألبان, وحتى الأسماك والخضر والفواكه ( ينفق السودان ما يزيد عن 2 مليار دولار في إستيرادالمواد الغذائية) فكيف إذن لا يفقد المواطن الثقة في تلك الحكومة ؟         

وعندما يقف وزير المالية داخل قبة البرلمان ويعلن "بالفم المليان" أنَّ الميزانية لا تحتوي على رسومٍ إضافية على المواطن, ولا تتضَّمن رفعاً جديداً للدعم عن السلع, ثم يُفاجأ الناس قبل مرور شهرين فقط من حديثه بأنَّ الحكومة رفعت دعمها عن ثلاثة مشتقات بترولية من بينها غاز الطبخ الذي تضاعف سعره ثلاث مرَّات, فكيف إذن لا يفقد المواطن الثقة في الحكومة ؟

وعندما يقف الوزير المسؤول ويُعلن على رؤوس الأشهاد في كلمته أثناء إفتتاح "سد مروي" بأنَّ عهد قطوعات الكهرباء قد ولى إلى غير رجعة, وأنَّ المشروع الذي صُرفت عليه مليارات الدولارات من أموال القروض التي ستتحمل أعبائها الأجيال القادمة سيحل مشكلة الكهرباء في البلاد, ثم يتفاجأ الناس بأنَّ قطوعات الكهرباء إزدادت وباتت تقع حتى في فصل "الشتاء", فكيف إذن لا يفقد المواطن الثقةفي الحكومة ؟

وعندما يظهر وزير المعادن إلى جوار شخص قيل أنه رئيس لشركة روسية مجهولة إكتشفت إحتياطياً للذهب في مربعين في شمال وشرق البلاد يصل لخمسين طناً من المعدن النفيس, بينما يقول الخبراء أنَّ إحتياطي العالم لا يتعدى المائة وخمسون ألف طن من الذهب المستخرج أو الكامن في باطنالأرض, فكيف لا يفقد المواطن ثقتهُ في الحكومة ؟

وعندما يستمع المواطن للمسؤولين الحكوميين يحدثونه  كل صباح ومساء عن "الشريعة" و "قيم السماء", عن الطهر والنزاهة والأمانة, بينما هو يرى الفساد المالي والإداري ينخرُ جسد الدولةويُشوِّه صورتها ويفرغها من هيبتها وشكلها, فإنَّ ذلك بلا شك يُعزِّز أزمة الثقة في الحكومة و في مؤسسات الدولة.

الشىء المؤكد هو أنَّ المواطن لم يفقد الثقة في الحكومة فحسب بل كذلك في السُّلطات الأخرى, فالمجالس النيابية التي يُفترض أن تعكس مشاكل الناس وتراقب الأداء الحكومي باتت وكأنها أحد أذرع الجهاز التنفيذي, تبصمُ على قراراته وتُجيز رسومه التي يثقل بها كاهل المواطنين يوماً بعد يوم فأضحت هى نفسها عبئاً إضافياً عليهم.

إنَّ الأمر الأكثر خطورة من فقدان المواطن للثقة في الحكومة هو وصول ذلك المواطن لحالة "اللامبالاة", وهى الحالة التي لا يقتصرُ أثرها السالب على علاقته بالحكومة فقط وإنما تمتَّدُ لتشمل تصرفاته و سلوكه تجاه الناس والمُجتمع بصورة شاملة, والتي تكون محصلتها المُدمرِّة هى "عدم الإكتراثبالمسؤولية", فيتحوَّل المواطن إلى كائن مُجرَّد من كافة النوايا الحسنة و النظرة الإيجابية تجاه المُجتمع والدولة ويتطبع بخصال الأنانية والفردانية, فهو فاقدٌ للأمل ويائسٌ من حدوث أية تغيير, وينتظرُ فرج السماء الذي قد يأتي أولا يأتي.

أخشى أن أقول أنَّ المواطن قد وصل إلى هذه المرحلة ( اللامبالاة), وهى المرحلة التي لا يُمكن تجاوزها عبر "ترميم" جدار الثقة المفقودة بينه وبين الحكومة فحسب, فالحاجة الآن شديدة "لإعادة بناء" شاملة, تتضمَّن إحداث "تحولات جذرية" في نظام الحُكم وتركيبة السُّلطة, في وسائل التنشئة والتربية, وفي سبل ترسيخ السلوك و القيم الأخلاقية و غرس المفاهيم التي من شأنها إعداد المواطن للإنقلابعلى هذه الحالة المُدمِّرة.

الحاجة الآن ماسة لإعادة ثقة المواطن في نفسه أولاً حتى يتم إنتشاله من حالة اليأس والإحباط وفقدان الأمل التي باتت تسيطر عليه, وللأسف الشديد فإنَّ طبيعة العصر تجعل من "الدولة" الأداة الأكثر فاعلية في القيام بهذه المهمة التي لا يُمكن أن تقوم بها المؤسسات المُجتمعية فقط, وبالتالي فإنه مالم يحدث التحوَّل الذي تحدثنا عنه في طبيعة الحُكم فستكون هذه المهمة من المستحيلات.

ولا حول ولا قوة إلا بالله

 

آراء