المسؤولية الجنائية والسياسية عن مقتل عشرات الشهداء واشتراطات الفريق البرهان

 


 

 

صرح الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة في اللقاء الذي أجراه معه تلفزيون السودان أنه على استعداد لتحمل المسؤولية إذا ثبت أنه أصدر توجيهات لملاحقة المتظاهرين، أو تعليمات لقتلهم خلال الاحتجاجات. ومن الواضح أن السيد البرهان يشير إلى المسؤولية القانونية التي تستند إلى نصوص التشريعات الجنائية، ويمكن أن تؤسس عليها إجراءات المحاسبة الجزائية وتوقع بموجبها العقوبات. ويغفل هذا القول أمرين أساسيين هما أنه من المستحيل في ظل الظروف الحالية والأوضاع القانونية الماثلة الوصول إلى نتائج نزيهة وشفافة تبين مسؤولية أي عسكري يتبع للقوات النظامية سواء كانت القوات المسلحة أو الشرطة أو المخابرات العامة، دع عنك أن يكون هذا الشخص هو السيد الفريق عبد الفتاح البرهان. كما أنه في ذات الوقت يغض الطرف تماماً عن المسؤولية السياسية عن مقتل الشهداء في احتجاجات سلمية ضد الانقلاب العسكري.

بالنسبة للمسؤولية الجنائية فيوجد مانع إجرائي يحول دون التحقيق النزيه والوصول إلى الحقيقة وهو أمر الطوارئ رقم (3) لسنة 2021 بتفويض سلطات والقبض على الأشخاص ومنح الحصانات، الذي أصدره الفريق البرهان ونص في مادته السادسة على حماية القوات النظامية فذكر: (لا يجوز اتخاذ أي إجراءات في مواجهة أفراد القوات النظامية التي تتولى تنفيذ قانون الطوارئ وحماية السلامة العامة لسنة 1997 أو اللوائح أو الأوامر الصادرة بموجبه إلا بإذن من رئيس مجلس السيادة أو من يفوضه وبعد مراعاة أحكام القوانين التي تحكم هذه القوات). وعدم اتخاذ إجراءات في مواجهة أفراد القوات النظامية إلا بإذن من رئيس مجلس السيادة نص عام حبك بالقدر الذي يحمي العسكريين الذين تصدوا للمظاهرات، وهم بالطبع أحد المشتبه بهم ، ويملكون جزءا كبيراً من معرفة حقيقة الأحداث التي أدت إلى مقتل الشهداء، وتشمل هذه الحماية والحصانة المتينة الفريق البرهان نفسه. ومن ثم فإن القول بتحمل النتيجة إذا ثبت أنه أصدر توجيهات لملاحقة المتظاهرين، أو تعليمات بقتلهم قول مرسل لا يستند إلى آلية واضحة تؤدي إلى تحديد المسؤولية وتوضيح نتائجها.

عملياً أصدر الفريق البرهان، قراراً بتشكيل لجنة تقصي حقائق حول الأحداث التي وقعت خلال تظاهرات 17 يناير وأدت إلى مقتل عدد من الشهداء، وشملت عضوية اللجنة أفراداً من القوات النظامية والنيابة العامة، وحدد القرار للجنة مهلة 72 ساعة لرفع إجراءاتها إلى مجلس السيادة. ومر ما يربو على شهر منذ تشكيل اللجنة دون أن يظهر في الأفق ما يدل على نتائج حول مخرجاتها، أو تحديد المسؤوليات حول من توجه إليه مؤشرات الاتهام، مما يبرهن على عدم جدوى هذه الإجراءات في هذه الظروف.

يغفل حديث السيد البرهان المسؤولية السياسية الملقاة على عاتقه باعتباره القابض على زمام السلطة المطلقة من ناحية عملية. فمفهوم المسؤولية عند ممارسة صلاحيات الحكم لا يتعلق بالإجراءات الجنائية ومخرجاتها وإنما يتضمن مسؤولية سياسية ذات شق أخلاقي لا يمكن التنصل منها. وهي في قوتها ليست اقل من المسؤولية القانونية بحال. وبمقارنة عابرة يتضح البون الواسع بين المعيار الذي اشترطه الفريق البرهان وهو وجود دليل يثبت أنه أصدر توجيهات منه لملاحقة المتظاهرين أو قتلهم، وبين النظرة المطلوبة لمفهوم المسؤولية الأشمل وفق معايير الحكم الراشد. وقد وضع الراشدون معايير للمسؤولية أعلى بكثير عن مجرد المسؤولية القانونية، ومن الذين ضربوا المثل في هذا المجال عمر بن الخطاب. إذ أنه أثر أن قَوْماً مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كانوا يَسَعَوْنَ إليه لتغيير حاكمهم لعدم رغبتهم فيه، فَقَالَ لهم: (لأُبْدِلَنَّكُمْ حَتَّى تَرْضَوْنَ ، وَلَوْ هَلَكَ حَمَلٌ مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ، ضَائِعًا لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ).

توجد في التاريخ الحديث عشرات الأمثلة التي تحمل فيها الحكام الذين التزموا بمبادئ الحكم الراشد المسؤولية السياسية وغادروا مناصبهم قبل أن يصدر ما يدل على مسؤوليتهم القانونية، وبأسباب تقل كثيراً عن مسؤولية مقتل ما يقارب مائة متظاهر في احتجاجات سلمية اعتراضاً على انقلاب عسكري. فعلى سبيل المثال وفي تاريخ غير بعيد أعلن رئيس وزراء مالطا جوزيف موسكات، عن استقالته من منصبه كرئيس للوزراء إثر تقديم أصابع اشتباه له بتدخله في التحقيق باغتيال إحدى الصحفيات، متحملاً بذلك المسؤولية السياسية قبل أن يثبت ما يؤدي إلى تحمله المسؤولية القانونية، رغم أنه رئيس وزراء جاء إلى السلطة على أصوات الناخبين ولم تحمله إليها دبابة.

وقبل فترة قريبة استقال رئيس أركان الجيش الاسباني ميغيل أنخيل فيارويا بعد صدور تقارير اتهمته بأنه استخدم سلطاته لمحاولة الحصول على لقاح فيروس كورونا قبل دوره، وقبلت وزيرة الدفاع استقالته. ورغم عدم اكتمال التحقيق في الحادثة وتأكيده أنه لم يحاول أبداً الحصول على شيء لم يكن من حقه، فقد برر استقالته من منصبه ليحافظ على سمعة الجيش الاسباني وصورته في أذهان المواطنين.

لا تتعلق المسؤولية السياسية لرئيس الدولة بوجود نص يقررها لأنها لا ترتبط بالخطأ أو تحمل التبعة فقط، وإنما تدور حول مقتضيات أخلاقية وموجبات الوظيفة العامة العليا، وتزداد هذه المسؤولية بمقدار السلطة التي يتم توليها. وبالنظر للواقع الماثل، فمع صدور قرارات الانقلاب في 25 أكتوبر تركزت السلطة التنفيذية والتشريعية في يد السيد عبد الفتاح البرهان وتداخل ذلك مع صلاحياته التي يمارسها حتى على السلطة القضائية. وهذا الوضع في مركزية سلطته وكثافتها لا يشبه في النماذج السياسية إلا ما ذكره الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (أنا الدولة والدولة أنا)، وهو ما يزيد من نطاق المسؤولية السياسية التي تقع على عاتقه.

1- من الناحية السيادية، فقد قام بإقالة مجلس السيادة المتفق عليه وفقاً لأحكام الوثيقة الدستورية، وعين منفرداً أعضاء مدنيين وعسكريين يمارسون صلاحيات مجلس السيادة دون أساس دستوري.
2- استفرد بتعيين وكلاء وزارات مفوضين عوضاً عن مجلس الوزراء الذي أقاله، وأصبح المشرف والرقيب على تنفيذ السلطة التنفيذية لمهامها، وصاحب الكلمة النهائية في الأعمال التنفيذية.
3- أصبح شريكاً أساسياً وصاحب سطوة على السلطة القضائية من خلال ممارسة صلاحية تعيين رئيس القضاء
4- في غياب السلطة التشريعية التي تمارس صلاحيات الرقابة على أداء الجهاز التنفيذي، بما في ذلك مهامه الأمنية التي تقتضي المحافظة على سلمية الاحتجاجات وصيانتها من أي مهددات أمنية، انتقلت هذه الصلاحية مباشرة لمجلس السيادة المعين من قبل رئيسه.

من الضروري كسر حاجز السلطة المطلقة التي يتمتع بها السيد البرهان من خلال إطار توافقي يؤدي إلى وجود بنية قانونية صالحة لإجراءات التحقيق وتحديد المسؤولية عن قتل الثوار عملا وليس مجرد أقوال مرسلة.

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
19 فبراير 2022

abuzerbashir@gmail.com
///////////////////////

 

آراء