المأزق الاقتصادي في البحث عن التغيير
د. حسن بشير
19 January, 2012
19 January, 2012
جميع الذين ينادون بتغيير الواقع السوداني المرير الي واقع أفضل، سيواجهون مأزقا اقتصاديا صعبا، عليهم البحث في خيارات الخروج منه بشكل عملي، في برامج واضحة المعالم، محددة بالأساليب والإمكانيات والمدى الزمني اللازم وغيرها من محددات، تمس جوهر معاناة الناس الحالية وتقدم لهم أمل ما لتجاوزها في مدي زمني معقول لآي شخص علي قيد الحياة، يتطلع إلي أن يعيش بشكل طبيعي مثل بقية البشر الطبيعيين. هذا المأزق لا يستثني احد من دعاة التغيير ابتدأ من مقدمي المذكرات من داخل الحزب او الحركة الحاكمة ، مرورا بأحزاب المعارضة وحتى الحركات المسلحة الساعية للتغيير عبر القتال.من الضروري إدراك أن إي من الخيارات المقدمة لا نصيب لها في النجاح، إذا لم تستوفي شروط قبول غالبية السكان بمختلف مكوناتهم التي يحتويها الواقع السوداني بأعراقه واثنياته وثقافاته وأديانه المتعددة، وإذا لم تكن قادرة (الخيارات) علي الاستدامة.
بالرغم من أن دولة السودان المتبقية بعد انفصال الجنوب لها خصوصيتها المهمة من حيث الموارد والجغرافيا، إلا أن الأوضاع السياسية الصعبة بانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية تقدم صورة سلبية علي الصعيدين الإقليمي والدولي. لا تتيح تلك الصورة إمكانية توظيف اي موارد خارجية حقيقية في ألمدي المنظور للمساعدة في الخروج من المأزق الاقتصادي. يتطلب ذلك توفر شرط الاستقرار السياسي والاقتصادي واثبات أن السودان قد تجاوز أزماته التي تزيد من مخاطر الاستثمار النظامية وغير النظامية، التي تم التعرض لها وتفصيلها في العديد من البحوث والمنتديات والمقالات.. الخ.
تحتاج القوي السياسية الفاعلة الي المقدرة علي التنبؤ بالمستقبل والتحسب له اعتمادا علي قراءة الواقع والبحث في خيارات التغيير. ما هي النتائج المتوقعة لهذا السيناريو او ذاك؟ هناك الكثير من السيناريوهات إلا أن النتائج مبهمة ومعممة وضبابية. في هذا الإطار من المفيد الاستفادة من تجارب الدول التي جربت (الربيع العربي) وخرجت منه إلي واقع شديد الالتباس. في هذا الوضع من الأفضل اعتبار التأخير (نعمة) يجب استثمارها في اتخاذ مسار أكثر نضجا وعمليا.
في هذا الوضع وكما قال المحلل ومدير وحدة التهديدات العابرة للحدود والمخاطر السياسية في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، نايجل انكستر، ان الدرس الرئيسي لاستكشاف المخاطر السياسية ليس كيفية التنبؤ بطريقة أفضل بنوعية الأحداث التي ستجري فهذا ببساطة ليس ممكنا "بل ينبغي النظر إلى أنظمة مثل النظام المصري وطرح مزيدا من الأسئلة، مثل 'ماذا لو؟' التي لا تفترض أن الوضع القائم سيستمر"، حينئذ سيتمكن المستثمرون وغيرهم من المهتمين ببلد معين من بحث عدد من السيناريوهات المستقبلية والتفكير في كيفية التعامل مع كل من هذه السيناريوهات "رويترز". لكن المسألة عندنا لا علاقة لها بالمستثمرين، الذين لا وجود لهم بالمعني الواسع للكلمة، وإنما المعنيَ في المقام الأول هم السياسيون ودعاة التغيير، هذا بالطبع إذا كانوا جادين فعلا في تقديم خيار أفضل، وإذا كانت لديهم القدرة علي ذلك، في ألمدي المنظور.
في حالة المقدرة والاستعداد يمكن لسيناريوهات التغيير -أي كان نوعها- أن تبتعد عن الخيال لتقترب من الواقع، مع ملاحظة ان الواقع من النادر أن يتطابق مع (المخطط له)، كما أن المستقبل سيكون مختلفا عن الحاضر، حتى في شكله المتخَيل. إن الاتكاء علي قاعدة المظالم والاستياء البالغ من الفقر والحرمان ، عدم تساوي الفرص وتفشي الفساد، لا يعتبر كافيا لنوع من التعيير الذي يؤدي مباشرة إلي حالة تغير الوضع إلي (الأفضل المنشود).بهذا الشكل من الأفضل البحث عن سيناريوهات تنسجم مع اتجاهات التغيير الي واقع أفضل تحدده برامج معينة، يتم انتخابها مستقبلا وتضع حلولا واضحة للمأزق الاقتصادي الراهن بتداعياته الخطيرة.
مسألة تغيير واقع الاقتصاد السوداني في غاية الصعوبة، إذ أن اقتصاد البلاد يعاني من اختلال هيكلي مزمن. نجد ان مساهمة القطاعات المنتجة في الزراعة والصناعة والخدمات هزيلة ويتم الاعتماد الآن، بعد خروج البترول علي القطاع الريعي، وهو الأمر الذي يعتبر تعبيرا عن أزمة عميقة في الاقتصاد.حتى البرنامج الذي تم طرحه للتعامل مع أزمة الانفصال سمي ب(البرنامج الاسعافي). والحال كذلك فان الإسعاف هو مرحلة أولية للإنقاذ تسبق تشخيص الداء قبل تحديد العلاج اللازم، مما يعني ان الاقتصاد لا زال بعيدا من مرحلة الشفاء وفقط يتم إنعاشه وتهدئته بأنواع مختلفة وعينات عشوائية من العقاقير. من المتوقع إذن وعلي مدار الثلاث سنوات (2012- 214) أن يستمر التضخم الركودي في الارتفاع مع استمرار الضعف في مؤشرات النمو، الميزان التجاري، استقرار سعر الصرف واستمرار العجز في الموازنة العامة. هذا الوضع لا يبشر بخير علي مستويات الدخول وحماية المستهلك من نارين، ارتفاع الأسعار من جهة والندرة في السلع من جهة أخري، ومنها سلع بالغة الحيوية مثل الدواء.هذه المحنة ستستمر وفي هذه الحالة علي السياسيين ودعاة التغيير تقديم رؤيتهم حول حلها المستقبلي.
مما يمكن تعلمه من دروس الثورات العربية هو أن الحياة يجب أن تستمر لان عجلة الاقتصاد لا تقبل التوقف (هي في هذه الحالة مثل أنابيب بترول الجنوب العابرة للشمال)، المواطن بالطبع يحتاج للمعاملات اليومية، للصحة والتعليم ، المواصلات والأنشطة التجارية والاقتصادية، كيف سيتم التعامل مع هذا الواقع؟ في مثل هذه الحالات الطارئة لا يجدي الاستثمار الأجنبي او التجارة الخارجية او تصدير البترول.
علي القوي السياسية ان تعي وعورة الطريق الذي تسير فيه وخطورة المأزق الاقتصادي الراهن الذي يمر الآن بمرحلة الإسعاف تليها مرحلة الإنعاش ثم النهوض، ومن غير المعروف كم ستستمر أي من المرحلتين الأوليتين، إذ ليس بالضرورة ان ينجح برنامج الإسعاف الثلاثي الراهن في تحقيق أهدافه بالرغم من تواضعها. علي سبيل المثال فان عجز الموازنة العامة سيستمر مع نقص الموارد وتراجع المكاسب من عناصر الإنتاج المختلفة في قطاعات الإنتاج الحقيقي ومع ضعف أو سلبية النمو الذي لا يساعد في توليد فرص عمل جديدة، مما يفاقم من بطالة الخريجين بآثارها الاجتماعية القاتلة. هذه المشكلة رغم فظاعتها تبدو أكثر بساطة مقارنة مع استعادة التوازن الهيكلي للاقتصاد السوداني ومعالجة مشاكل الفقر وسوء التوزيع في الدخول والثروة السوقية والعينية. تلك الأوضاع ستنعكس علي قطاعات فاعلة حتى اليوم في الاقتصاد مثل الصحة، التعليم والعقارات. مع تراجع الدخول ستتراجع عائدات تلك القطاعات (التي بدأت فعليا)، كما ستتراجع مكاسب الاتصالات التي ما زالت تحلب لبنا في فم الموازنة العامة الذي أصيب بالجفاف والتشقق.
هذا المأزق لا تجدي معه مشروعات بمئات الملايين من الدولارات او تأجيل بضعة مليارات من الديون الخارجية، إنما يتطلب الوضع تغيرات جوهرية علي جميع الأصعدة والمستويات، وهذا شأن لا زال التعاطي معه يتم بشكل خطابي من اجل الاستهلاك السياسي في اغلب الأحوال. أما في جانب الكسب فما زالت النتائج ضعيفة الأمر الذي يجعل غالبية المهتمين والملمين بجوهر الأزمة والمأزق ينتظرون بدائل حقيقية تكون علي قدر التحدي.هذا أمر تدركه، بالمناسبة غالبية الشعب السوداني، الذي أصبح يمتاز بصعوبة الاستقطاب. من أين تأتي تلك البدائل؟ ما هي القوي الأكثر تأهيلا لمواجهة التحديات المستقبلية؟ ربما تحدد الإجابة علي مثل تلك التساؤلات مستقبل السودان والحكم علي بقائه دولة واحدة قابلة للتطور، أم سيكون مصيره إلي دولة فاشلة مصيرها التفكك والاندثار.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]